25/10/1996

جدل السياسة من الشعارات الى البرامج


لاسباب شتى انضم تطبيق الشريعة الى قائمة المواد التي يتصارع حولها السياسيون في العالم العربي ، شأنها في ذلك شأن قضايا كثيرة ، بعضها مصنف كضرورة يومية ، مثل توفير الخبز والكرامة ، وبعضها اقرب الى الاحلام منه الى  الاهداف العملية ، مثل الوحدة الشاملة والنهوض الحضاري .

ويبدو لي ان الاطراف التي تتصارع حول تطبيق الشريعة ، مستفيدة كلها بصورة او باخرى من اعلان مواقفها ، بغض النظر عن مقدار ما يبذله هذا الطرف في العمل لتطبيق الشريعة ، او ما يبذله ذاك لاعاقتها ، ولذلك فلا ينبغي لنا ان نتوقع انتهاء هذا الجدل بحوار بين الطرفين ، او بجولة مساع حميدة يبذلها اهل الخير من المصلحين ، كما لا ينبغي ان نتوقع هزيمة احد الطرفين بالضربة القاضية ، فلا انتصار الذين يسعون الى تطبيق الشريعة ، سيوقف الطرف الاخر عن المعارضة ، ولا معارضة هذا الطرف سيثني الاسلاميين عن هدفهم .


 في ايران مثلا التي اقامت نظامها السياسي على هذه القاعدة ، لا يزال الجدل محتدما حول معاني التطبيق المستهدف ، وثمة بين الايرانيين ـ ومنهم علماء بارزون ـ من يشكك في اسلامية بعض التطبيقات ، ومثل ذلك ماوجدناه في السودان التي تتبنى حكومتها رسميا تطبيق الشريعة  ، والتي نالت بعض سياساتها نقدا من جانب قادة حركات اسلامية وعلماء في الشريعة  .

 وعلى الجانب الثاني وجدنا  الاقطار التي شنت حكوماتها حربا على الاسلاميين ، قد ابتليت اكثر من غيرها بالفتن ، وتحول الجدل اللفظي الى حوار بالرصاص ، فلا انتصار الاسلاميين هناك اخرج منافسيهم من الحلبة ، ولا قمعهم هنا عاد على هؤلاء بالاستقرار  والسلامة ، واستحضر هنا اشارة الامام علي بن ابي طالب الى هذا المعنى ، حين اقترح بعض اصحابه تصفية الخوارج الذين تمردوا عليه في معركة صفين ، فوبخه الامام قائلا (انهم ـ الخوارج ـ  لا يفنون ، انهم لفي اصلاب الرجال وارحام الامهات الى يوم القيامة) (ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة 3/128) وقد اظهرت تجارب البشرية على امتداد تاريخها الطويل ، ان الصراع ـ ولاسيما صراع الافكار ـ لا يتوقف ، بل يستبدل العناوين بحسب اختلاف المراحل ، واختلاف توجهات الناس في ميدانه .

الهروب من التفصيل

يتضح من مجريات الجدل حول تطبيق الشريعة ان اطرافه يدورون ـ غالبا ـ حول العناوين العامة والكليات ، ومن المهم ـ لتصحيح مسار الجدل ـ  نقل الجدل حول الموضوع المطروح للنقاش الى تفاصيله ،  فالذين يدعون الى تطبيق الشريعة مطالبون ببيان مواقفهم التفصيلية ، كاطراف سياسية ، من كل قضية راهنة ، وعرض البدائل التي يقترحونها ، كما ينبغي للذين يعارضون هذا الطرح عرض الادلة على اضراره وفائدة الطروحات التي يقترحونها .

وتظهر اهمية الخروج من مقام الكليات الى مقام التفصيل ، في علاقة الجمهور بكل من طرفي الصراع ، فالاقتصار على العناوين العامة يستثير حماسة الشارع مع هذا الطرف او ذاك ، لكنه ـ الى جانب الحماسة ـ يغتال الوعي او يحجّمه على الاقل ، ويحول الاستقطاب من محور الافكار والبرامج الى محور الشخص والجماعة ، وفي احيان قليلة الى الشعار الغامض المعاني والانعكاسات ، وهو بهذه الممارسة يعزز اسلوبا من الاحتيال السياسي ، اشتهر في العالم العربي وادى الى سرقة طموحات الناس ، او تزييف اهتماماتهم ، بابعادها عن حقوقهم العاجلة الى امانيهم القابلة للتاجيل ، ولازلنا نتذكر ان شعارات مثل (كل شيء من اجل المعركة) و ( ... من المحيط الهادر الى الخليج الثائر) قد ساعدت في تطبيع ـ ومن ثم تشريع ـ سيطرة العساكر على الحياة السياسية في العالم العربي كله ، كما ان شعار (حماية البوابة الشرقية للوطن العربي ) كان تمهيدا لقرار تدمير العراق والكويت معا ، قرار التدمير الذي جرف في طريقه ايضا الكثير من الثوابت والمفاهيم والمشاعر ، التي طالما كانت رهانا للعرب ورأسمال يعتدون به ، وقد جرى في كل الاحوال الغاء الشعب وحقوقه ودوره ، تحت مبررات مماثلة ، او تحت شعار اولوية الامن والاستقرار  .

ولهذه الاسباب وغيرها فان يصعب بناء علاقة تفاعل ايجابي بين الجمهور والنخبة السياسية ، احزابا او شخصيات ، اذا كانت دعوة هذه النخبة ستقتصر على الشعارات العامة في عملها السياسي .
 اذا كان الحزب الفلاني يريد اقامة الديمقراطية من اجل الناس وليس من اجل نفسه ، واذا كان الحزب العلاني يريد تطبيق الشريعة من اجل الدين وليس التسلط ، فانه ينبغي لكل منهما ان يخبر الناس بالتفصيل عن السياسات التي يسعى لتحقيقها ، وعن الحلول التي يريد يريد تطبيقها ، واذا كان غيرهم  يعارض تطبيق الشريعة لسبب ما ، او يرى في الديمقراطية والشورى عبئا على اقتصاد البلاد او خطرا على استقرارها ، فليعرض بدائله ، وليعلن عن تفاصيل برنامجه ومعالجاته المقترحة للمشاكل التي يدعي القدرة على حلها ، وليبين تميزها عن تلك التي يعارضها  ، بدلا من فرض صورته الشخصية او اشغال الناس بالعناوين العامة والشعارات .
الراي العام 25 اكتوبر1996

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...