قد يكون التركيز في الدعاية السياسية
على الشعار العام دون برامج العمل ، مدخلا الى تزييف او تحريف الوعي الشعبي ، ذلك
ان الشعار يختصر اجمل ما يتمناه الناس ، فينصب تركيزهم العاطفي على اللغة متأثرين
بجماليات الاسلوب ، بدلا من التأمل في الفجوة العريضة التي تفصل الشعار عن
تجسيداته الواقعية .
تهدف الدعاية السياسية ـ كما هو متفق
عليه ـ الى اقناع الجمهور بتسليم قياده الى شخص معين او جماعة سياسية معينة ، أي
التخلي عن بعض ارادته وتكثيفها في اراداة الداعي ، باعتباره ممثلا للجمهور او
نائبا عنه ، ومن المفترض ان يكون الداعي مخلصا في وعوده بتحقيق الاماني التي تعبر
عنها شعاراته ، لكن الاخلاص وحده لايكفي ، ان الاخلاص لايزيد عن كونه نية ، يلزمه
بعدها توفير الامكانات اللازمة لانزال الاماني من عالمها المثالي المجرد الى ارض
الواقع ، فينبغي ان يكون الظرف ملائما ، وينبغي ان يتمتع الداعي بالامكانات
المادية والعلمية ، هذا على افتـراض كونه مؤهلا ـ من الناحية الذاتية والاجتماعية
ـ للقيام بهذه المهمة .
واذا نجحت الجماعة السياسية في عرض
برنامج عمل تفصيلي ، بدلا من التركيز على الشعارات والامينات ، فانها ستحقق مكسبا
عظيما لنفسها وللايديولوجيا التي تنطلق منها ، مكسب يتجلى في تحقيق الربط الضروري
بين المباديء النظرية والمصالح الواقعية ، بين طموحات الناس وآمالهم وبين ممارستهم
الحياتية العادية ، وعندها فان الذين ايدوها سيكونون اكثر من اتباع تحركهم العاطفة
ويجرون وراء الامل ، سيصبحون شركاء يتحركون عن وعي بما يستهدفون ، ومتضامنين في
ايمان ومعرفة بالطريق الذي يسلكون ، سوف تستفيد الجماعة من هذا الوعي الذي اوجدته
، في تثبيت نفسها كجزء من ثقافة المجتمع وتاريخه ، لا كنقطة ضوء عابرة في مرحلة من
مراحل التاريخ.
ونلاحظ من خلال استقراء التجربة
العربية المعاصرة ، ان بعض الجماعات السياسية قد تحولت من صورتها الاولية كتعبير
عن تيار اجتماعي محدد ، الى زعامة تقليدية تمثل المجتمع كله او اكثريته ، كما هو
الشأن بالنسبة لحركة فتح الفلسطينية ، التي نجحت رغم كثرة الانشقاقات التي اصابتها
، في تحويل نفسها من حزب اعتيادي الى قاطرة للحياة السياسية الفلسطينية ، ذلك
لانها نجحت ـ مع كل ما يقال عنها من مؤاخذات ـ في الربط بين الامال التي تراود
نفوس جمهورها ، بعض الامال على الاقل ، وبين سياساتها اليومية ، وبالتالي علاقاتها
اليومية مع الجمهور .
تسييس
الجمهور
ينبغي لكل جماعة سياسية ان تضع تعميم
الوعي في اعلى سلم اولوياتها ، تعميم الوعي يعني بصورة محددة تسييس عامة الناس ،
جمهورها الخاص على اقل التقادير ، وتحريرهم من الارتباط العاطفي بالحلم المجرد ،
الى تفهم ودعم السياسات العملية التي تستهدف تحقيق ما يمكن تحقيقه من الاحلام ، ثم
توسيع نطاق اهتمامهم من الحاجات الشخصية ، او المتعلقة بعدد محدد من الناس ، الى
الحاجات العامة التي تتعلق بجميع المواطنين ، واخيرا مساعدتهم على اكتساب القدرة
النظرية على تحديد ما يريدون وما لا يريدون ، ما هو حاجة حقيقية يكافحون لاجلها ،
وما هو مجرد حلم ، يغرقون في بحوره الرومانسية اثقال همومهم .
بالنسبة للحركة الاسلامية فان هذا
الموضوع يتمتع باهمية مضاعفة ، ذلك ان الانحدار الذي منيت به الثقافة الاسلامية في
العصور السابقة ، قد اثمر انفصالا شبه كامل بين الصورة المثالية للحياة في هذه
الثقافة ، وبين واقع الحياة الذي يعيشه المسلمون في جميع اقطارهم ، نحن نتحدث ـ
مثلا ـ عن مجتمع القوة الذي يريده الاسلام ، وليس في اقطارنا مجتمع واحد يمكن وصفه
بالقوة ، قياسا الى مجتمعات العالم المعروفة بهذا الوصف ، ونتحدث عن التسامح بينما
نفتقر تماما اليه ، على المستوى النظري فضلا عن الممارسة العملية ، الا نادرا ،
ونتحدث عن الحضارة التي يمكن ان يقيمها الايمان ، ونحن نعيش على استهلاك منتجات
حضارة الاخرين .
وقد يظن احد ان في الامر اضطرارا ، لكن
الحقيقة اننا غير مضطرين الى هذا ، الا بقدر ما نتهاون في البحث عن مخارج من حالنا
البئيس ، بكلمة اخرى فان الاضطرار ـ على فرض وجوده ـ هو ثمرة لانعدام ارادة الخلاص
في نفوسنا ، او عدم تحول ارتقاء الرغبة فيه ، من مستوى التمني الى مستوى التعقل
والعمل .
ندعو الله مرات كثيرة في كل صباح ومساء
، ليهدينا الى الطريق المستقيم ، ولو كنا على هذا الطريق لتغير حالنا الى احسن حال
، نحن اذن نتمنى ان يهدينا الله سبيل الخلاص ، لكن ما نبذله من جهد للانتقال
لايتناسب وحجم المهمة ، وهذا نموذج واضح للانفصال الحقيقي بين ما نرغب فيه وما
نعمل لاجله .
وبسبب مرور الزمن على الانفصال بين
المثل التي تدعو اليها الثقافة الاسلامية ، وبين انماط الحياة التي يعيشها
المسلمون ، فقد ازدادت المسافة بين المثال وبين الواقع ، فتسامى المثال ، بقدر ما
هبط الواقع ، ثم تجرد وتحول من ارادة وهدف الى مجرد حلم ، لهذا فان كثيرا من الناس
لا يتحدثون عن اقامة الشريعة باعتباره هدفا موضوعيا ، يتمثل في اقامة علاقات جديدة
بين الناس ، وبين الناس من جهة والاشياء من جهة اخرى ، وبالتالي فانهم لا ينظرون
الى مشروع ذي عناصر مادية ، قابل للفشل والاعاقة ، بقدر ما هو قابل للنجاح ، بل
يتحدثون ـ في الحقيقة ـ عن حلمهم برؤية نموذج مصغر للجنة على الارض ، حيث يصبح
الناس والاشياء في اجمل صورة يمكن لهم ان يتخيلوها ، وحيث يتدخل الغيب في كل لحظة
، فيتحول الجهد البشري الى عامل ثانوي في تصريف اسباب الحياة .
الراي العام 26 اكتوبر 1996
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق