06/11/2019

في معنى الردع وعلاقته بالطبع الاولى للبشر

مقال الاسبوع الماضي الذي تعرض للاختلاف التاريخي حول الطبع الاولي للانسان ، أثار جدلا غير قليل. ثمة قراء رأوا أن الخير هو الطبع الأصلي للانسان ، وثمة من قال بالرأي المعاكس. هذا الجدل لفت انتباهي الى مسألة متصلة بنقاش آخر يدور في بلدنا ، منذ صدور "لائحة الذوق العام" اواخر الشهر الماضي. وتضمنت اللائحة عقوبات مالية على سلوكيات غير لائقة عرفيا ، لكنها لم تصنف في الماضي كجنح او جنايات.
"Everything was fine until you insisted on accountability."

بيان المسألة على النحو الآتي: نفترض ان العقوبات التي يضعها القانون – أي قانون ، واي عقوبة – غرضها ردع الافراد عن القيام بالفعل المحظور. يهمني الاشارة هنا الى ان بعض العقوبات في التاريخ القديم كانت تستهدف الانتقام من الجاني ، كما ان البعض الآخر استهدف تمويل خزينة الحاكم. لكن هذه العقوبات لم تعد قائمة في عصرنا الحاضر.
خلاصة القول ان العقوبات التي يعرفها عالم اليوم ، غرضها (في الاعم الاغلب) هو الردع ، وفي نهاية المطاف تقليص الخروج على القانون او العرف الى أدنى مستوى ممكن.
حسنا.. ماهو معنى "الردع"؟ اي ما هي طبيعة الانعكاس الي تحدثه العقوبة في نفس الانسان ، بحيث يمتنع عن الفعل المحدد؟.
 اعلم ان بعض القراء سيقولون في انفسهم: هذا كلام زائد لا خير فيه ، لاننا في نهاية المطاف نتحدث عن "امتناع الفرد عن فعل بعينه" وهذا ما يحدثه الاعلان عن عقوبة ما.
اني أدعو هؤلاء السادة للصبر قليلا. لأن فهم المسألة قد يفتح أذهاننا على بدائل العقاب ، بل بدائل الردع بشكل عام. من المعلوم ان الردع ينطوي - بالضرورة - على نوع من القسر الخشن ، وربما المذل. والانسان يكره المخاشنة والاذلال ، ويفضل عليها المحاسنة والملاينة.
أقول هذا تشجيعا للقاريء العزيز على النظر في الشرح التالي من هذه الزاوية ، اي امكانية العثور على وسائل لمنع الافعال الخاطئة بالتوجيه اللطيف بدل القسر المذل.
لقد كنت افكر في هذه النقطة حين التقطت أذني جانبا من حديث لمفكر معاصر ، يشير فيه الى الفارق الواسع بين المحاسبة accountability والمسؤولية responsibility. الانسان محاسب على افعاله ، كما انه مسؤول عنها.
ترتبط المحاسبة بعقلانية الانسان. الانسان كائن عاقل بمعنى انه يحسب العواقب المترتبة على افعاله ، فيختار الفعل الذي ينتهي الى عواقب حسنة ، ويتجنب الفعل الذي ينتهي الى عواقب سيئة. والافعال الحسنة والسيئة هنا ، هي ما تقبله المجتمع كفعل حسن ، وما رفضه كفعل قبيح. كما ان العقاب قد يكون جسديا او ماليا ، وقد يكون مقتصرا على القطيعة والانكار. تتمظهر العقلانية اذن حين يكون الانسان عضوا في مجتمع او مدينة ، والافعال المعنية هي تلك التي تؤثر على اعضاء آخرين او على املاك مشتركة لاعضاء المجتمع.
أما  المسؤولية فترتبط بحقيقة ان الانسان كائن اخلاقي. اخلاقي بمعنى انه يمتنع – من تلقاء نفسه – عن الافعال التي يراها ضارة بالغير ، او غير لائقة او مقبولة ، حتى لو لم تكن ضارة بشخص معين. ويقدم على الافعال التي تفيد الناس حتى لو لم يستفد منها هو ذاته.
دعني اقول كخلاصة: ان من يرى الشر طبعا اوليا للبشر ، ينظر للردع كمحرك لعقلانية الانسان. ومن يرى الخير طبعا أوليا للانسان فهو ينظر للردع كعامل استثارة لاخلاقية الانسان.
ولازال في الحديث بقية نعود اليها في وقت آخر ان شاء الله.
 الشرق الاوسط الأربعاء - 9 شهر ربيع الأول 1441 هـ - 06 نوفمبر 2019 مـ رقم العدد [14953]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...