حين بدأت بالكتابة عن
قضايا الحركة الاسلامية المعاصرة في هذه الجريدة ، ان لا يرتاح اليها بعض القراء ،
سيما الذين يتوجسون خيفة من الجدل في الامور التي يعتبرونها مقدسة او فوق مستوى
التناول في الصحافة العامة ، لكني اشعر الان بالارتياح لان بعض الذين اعتادوا على
اصدار الاحكام قبل القراءة تعاملوا هذه المرة بلطف بالغ ، فكتب بعضهم الي ناقدا ما
عرضته من افكار ، اومدافعا عن مواقف كنت قد تناولتها بالنقد ، وتحدث بعض عاتبا علي
تناول الحركة الاسلامية والمشروع الاسلامي كما لو كان نطيحة ، في الوقت الذي اصبح
هذا المشروع هدفا لسهام الاعداء شرقا وغربا.
ومع اني واثق تمام الثقة في
ان اي كاتب لا يمكن ان يكون بلا اخطاء ، ولا بد اني قد ارتكبت اخطاء في مكان ما ،
الا اني أجد ان هذه المقالات قد ادت بعضا من اغراضها ، فهي على الاقل شجعت قليلا ممن
اتجه الحديث اليهم ، على اعادة النظر في مفاهيم ، كانوا يحسبونها من قبل في عداد
المسلمات .
كان ينبغي ان يكون المقال
الذي بين يدي القاريء ، هو الاول في سلسلة حول مشروعية نقد الفكر الاسلامي
والمشروع الاسلامي ، وكنت ازعم ارساله الى الصحيفة قبل اي مقال آخر ، فاخترت له
عنوان (نقد المشروع الاسلامي) لكن احد الزملاء الذين اعتدت تبادل الراي معهم ، وجد
ـ حين عرضت عليه المقالة ـ ان العنوان
ينطوي على قدر كبير من الفجاجة ، ذلك ان معظم القراء لا يوافقون على نقد المشروع
الاسلامي ، وسيظن بعضهم ان المقصود هو نقد الاسلام بذاته ، فمعظم الناس لا يفرق
بين الاسلام في صورته النظرية الاصلية ، وصورته بعد ان يعمل فيه المجتهدون عقولهم
، فيحولونه الى مشروع للتطبيق مرتبط بالزمان والمكان ، وقد دعاني ذلك الى عرض
الفكرة مجددا على زملاء آخرين ، وجدت عندهم نفس الانطباع ، الامر الذي دعاني الى
تأخير ارساله للنشر ، مع انه اكد لي اهمية الدعوة الى طرح المشروع الاسلامي في
صيغه التطبيقية ، بعد ان بقينا ردحا طويلا من الزمن نعرضه للناس كاقوال مجردة ،
مثالية تنحو صوب الامنية ، ويسيطر عليها المضمون الاخلاقي ، وتخاطب الفرد ، اكثر
مما تتجه الى صور التطبيق في اطار القانون الموجه الى الجماعة السياسية ، ان طرح
المشروع الاسلامي في صيغته القابلة للتطبيق ، يستوجب ابتداء اعتباره مشروعا بشريا
متاحا للنقاش ، لا كلاما منزلا من عند رب السماء .
منذ ان وجد البشر على هذه
الارض ، وهم يسعون لوضع المنهج الذي ينظم امور حياتهم ويشكل سبيلهم الى التقدم
والمدنية ، وشهدت العصور الحديثة ظهورا
متزايدا للعقائد والايديولوجيات ، التي تدعي القدرة على القيام بهذه المهمة ، لكن
ايا من هذه الايديولوجيات لا يدعي قدرته على تجاوز زمنه ، ولو ادعى هذا لما اخذ
على محمل الجد ، ذلك ان الذين وضعوها متأثرون ـ قهرا ـ بخلفيتهم الثقافية ، التي
تتشكل في ظروف الزمان والمكان المعين ، وهي لهذا السبب غير قادرة على معالجة
الموضوعات المماثلة في الظروف الزمانية او المكانية المختلفة
، خاصة بالنظر الى اختلاف
المبررات التي تقوم عليها الايديولوجيا البشرية ، المبررات التي تشكلها حاجات
المحيط المحدود زمانيا او جغرافيا .
اما بالنسبة للاسلام فان كل
مسلم يعتقد ان الدين كما انزله الله ، قادر على عبور الزمان والمكان ، ذلك ان الذي
ابدعه ليس متأثرا بظروف معينة او اوضاع معينة ، فهو خالق الكون والمكان والمهيمن
على الحياة والازمان .
ويتمتع الدين الاسلامي
بقايلية عظيمة للتجدد والبقاء شابا فعالا ، مهما تطاول الزمن او بَعُد زمن الوحي ،
وبهذه القدرة على التجدد ، فانه مؤهل للتعامل مع مشكلات الانسان المعاصرة ، بذات
الكفاءة والفاعلية التي عالج بها حاجات الانسان قبل اربعة عشر قرنا من الزمان .
ان السر في هذه القدرة يكمن
في تعالي النص الديني على الافهام البشرية ، المرتهنة ـ بالضرورة ـ لظروف الزمان
والمكان ، فاذا ابقينا النص في تجريده ، فانه سيتيح لنا امكانية الفهم المتجدد في
كل زمن ، اما اذا قيدناه بقيود البيئة فسيكون ـ كسائر الايديولوجيات البشرية ـ
مؤقتا ومحدودا ، ومرتهنا للشروط الخاصة بتلك البيئة ، وفي هذا يروى عن عبد الله بن
عباس الذي اشتهر بلقب ترجمان القرآن قوله
( لا تفسروا القرآن فان الدهر يفسره) وفي
هذا القول اشارة ذكية الى الحقيقة التي لا يمكن انكارها ، حقيقة ان فهم الاجيال
المتاخرة للقرآن ستكون اعمق واشمل من فهم الاجيال المتقدمة ، على الرغم من قرب هذه
لزمن النزول وبعد الاخرى عنه .
ان فهم القرآن في زمن سيكون مشروطا بمستوى
العلم والعقول في ذلك الزمن ، ونعلم ان تقدم الزمان يتوازى غالبا مع تقدم العلم
ونضج العقل البشري ، واذا كان الاولون اقدر على فهم المؤدى المباشر للنص في احكام
العبادات ذات الطبيعة الثابتة ، فان معظم توجيهات القران واحكامه لا تتعلق
بالعبادات ، بل تتعلق بمجمل نواحي الحياة ، وفهمها محكوم بمستوى حياة الناس
وعقولهم في كل حقبة ، ويتفق الاصوليون على ان الايات التي تتضمن احكاما مباشرة لا
تتجاوز 500 آية ، تعادل نحو ثمانية
بالمائة فقط من مجموع القرآن الذي يحوي 6666 آية ، وقد روى البيهقي بسنده عن
الامام جعفر الصادق عليه السلام قوله في شأن القرآن (أن الله تبارك وتعالى لم
يجعله لـزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، فهو في كل زمان جديد ، وعنـد كل قـوم
غض إلى يـوم القيامـة) ومنه يتضح ان كل عصر يفهم القرآن فهما جديدا ، يتجاوز ما
فهمه العصر السابق ، فيبقى القرآن موردا غضا في كل عصر .
ويبدو لي ان هذه النقطة هي
محط الجدل بين علماء الاسلام ورجاله ، طوال الازمنة التالية لظهوره ، فنادرا ما
وجدنا جدلا في النص ذاته ، جدل ينطوي على انكاره او انكار فائدته ، وفي الحالات
التي بادر احدهم الى تشكيك من أي مستوى في النص ، فقد جرى طرد مادة الجدل من
التيار واعتبرت اجنبية أو شاذة ، ونتيجة لهذا الحفاظ الشديد ، فقد بقي النص الديني
(القرآن والسنة) محافظا على مكانته ، كمصدر اول للتشريع وميزان يرجع اليه عند
الاختلاف .
لكن في المقابل فقد دار
الكثير من النقاش واحيانا النزاع حول فهم النص ، وفي بعض الاحيان قام بعض
الاسلاميين ، رجال علم او رجال سياسة ، بنفي غيرهم او محاربة رايه انطلاقا من ان
فهمهم للنص هو الفهم الوحيد الصحيح او الصالح ، وانه الوحيد المعبر عن مراد الخالق
والمتمتع بالشرعية المطلقة .
ان ادعاء التفرد بمعرفة
النص الشرعي او ادراك مراد الخالق ، هو نوع من التجاوز على مقام الخالق سبحانه ،
فهو يفرغ المراد الرباني في سلة الفهم البشري القاصر ، او يجرد الحكم من مجاله
التطبيقي الواقعي ويجعله متعاليا مستحيل التطبيق ، واجد من المناسب هنا استحضار
الاشارة القوية للامام على بن ابي طالب ، الى هذا المعنى في رده على قول الخوارج ،
حين قالوا بان (لاحكم الا لله) ونادوا برفض تحكيم الرجال في دين الله ، فرد الامام
عليهم بالقول ( كلمة حق يراد باطل . نعم إنـه لاحكم إلا للـه ، ولكن هـؤلاء
يقـولـون لا إمـرة إلا للـه ، وانه لابد للناس من أمير بـر أو فاجـر يعمل في إمـرتـه المـؤمن ، ويستمتع فيها الكافر
، ويبلغ الله فيها الاجل ، ويجمع به الفيء ، ويقاتل به العـدو ، وتأمن به السبل ،
ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح به بـر ويستـراح من فاجـر ) فميز امير المؤمنين بين الحاكمية العليا
الثابتة لله سبحانه ، وبين الحكم المباشر في ميدان الحياة ، المتروك لاجتهاد اهل
الاجتهاد ، ان هذا التمييز ضروري لوضع الحد بين ما يقبل على اطلاقه وما هو قابل
للنقاش او الرد .
الثـــــوابت والمـتـغيرات
ثمة احكام تفصيلية منصوصة ،
يتعلق معظمها بالعبادة واحكام الاسرة ، او ما يسمى اليوم بالاحوال الشخصية ، وفي
هذه فان مجال الاجتهاد محدود ، على الرغم من ان معظم العمل الفقهي ، منذ تاسيس علم
الفقه في اواخر القرن الثاني الهجري والى
اليوم ، قد دار غالبا حول محور العبادات والاحوال الشخصية ، بخلاف جانب المعاملات
الذي ينتظم تحت عنوانه الجزء الاعظم من امور الحياة ، فقد تركه المشرع لاجتهاد اهل
الاسلام في مختلف عصورهم ، بعد ان وضع قواعد عامة ، منطقية ومنسجمة مع العقل الطبيعي
لاعتمادها في عملية الاجتهاد .
ومع اعتبار امكانية
الاجتهاد المستند الى النصوص والقواعد الشرعية ، فان بوسع المسلمين الاطمئنان الى
رحابة افق التشريع واتساع امكاناته .
على ان الامر لم يبق كما
اراد له المشرع ، فمع التطورات السلبية التي مرت بها دولة الاسلام ، ولاسيما مع
انحسار الشورى ، التي تمثل التجسيد الاوسع والاعلى للاجتهاد في الشأن العام ، فان
الاجتهاد قد انكمش الى حدوده الدنيا واصبح متمحورا حول العبادات والاحوال الشخصية
، التي لا تتيح كثرة المنصوص فيها فرصا
واسعة للاجتهاد ، بل ان تكلف الاجتهاد فيها قد ادى الى تضخم فقه الثوابت بموازات
انحسار شبه كامل لفقه المتغيرات ، الامر الذي ادى بالنهاية الى تجميد المعرفة
الدينية وتاخير الفقه عن زمنه ، لا سيما في الامور غير العبادية .
من ناحية اخرى فان انعدام
الشورى ، وغياب حرية التعبير عن الراي منذ نهاية الخلافة الراشدة ، قد غيب الجدل
الفقهي في الامور العامة ، واصبح فرض الراي الواحد متعارفا ومن ثم مقبولا ، وشهدنا
في اوقات مختلفة في العصر الاموي والعصور التي تلته ظهور تحالفات بين علماء
وسياسيين ، تعمل على فرض راي واحد وقمع ما عداه ، وبالتالي فان تداول الراي الذي
هو اساس النقد ، قد اصبح ممنوعا بل وسببا لتعريض صاحبه لافدح الاخطار .
وفي الوقت الراهن فان هناك
الكثير من الاسلاميين ، من الجيل السابق او من الاجيال الجديدة يقبلون ، بل
ويمارسون قمع الراي الاخر ويمنعون تعرض الاخرين لارائهم بالنقد والمناقشة ،
باعتبار هذه الاراء مجسدة لصحيح الدين وحقيقـته ، وباعتبار نقدها انحرافا عن الدين
او تحديا له ، ويبدو ان الامر جدي الى درجة ان احدا من الاسلاميين لا يجرؤ على طرح
راي جديد او اجتهاد غير مسبوق ، خشية ان يرمى بالابتداع أو الانحراف عن الطريق
القويم .
ولهذا فانه من الضروري
التاكيد دائما ، على ان فرض راي او اجتهاد او فهم محدد للنص على الاخرين ،
باعتباره دينا ، سوف يؤدي بالضرورة الى
سجن النص الديني الواسع الافق والعابر للزمان والمكان ، في قفص الفهم البشري
المحدود الافق ، والمرتهن لشروط الزمان والمكان .
ان التاكيد على التمايز بين
الدين وفهم الدين ، بين النص وتفسير النص ، بين الحقيقة المجردة التي لا يعلمها
غير الخالق والاجتهاد الذي تتكلفه عقول
البشر ، هذا التاكيد يبدو ضروريا لتخليص الدين من قيود البيئة والزاماتها ، كما
انه ضروري لاتاحة الفرصة دائما لتجديد الدين ، وجعله فعالا في مواجهة الحاجات
المتجددة مع الزمن .
هذا التمايز الضروري يعني
اعتبار التفسير والمعرفة القائمة على الاجتهاد وعمل العقل موضوعا ثابتا للنقد
والجدل ، بكلمة اخرى فان النقد الذي نتحدث عنه لا يتجه الى الدين ، بل الى فهم
البشر له ، وهو لا يتجه الى النص بل الى تفسير المفسرين له .
الراي العام 23 فبراير 1997
مقالات ذات علاقة
-------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق