02/12/2011

المسالة الطائفية في المملكة :دعونا نتجاوز الفشل


ورقة نقاش قدمت لندوة "دور التنوع المذهبي في مستقبل الخليج العربي" التي اقامها منتدى العلاقات العربية والدولية – الدوحة 30 نوفمبر – 2 ديسمبر 2011

ملخص الورقة:
تستهدف هذه الورقة وضع اطار تحليلي للمسألة الطائفية في المملكة العربية السعودية. وتبدأ بتحديد الاطراف المشاركة في هذه المشكلة من خلال التمييز بين ثلاثة انواع من النزاع يلعب الدين دورا محركا فيها: وهي الخلاف العقيدي والفقهي ، والتنازع على النفوذ الاجتماعي ، والنزاع على مطالب سياسية. 
تصنف الورقة المسألة الشيعية ضمن النوع الثالث. وتعتبرها نزاعا حول مطالب سياسية بين الشيعة كمجتمع وبين الدولة ، فيما تعتبر مشاركة الاطراف الاخرى في هذا الصراع ثانويا او ملحقا باحد الطرفين الرئيسيين. تصف الورقة موقف الدولة كتعبير عن طائفية سياسية ، تتجلى في "استعمال الاجماع الديني الخاص بشريحة من المجتمع كارضية للولاء السياسي ، يبنى عليها ايضا نظام لتوزيع المصالح والمنافع ، بدلا من البناء على ارضية المواطنة".
تشدد الورقة على ان الخلافات العقيدية والفقهية لا تمثل تحديا جديا او تهديدا داهما. ولعل الانشغال بها ناتج عن غياب الاطارات المفتوحة والقانونية للجدل السياسي الصريح . التحدي اليومي الذي يواجه كل سعودي ليس تبني مواطنيه الاخرين عقيدة مختلفة او فقها مغايرا ، بل عدم تساوي الفرص ، والانتقائية في تطبيق القانون ، وكون حرياته غير مضمونة.
عالجت الورقة بعد ذلك حدود المسالة الطائفية في المملكة ومجالها من خلال المقارنة مع التصنيف العلمي لقضايا الاقليات الاثنية  التي تعتبر قابليتها للانفكاك عن المجتمع الوطني محددا لكيفية النقاش فيها. واوضحت في هذا السياق ان مشكلة الشيعة السعوديين تتمحور في التمييز الطائفي وحرمانهم من الحقوق المدنية التي يتمتع بها او يجب ان يحصل عليها بقية السعوديين.

 وتقترح لمعالجة مشكلة التمييز ثلاثة سيناريوهات : أ) اداري – قصير المدى ، يستهدف تخفيف الكراهية ، ومنع الاستغلال المبرر طائفيا. ب) قانوني – متوسط المدى يقر المساواة دون الحريات العامة والمشاركة السياسية. ج) دستوري – طويل المدى ينهي المسألة الطائفية جذريا.
وتدعو في الختام القوى الاهلية الى نقاش جدي للمسألة واعتبارها مشكلة وطنية متصلة عضويا بمسائل حرجة مثل الوحدة الوطنية والهوية الجامعة والاصلاح السياسي والسلم الاهلي.
يهمني جدا الاشارة الى ان بعض ماورد في المقالة قد يفهم كانحياز مسبق او ربما مناف للحيادية المفترضة. لا ينفي الكاتب ان جانبا من المادة ينطوي على دفاع ذي طبيعة سياسية عن حقوق الشيعة السعوديين ، لكن ليس بالضرورة دفاعا عن مذهبهم او انحيازا مضادا لغيرهم ، كما لا ينفي الكاتب انحيازه لتيار الاصلاح في المملكة ونقده للتيار المضاد للاصلاح.
------------------------------------------------------------------------------------

المسالة الطائفية في المملكة :

دعونا نتجاوز الفشل

توفيق السيف *
اشكر في البداية صديقى د. محمد الاحمري الذي اتاح لي شرف الحضور بينكم ، واشكر القائمين على منتدى العلاقات وداعميه والمشاركين في اعماله. 
نحن اليوم ابعد ما نكون عن ظروف العام 1991 حين وجه الشيخ سفر الحوالي رسالته المشهورة الى "هيئة كبار العلماء" محذرا اياهم مما وصفه بمؤامرة عالمية لاقامة قوس شيعي - مجوسي - نصراني يمتد من باكستان الى مصر ، هدفه اقامة دولة مجوسية تعيد الاستعمار الى بلاد المسلمين[1]. ونحن بالتاكيد ابعد مما كنا عليه في 2006 يوم وصف الرئيس المصري الوضع في العراق بانه حرب اهلية بين الشيعة والسنة[2]. اليوم صرنا نعرف ان قوس الحوالي لم يكن على طاولة اي من قادة العالم ، عدا الشيخ سفر نفسه، كما لم تكن الحرب الاهلية على طاولة احد غير الرئيس مبارك.
لعلنا اليوم اسعد حالا. او ينبغي ان نكون اسعد حالا. على الاقل لاننا نشهد انتصار الانسان على اوهام الايديولوجيا المتحجرة. جمهور الناس ، العامة منهم والنخبة ، الناشطون والمتفرجون ، المحافظون والحركيون ، ساهموا جميعا  في ابراز الوجه الاخر للانسانية ، الوجه الذي لم يلتفت اليه اولئك الذين صنعوا في خيالهم مستقبلا للعالم تصنعه حروب ايديولوجية وصراعات طائفية ، ثم قدموه لنا كاستراتيجيا منجزة يزعمون ان اقوياء العالم وضعفاءه قد انخرطوا – فعليا – في وضعها وتصميمها.
لا شك اننا اليوم اسعد حالا. لا شك اننا اليوم اقدر على مناقشة مشكلاتنا باذهان اكثر صفاء واقل توترا.

(  I  )

طبيعة النزاع الطائفي

يؤسفني القول ان الحدود الضيقة للحياة السياسية والتقييد الصارم لحرية التعبير اثمر عن بقاء الثقافة السياسية في المملكة ابتدائية وفقيرة ، حتى بالمقارنة مع اقل الدول نموا. وجدت هذا جليا في المناقشات التي ادارها بعض رجال الدين والناشطين في التيار الديني حول المسألة الشيعية. ففي جميع هذه الكتابات تجد خلطا مريعا بين تصورات عن واقع الشيعة السعوديين ، وبقية الشيعة ، وبين هذا الواقع المتصور ومعتقداتهم وارائهم ، بين قضايا قديمة ومعاصرة ، بين السياسي والفقهي والاجتماعي .. الخ.  وفي كل هذه الكتابات كان الشيعة يعرفون كاتباع لمذهب مخالف ، لا كمجتمع ومواطنين ، وكان المحور الرئيس: ماهو موقفنا كاصحاب مذهب من مخالفين مذهبيا. نادرا ما سأل احد هؤلاء الكتاب نفسه: ماهي حقيقة الموضوع ، ونادرا ما ناقش الشيعة انفسهم في تصورهم عن طبيعة المشكلة. وبطبيعة الحال فانه في الغالب لم يفكر في الموضوع من زاوية حقوق الانسان وشراكة الوطن ومبدأ المواطنة الخ.
هذا يدعوني للبدء بتحديد طبيعة المسألة الطائفية في المملكة ، لعلنا نستطيع تقديم نموذج مناسب للتحليل. كل نزاع في المجال العام هو – بالضرورة – تنافس بين فاعلين سياسيين حول مصالح قائمة او متخيلة، سواء ادرك كل طرف طبيعة وضعه ودوره ام لا ، وسواء كانت المصالح قابلة للتحديد المادي ام لا. من المهم عند مناقشة اي موضوع ، لا سيما الموضوعات المثيرة للجدل ، التاكيد على اطار النقاش وهدفه ونوعية المقاربة. ولهذا السبب فسوف اعرض تعريفات للمسالة الطائفية ، تليها المقاربات المعتادة في مناقشة الموضوع الطائفي ، ثم اقترح ما اظنه الاصلح لبحثنا الحاضر.
1-النزاع الطائفي باعتباره خلافا فكريا – مذهبيا :
ينطبق هذا التعريف على جدالات المدارس الدينية ، حيث يصنف اجتهاد معين في العقيدة او الفقه كموضوع رئيس للخلاف، وتصنف المدرسة القائمة على ذلك الاجتهاد ، كمحور لعلاقة اتباعها وصيرورتهم "جماعة" متمايزة عن الجماعات الاخرى. حين تتصارع جماعات دينية حول اجتهاداتها المتباينة ، فان الدينامو المحرك لها هو دافع فكري او ايماني بحت ، يتمثل في ايمان كل منها بأنها "الفرقة الناجية" ، اي ان مذهبها هو الحق ، وأن الجماعات  الاخرى خاطئة أو منحرفة عن الطريق المستقيم. ويترتب على هذه الفرضية اعتقاد بالمسؤولية عن هداية الطرف الثاني إلى ذلك "الحق" المتصور ، اوعزله عن المحيط العام لحجب تاثيراته السلبية .  طبيعة الفعل في هذه الحالة ثقافي - دعوي. ويتحمل مسؤوليته المباشرة في الغالب رجال دين أو حركيون نشطون في المجال الديني. دور الدولة هنا ثانوي ، او ربما معدوم.
يجري الصراع في هذا الحالة على شكل سجالات لفظية تؤكد حقانية المذهب وانسجامه مع اصول يفترض انها معيارية ، اي مقبولة عند الجميع. يجري التركيز عادة على نقاط التمايز ، اي تفارق الطرف الثاني عن الاصول المعيارية. المبدأ الضابط هنا هو واحدية الفهم والتفسير وانكار التعدد في الفهم والاجتهاد. الحق واحد فمن ابى دعي اليه او قسر عليه او عزل عنه.  وبعكس ذلك فان مقاربات الاصلاح تركز على الفصل بين الاصول المعيارية والمتبنيات المدرسية ، حيث تصنف هذه كاجتهادات. اي ان المبدأ الضابط هنا هو واحدية الاصل وتعدد الفهم والتفسير والاجتهاد.
2-النزاع الطائفي باعتباره منافسة اجتماعية :
ينطبق هذا التعريف على النزاع بين الجماعات التي تشكلت على اساس تفارق كلي او جزئي مع التيار السائد او الجماعات المماثلة. وهي قد تكون حركة دينية ، او تيارا يتبع شخصية بارزة ، او تجمعا يميز نفسه عن الاخرين بفكرة او خطاب خاص. هنا يعتبر وجود وحدود "الجماعة" محور النزاع ، كما ان عناصر التمايز في خطابها الداخلي او الاجتماعي هو جوهر الرابطة التي تجمع الاتباع وتميزهم عن سائر الناس.
الصراع على النفوذ الاجتماعي هو الدينامو المحرك للنزاع في هذه الحالة. تمدد الجماعة في المجال الاجتماعي العام ، يؤدي بالضرورة الى  تزاحم مع الجماعات الاخرى. كل مذهب او جماعة دينية هي دائرة مصالح خاصة باعضائها. ولا بد – بحسب منطق الحياة – ان تتداخل شيئا ما ، او تتزاحم شيئا ما ، مع دوائر المصالح الاخرى المجاورة. وابرز امثلته اختراق أحد الطرفين للمجال الاجتماعي الخاص بالطرف الثاني، من خلال التبشير أو الاستقطاب السياسي/ الثقافي. وأبرز مصاديق هذا التعريف هو تحول الأفراد الشيعة إلى سنة أو العكس، او انحياز مسيحي الى الاسلام او العكس. مما يثير القلق باحتمال تعرض البيئة الخاصة (أي دائرة النفوذ أو المصالح) للتآكل، وفي أقل الاحتمالات إثارة الشك حول كفاءة القادة المؤثرين في هذا الطرف أو شرعية نفوذه الاجتماعي. طبيعة الفعل في هذه الحالة دفاعي - سجالي يستهدف تسوير دائرة النفوذ من خلال المبالغة في المظلومية ، وتصوير الطرف المقابل كقوة طاغية ، بهدف التنبيه الى مخاطر العلاقة القائمة ، وتصويرها كغزو يستبطن نوايا سيطرة وتحكم. وتستعمل ادوات المقاربة الاولى (اللغة الدينية البحتة) لدعم الخطاب الدفاعي. يظهر هنا التركيز على دور الاشخاص والرموز الضالعين في الصراع ، بغض النظر عن قيمتها الفعلية في الجماعة. المبدأ الضابط هنا هو واحدية الانتماء الاجتماعي واولوية الحدود الفاصلة بين الاطياف الاجتماعية.
وبالعكس من هذا فان مقاربات الاصلاح تركز غالبا على اخلاقيات العلاقة بين المختلفين ، مثل فكرة التعايش والتلاقي ونبذ الصراع والوحدة الوطنية والسلم الاهلي الخ. اي ان المقاربة تقفز على الخلاف الديني الى ضرورات السلم الاجتماعي. المبدأ الضابط هنا هو التعددية وحق الاختيار الفردي.
وفي العادة فإن قوى اجتماعية عديدة تشارك في تحمل المسؤولية في هذه الحالة، منها رجال الدين، والزعماء الحركيون وقادة المجتمع. تدخل الدولة في مثل هذه الحالة ثانوي ، وقد لا يكون استراتيجية رسمية معتمدة ، بل استغلالا للسلطة والنفوذ من جانب بعض رجال الدولة مدفوعين بميول شخصية او تحالفات تكتيكية.
3- النزاع الطائفي باعتباره صراعا سياسيا
ينطبق هذا التعريف على النزاع حول مطالب سياسية ، بين طوائف متعارضة في المجتمع ، او بين الدولة وبعض تلك الطوائف التي تصنف – سياسيا – كاقليات. الطائفية هنا ليست مسالة دينية ولا تدور حول اشكاليات دينية. دعنا نستعير تعريف د. برهان غليون الذي يرى ان الطائفية السياسية هي استعمال الاجماع الديني الخاص بجماعة او شريحة من المجتمع كخلفية وارضية للولاء السياسي ، الذي ينتج نظاما لتوزيع المصالح والمنافع ، ياخذ بعين الاعتبار تحديد احدى الطوائف كطائفة مفضلة وموالية ، تتمتع بامتيازات اكبر من غيرها. اي بعبارة اخرى تحويل العصبية الدينية الى عصبية اجتماعية- سياسية[3]. الدين هنا شعار سياسي وليس ايمانا ، وهو يشبه تماما استعمال وصف "الديمقراطي المسيحي" في اسماء الاحزاب المحافظة الاوربية. من المفهوم ان الديمقراطيين المسيحيين في اوربا علمانيون ، لكنهم يمثلون – سياسيا – الشريحة المحافظة في المجتمع ويخاطبونها في المقام الاول.
في هذا التعريف لا يصنف الطرف المضاد/العدو طبقا لخلفيته الدينية ، بل تبعا لانتمائه الاجتماعي او الاثني ، الذي قد يكون طائفة دينية او جماعة عرقية او جنسا كالنساء مثلا . عزل النساء والسعوديين من اصل افريقي في بلادنا ، والصراع  بين الشماليين والجنوبيين في السودان ، وبين العرب والاكراد في سوريا والعراق ، والنزاع الطائفي في لبنان والعراق، هي امثلة على ما نسميه بالطائفية السياسية.
طبيعة الفعل في هذه الحالة سياسي بحت. ويتحمل مسؤوليته المباشرة في الغالب حركيون ورجال سياسة. دور الدولة في هذه الحالة محوري، فهي جزء من الصراع او طرف محرك فيه او مستفيد منه . اما المجموعات الاخرى – باستثناء العدو – فدورها وفعلها ثانوي او ملحق بفعل الدولة. يؤدي هذا النوع من النزاع الى فعل سياسي نشط يتجه الى بناء تحالفات ، حيث يسعى كل من الطرفين ، الى تشكيل جبهات تضم الاصدقاء والداعمين ، لمواجهة الفريق الاخر. وتتسع موضوعات النزاع في العادة تبعا للحجم السياسي لاطرافه ، وبحسب تكوينها الاجتماعي وتنوع همومها.  وينتج عنه تعدد وسائل التعبئة والتبرير ، فالاطراف المشاركة قد تستعمل اللغة الدينية لتبرير مطالبها ، او تقتصر على اللغة السياسية – المدنية. لكن في كلا الحالتين ، يبقى العامل السياسي بوصلة التوجيه الرئيس.
مقاربات الصراع هنا تركز على واحدية الولاء السياسي والوطني والحقوق المكتسبة.  والمبدأ الضابط لها هو محورية النظام ودمج المجالين: العام والخاص. ومثل ذلك فان مقاربات الاصلاح تركز على تمييز الولاء السياسي عن الوطني واعلاء معايير الحكم الصالح ولاسيما مبدا المواطنة. اي ان المبدأ الضابط لها هو التعدد والتنوع في اطار الوحدة.

ما الذي نسعى اليه وراء البحث في المسألة الطائفية:

التعريفات السابقة تكشف عن تنوع موارد النقاش في الموضوع. كل تعريف يكشف عن بعد خاص ويستدعي مسار نقاش خاص. تحديد غرض النقاش هو الذي يرجح واحدة من المقاربات الثلاث .
سوف ناخذ بالتعريف الاول لو كان همنا التقارب المذهبي او البحث العلمي المجرد في المذاهب وتطورها الفكري او الفقهي . وسوف نهتم بالتعريف الثاني لو كان غرضنا تعزيز السلم الاهلي او دراسة التيارات السياسية في مجتمع محدد او على المستوى الاسلامي العام. اما اذا كان الغرض هو المساهمة في الاصلاح السياسي فسوف ناخذ بالتعريف الثالث.
لماذا ناخذ بالتعريف الثالث وما الذي يترتب عليه
حين افكر في المسألة كشيعي سعودي. فما هو التحدي الثابت الذي يواجهني في حياتي اليومية العادية؟.
-          هل يواجهني الخلاف بين الشيعة والسنة حول مسألة الامامة والعصمة ، او الاشهاد في الزواج والطلاق؟ (عناصرالتعريف الاول).
-          ام يواجهني قلق تناقص عدد الشيعة بتحولهم الى سنة ، او احتلال السني لمسجدي وحسينيتي؟ (عناصر التعريف الثاني).
-     ام يواجهني العرف الذي يصنفني كمواطن من الدرجة الثانية ، والقانون الذي يحرمني من صوغ حياتي على النحو الذي اريد ، وغياب القانون الذي يحمي حقي في التعبير عن ذاتي ورايي ووجودي كفرد مستقل لديه القدرة وله الحق في ان يتوافق او يختلف مع غيره ، ويسمح لي باستثمار الفرص المتاحة في  المجال العام بالتساوي مع الاخرين. (عناصر التعريف الثالث).
انا كفرد ، او كصاحب راي ، او كفاعل في المجال العام ، لا اشعر بان اتخاذ الفقيه السني رايا مختلفا في العقيدة او الفقه يمثل تهديدا لقناعاتي ، لانني ببساطة اؤمن بحقه في ان يتخذ تلك الاراء مثلما آمنت بحقي في مخالفته ، ولأن رايه لا يؤثر على حياتي اليومية.
وبنفس القدر فاني لا اشعر بالقلق لان عدد الشيعة سيزيد او ينقص اذا تحول احدهم الى سني او انضم اليهم احد السنة. كما لا اشعر ان وجود او توسع الجماعات المنافسة يمثل خطرا داهما. لا اخشى ان يحتل احد مسجدي او حسينيتي ، لان كافة الجماعات الاهلية تفتقر الى القوة اللازمة لذلك حتى لو فكرت فيه. وحتى لو تصاعدت الاصوات المخالفة لي في الفضاء الاعلامي ، فسيبقى هذا الفضاء اوسع وارحب من ان يمتليء بعشرات الاصوات او حتى ملايين الاصوات. او لانني استطيع بسهولة اتقاء المخاطر المترتبة على تلك التهديدات المحتملة.
بعبارة اخرى فالذي يضيق خياراتي ويمنعني من اكون كما اريد ، هو ذلك الذي يملك قوة فعلية قادرة على السماح والمنع ، التسهيل او التقييد. اي الدولة التي تحتكر وسائل الجبر وتحتكر مصادر القوة (عناصر التعريف  الثالث).
لو جلس في مكاني سني سلفي او صوفي  او لامنتمي ، ونظر فيما يواجه من تحديات ومصادر تهديد، فهو على الاغلب سيصل الى نفس الاستنتاج. اراء الشيعة الفقهية والعقيدية لا تمثل ضغطا  يوميا عليه ، وهم – كجماعة او كافراد – لا يمثلون تهديدا جديا لمكانته او مكتسباته. لكنه - مثلي – يواجه اشكاليات يومية مثل عدم تساوي الفرص ، والانتقائية في تطبيق القانون ، وكون حرياته غير مضمونة او محمية ، وانه غير قادر على المشاركة في صوغ حياته ومستقبله.

الصراع الطائفي كموضوع للتجييش السياسي والاجتماعي

عند النظر في المسألة الطائفية في الخليج، سيما السعودية ، نجدها شاملة لجميع الاعتبارات الثلاثة السابقة، اي ان التعريفات الثلاثة تشكل تمظهرات مختلفة لنفس المشكلة . ثمة جدل عقيدي يغذي التصارع بين القوى الاهلية ، كما يبرر تعطيل الاصلاح السياسي. وثمة سياسات رسمية تتحكم – الى حد ما - في مستوى واتجاهات الصراع بين الاطراف الاهلية،  وتستدعي بعث التراث التاريخي للنزاع الطائفي. والى ذلك ، ثمة جماعات اهلية تحاول توسيع نفوذها او تخشى على وجودها ، فتسعى لاستدراج الدولة واستثمار مواردها ، او استثمار التراث التاريخي الذي يؤكد الفرقة.
هذه حقيقة واقعة ، لكن هناك ايضا حقيقة موازية فحواها اننا لسنا مضطرين الى الانخراط في كل بعد من ابعادها. انخراطي في الصراع هو قرار ارادي. لا يستطيع احد جبري على صراع لا ارى نفسي فيه او لا يعبر عن قناعاتي واولوياتي. لكننا مع ذلك نواجه ما يمكن وصفه بقهر العامة ، اي التفاعل الاجتماعي مع اثارات يستثمرها بعض القوى للتعبئة والتجييش ، فنجد انفسنا – قصدا او غفلة او اضطرارا – في غمرة موج يتجاوز تصورنا الاولى عن المشكلة.
سوف اضرب هنا ثلاثة مثالين متقابلين عن التصوير السياسي الكاذب للواقع ، وكيف يستثمره اشخاص او جماعات للتعبئة والتجييش ، وكيف يضطر الناس لاتخاذ موقف طائفي تحت ضغط الشارع:
 في اوائل التسعينات ثارت زوبعة هائلة بين شيعة المملكة بعدما نشر المرحوم عبد الله بن جبرين فتوى تدعو لمعالنة عامة الشيعة بالكراهية والاحتقار[4]. بعض التقليديين الشيعة اعتبر كلام بن جبرين تمثيلا دقيقا وكاملا للموقف السني في المملكة ، وشن حملة هائلة ضد السنة. نحن نعلم ان الامر ليس كذلك. الواقع السني ليس كذلك ، حتى لو تصوروه. وفي اوائل العقد الجاري نشر ياسر الحبيب كلاما مماثلا عن السنة ، صوره بعض السلفيين كتمثيل للراي العام الشيعي. وشنوا حملة مماثلة، لا تزال اصداؤها تتردد الى اليوم. يعلم كثير من اخوتنا ان الحبيب لا يمثل الواقع الشيعي ولا مواقفه الفعلية. نعلم ايضا ان ثمة اغراضا تعبوية - سياسية وراء تصوير هذا الراي او ذاك كتعبير عن التيار العام في الطرف الاخر.
من ناحية اخرى ، فاني – حين انظر الى مهماتي واولوياتي – اجد ان حريتي وقدرتي على المساهمة في صناعة مستقبل بلدي ، رهن بكوني حرا مشاركا وفاعلا في المجال العام ، قادرا على الاستفادة من الموارد العامة التي يشترك فيها جميع المواطنين. فما الذي احتاج لتحقيق هذا المطلب.. دعم "المايسترو" الذي يتحكم في حركتي وحركة غيري ويستعملني واياه لاغراضه السياسية؟ ، ام  تحرير المجال العام وجعله حرا ليتنافس فيه الجميع ويرتقون بحسب كفاءتهم واجتهادهم؟.
(   I I   )

حدود المسالة الطائفية في المملكة ومجالها:

مما يثير الدهشة، ان كلا من الشيعة والسنة في المملكة ، يعتبر الاخر مشكلة. لكن – باستثناء مساهمات ضئيلة جدا – فان ايا منهما لم يكلف نفسه عناء دراسة الموضوع ، لفهم اشكالياته الاساسية وفرص حلها او التخفيف من كلفها. هذا مثال واحد على اهمال السعوديين للبحث العلمي وعدم التعويل عليه في فهم واقعهم. كان الشيخ سفر الحوالي بين قلة من رجال الدين السعوديين الذين طرقوا الجانب السياسي للمسالة[5]. وتبعه الشيخ ناصر العمر[6] ، واخرون في السنوات التالية. واظن ان طروحات الرجلين قد ساهمت في تشكيل "الفهم السلفي" للمسألة الشيعية في المملكة. ولعل تاثير هذه الطروحات قد انعكس في مساحات اوسع ، نظرا لانها كانت - ربما - الوحيدة المتوفرة للسعوديين حول الموضوع في وقتها.
كلا الرجلين صنف الشيعة السعوديين كاقلية ينطبق عليها نمط عام فحواه ان الاقليات وسيط او راس جسر للتدخل الاجنبي: طبقا للحوالي فان "التحالف بين الأقليات وبين أعداء الأمة سنة متبعة ، فتاريخ الدروز مع الإنجليز ، والنصيرية مع الفرنسيين ، لا يختلف أبداً عن تاريخ الموارنة مع اليهود في لبنان ، أو اليهود مع الحلفاء في تركية ، والنتيجة في كل الأحوال تدمير عقيدة الأكثرية وكيانها ووجودها"[7]. وخلال السنوات القليلة الماضية ، ركز العديد من كتاب الصحف ورجال الدين في المملكة على ما يصفونه بولاء الشيعة لايران ، واجتهد بعضهم في تقسيم الشيعة الى فريقين ، صفوي يجوز اتهامه بالعمالة او هو عميل فعلا ، ومعتدل ، يمكن احتمال ان يكون وطنيا او مواليا لوطنه.
لن اناقش هذه الاراء. سأذهب بدل ذلك الى تحديد طبيعة المشكل الطائفي في المملكة ، على ضوء الابحاث العلمية حول الاقليات في العالم. هذا سيجيب على السؤال المحوري حول حدود المشكلة الطائفية ومطالب الشيعة السعوديين.
معظم الابحاث التي ناقشت قضايا الاقليات في العالم ، اهتمت بقابليتها للانفكاك عن المجتمع الوطني ، بالنظر الى العوامل الثابتة – الجيوبوليتيكية - في تشكيل هوية الاقلية ووجودها كجماعة منفصلة شعوريا وثقافيا. وفي هذا السياق ركز معظم تلك الدراسات على واحدة من ثلاث مقاربات:
أ‌)        الاثنية- الدينية ethno-religiousness :
وهي تعتبر الدين او المذهب جوهر الرابطة الاجتماعية ، وربما يدعمه وحدة الاصل العرقي والثقافة واللغة. فحوى العلاقة بين الدين والاثنية ، هي ان الاختلاف الديني يولد حاجة لاستقلال الجماعة ، كي تعبر حياتها عن ضميرها الديني دون مزاحمة. غالبا ما يقتصر هذا النوع من الاقليات على المطالبة بالحكم الذاتي (كما هو الحال في جنوب الفلبين مثلا)، لكنه قد يصل الى المطالبة بالانفصال كما حدث في الهند (1947) والبلقان (1992).
ب‌)    الاثنية – الاقليمية  ethno-regionalism :
وهي تعتبر الارض المشتركة "المملوكة للجماعة" العنصر المحوري في تكوين هوية الجماعة. وحدة الارض تتطابق هنا مع العوامل الاخرى مثل الثقافة واللغة والتاريخ المشترك ونظام المعيشة. وابرز الامثلة على هذا هو المسألة الكردية التي اثمرت في 2003 عن قيام اقليم فدرالي خاص بالكرد شمال العراق. التصور العام للجماعة الاثنية هنا انها تشكل امة فرعية ، او جماعة متمايزة في اطار امة اكبر. وتدور دعوتها غالبا حول فكرة حكم ذاتي او اتحاد فيدرالي.
ت‌)    الاثنية – الوطنية ethno-nationalism :
 وهي تشبه الاثنية الاقليمية، لكنها اوسع مدى. الجماعة هنا ليست فريقا في بلد، بل هي كل البلد. ويمثل الحيز الاقليمي ارضا للجماعة تطابق هويتها القومية. وابرز امثلة هذا الصنف الحركة الانفصالية في جنوب السودان، التي نجحت في اقامة دولتها المستقلة في يوليو2011. وقبلها جمهوريات اسيا الوسطى التي استقلت اثر تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991. التصور العام للجماعة هنا يرتبط بتشكيل دولة قومية خاصة ضمن الاقليم الارضي الذي تعتبره موطنها الطبيعي.
مقارنة مع المقاربات الثلاث ، لا نجد المسألة الشيعية في المملكة قريبة من اي منها. رغم حيوية العامل الديني في تشكيل الهوية الخاصة للشيعة السعوديين ، ورغم تركزهم النسبي في اقاليم محددة، الا ان فكرة الاستقلال او الحكم الذاتي لم تظهر بينهم في الماضي او الحاضر. اي ان هويتهم السياسية لا تحوي فكرة عن مكان منفصل او وضع سياسي متمايز عن باقي السعوديين. انها اذن ليست مشكلة "اثنية" بالمعنى العلمي ، بقدر ما هي "حركة حقوق مدنية" في المعنى السياسي.
تعرف حركات الحقوق المدنية بانها مجموع الجهود الرامية لالغاء العزل او التمييز المفروض على جماعة محددة ، ومساواتها مع سائر المواطنين ، وفق قواعد قانونية عادلة تطبق على الجميع بصورة متساوية. يبرهن تاريخ الشيعة السعوديين ، منذ تاسيس الدولة قبل 80 عاما ، على ان همومهم ومطالبهم تمحورت دائما حول الدعوة للمساواة والغاء التمييز ، والاقرار بوجودهم كجماعة ذات تجربة ثقافية خاصة. هذا يجعل الحراك المطلبي "الشيعي" حركة حقوق مدنية ، متصلة بالضرورة بالحراك السياسي العام ، والاطياف الوطنية المختلفة التي تدعو للاصلاح السياسي والدستوري في المملكة. كما يجعل احتمالات نجاحها مرتبطة الى حد كبير بمسارات الاصلاح السياسي على المستوى الوطني.

(   I I I   )

اسئلة الفشل المجتمعي

فشل المجتمع السعودي في معالجة اشكالات الوحدة والهوية الوطنية ، يجعل الاستبداد قدرا وملاذا للجميع . لا اود العودة الى تواريخ بعيدة ، قد لا يتذكرها كثير من الناس. لكن الجميع يتذكر بالتاكيد ان الدعوة الى التظاهر في مارس 2011 رافقتها حملة واسعة في الصحف ومواقع الانترنت وخطب الجمعة واحاديث المشايخ تندد بالشيعة السعوديين وتتهمهم بالولاء لايران. هذا المثال تكرر بصورة اكثر تركيزا وسعة حين احتل الامريكيون بغداد في ربيع 2003 وحين سيطر انصار حزب الله على وسط بيروت في 2008 ، وحين قامت انتفاضة البحرين في العام 2011. وتكررت اخيرا بعد الصدامات التي جرت في مدينة العوامية في (اكتوبر 2011). بعبارة اخرى فانه كلما جرى صراع في خارج المملكة او داخلها، انتفضت المشاعر الطائفية داخل المملكة. اعني هنا بالتحديد الاهالي ، رجال الدين ، الكتاب ، وعامة الناس ، وليس الدولة. هذا يثير سؤالا جديا ، يولد – بدوره – العديد من الاسئلة ، السؤال المحوري: لماذا نجد انفسنا شركاء في صراعات الخارج او معنيين بها الى حد مصارعة اهل بلدنا؟. ولماذا – حين نحدد موقفنا مما يجري في بلدنا - نغفل كل العوامل المحركة للصراعات الداخلية سوى الاختلاف المذهبي ؟.
-     هل سببه غلبة الهوية الدينية- المذهبية على الهوية الوطنية في فهمنا لذواتنا؟. بعبارة اخرى: هل نفهم انفسنا كاتباع مذاهب قبل ان نكون مواطنين في بلد واحد؟.
-           ام لاننا نشعر – في اعماقنا – بان وحدتنا الوطنية حالة مؤقتة ، يمكن ان يجرحها او ينهيها اي تطور في المحيط؟.
-          ام لاننا لا نثق حقيقة في قدرتنا كمجتمع سياسي على التسالم والتعايش ، مع اختلافنا في المعتقدات والافكار ومصادر القوة؟.
-     ام لاننا نظن ان الصراعات القائمة في العالم هي حروب دينية. اي ان التحدي الرئيس لوجودنا هو الحرب الدينية وليس التخلف ولا الفساد ولا الاستبداد ولا هيمنة الاجنبي؟.
اذا صحت هذه الاسئلة ، فانها تشير الى فشلنا كمجتمع وطني ، في الانتقال من صورة الدولة الابتدائية ، التي قامت على الغلبة والغزو ، الى الدولة المستقرة ، التي يضمن سلامها ودوامها توافق اهلها وقبولهم بقانونها العام ، او دولة الامة ، التي يشعر جميع ابنائها بانهم أمة واحدة ، شركاء في وطن واحد ومستقبل واحد. اني لأشعر بالاسف لان السياسيين وقادة الفكر والراي في المملكة لا يجدون انفسهم معنيين بعلاج اشكالية الهوية الوطنية والوحدة والمواطنة ، على النحو الذي يكفل لبلادنا السلام والاستقرار والنمو على المدى البعيد. نحن حقا عاجزون ، وقد فشلنا في واحدة من اعظم المسؤوليات الملقاة على عاتقنا. فشل القوى الاهلية في هذا الامر المهم هو الذي جعل الاستبداد خيارا مرجحا. واذكر للمناسبة ما نقل عن الملك السابق فيصل حين جادلهم احدهم حول مجلس شورى منتخب ، فاجابه – كما تنقل الرواية – بانه لو اجريت الانتخابات فسياتي الى الحكم المطاوعة وشيوخ القبائل. لا ادري ان كانت هذه رواية صحيحة او مختلقة ، لكن كثيرا من الناس يشعر في داخله بان من العقل ان يتحمل الرمضاء ولا يستجير بعمرو عند كربته. هذه عاقبة الفشل المجتمعي: صيرورة الاستبداد ضرورة وملاذا للجميع.

ثلاثة سيناريوهات لمعالجة المشكل الطائفي

قلنا فيما سبق ان المسألة الشيعية في المملكة لا تشابه – في وقتها الحاضر - قضايا الاقليات الاثنية. وارى ان الفضل في هذا يرجع الى العائلة المالكة السعودية من جهة ، والى زعماء الشيعة التقليديين من جهة اخرى. فقد حافظ الطرفان على الصراعات البينية ضمن حدود معقولة ، حالت دون تبلور مشاعر انفصالية. انها حكمة الكبار التي لا تستطيع شرحها لكنك تشعر بها وترى اثارها. لا شك ان لاولئك فضل في جعلنا اليوم نناقش هذه المسألة في اطار المشكل الوطني العام وليس خارجه.
جوهر المسألة الشيعية في المملكة هو غياب الحقوق المدنية. الحراك القائم في هذا الاطار هو حركة حقوق مدنية.
-          لكن: هل يمكن انجاز او ضمان حقوق مدنية لطائفة او منطقة، بينما هي مغيبة على المستوى الوطني؟.
-           الجواب البديهي : لا .
-     حسنا . اذا كان الامر كذلك فلماذا كان وصف "الشيعي" سمة للحراك المطلبي في الاطار الشيعي؟. بعبارة اخرى: لماذا لم يركز الشيعة على المطالب الوطنية ، ويغفلوا – ولو مؤقتا – مطالبهم الخاصة؟.
 اود ان يوجه هذا السؤال الى جميع المطالبين بالاصلاح السياسي في المملكة . اني واثق ان لديهم ، او لدى بعضهم ، تفسير مناسب. مرة اخرى .. لا اريد العودة الى الماضي البعيد ، لكن هل نستطيع العثورعلى تفسيرات محتملة في حوادث الاعوام الاخيرة؟. وهل تشكل اسئلة الفشل المجتمعي ، التي عرضناها فيما سبق ، تفسيرا مناسبا؟.
دعنا نتجاوز هذه النقطة ، كي نعود الى النقطة الرئيسية ، وهي حل المشكل الطائفي. المطلب الجوهري للشيعة هو الغاء التمييز على اساس طائفي. وهو قابل للتحقيق ضمن سيناريوهات ثلاثة:
السيناريو الاول (اداري- قصير الامد): تحجيم التمييز الطائفي ضمن المساحات غير الحساسة سياسيا، او غير المشروطة باصلاحات سياسية في النظام. هذا يساعد على تنقية الاجواء العامة وتخفيف الكراهية ، ومنع اتخاذ الفوارق الطائفية وسيلة للاستغلال. يمكن ان يتحقق هذا بوضع قانون يجرم اثارة الكراهية الدينية ، ويعاقب على التمييز فيما دون المستوى السياسي. اظن ان هذا السيناريو قابل للتنفيذ فورا وضمن المعطيات الحالية.
السيناريو الثاني (قانوني- متوسط الامد): اقرار مبدأ سيادة القانون – من دون تغيير جوهري في فلسفة الحكم. سيادة القانون تجعل الناس سواسية في الفرص والمسؤوليات. هذا سيجعل الشيعة متساوين مع بقية السعوديين ، لكنه لن يعطيهم الحرية ، ولن يجعلهم شركاء كاملين. بعبارة اخرى سيتحول الشيعي من وضع مواطن الدرجة الثانية الى وضع المواطن العادي ، ضمن المعطيات الراهنة. هذا قابل للتحقق اذا وافقت النخبة السياسية على تطوير النظام من ملكية مطلقة الى ملكية مقيدة ، حتى مع بقاء النظام غير ديمقراطي.
السيناريو الثالث (دستوري- طويل الامد): تغيير جوهري في فلسفة الحكم ، يعيد صوغ النظام السياسي بما يجعل علاقة المجتمع والدولة تعاقدية منظمة في اطار دستور. حينها سيكون رضا الجمهور مصدرا للشرعية السياسية ، ويتساوى المواطنون في الحقوق والاعباء. ولا يعود للمسألة الطائفية اي وجود سياسي ، ولا للمطالب الخاصة اي مبرر.
الفرضية المسبقة في هذه السيناريوهات جميعا ، هي ان علاج المسألة الطائفية يبدأ بقرار رسمي ، ويطبق اولا ضمن الاطار الرسمي.  لكني اظن ان قرارا كهذا هو بداية العلاج فقط . اما العلاج الكامل فينبغي ان يجري ضمن مفهوم "الاندماج الوطني" ، وهو المبدأ الذي يقترحه علماء السياسة لبناء الدولة الوطنية او دولة الامة.

الاندماج الوطني

 "الاندماج الوطني" مفهوم سياسي – فلسفي فحواه ان المجتمع السياسي نظام تعاقدي بين اعضائه . فهو مبني اذن على ثلاثة اركان: شراكة التراب ، نظام تعددي ، مواطنة متساوية.
الركن الاول (الفلسفة): شراكة التراب: وخلاصته ان حقوق المواطنين والتزاماتهم منبثقة من كونهم ملاكا لارض الوطن، ما فوقها وماتحتها وماينتج عنها او فيها. هذه الملكية مادية حقيقية ، لكنها صلبة ، فهي غير قابلة للنقل او العزل او التحوير الا باتفاق الجميع. يعالج هذا المفهوم اشكالية جدية مصدرها قناعات دينية او ايديولوجية او تقاليد ، تسمح بالتمييز في الحقوق والاعباء على اساس الدين او المذهب او النسب او الجنس او سواه. كل المواطنين في بلد واحد يملكون كل البلد ، ملكا مشاعا متساويا. ولا يستطيع احدهم او بعضهم اقصاء الاخرين لانه يعتبر عدوانا على ملك غيره.
الركن الثاني (الواقع): التعددية : لا توجد اليوم مجتمعات احادية او صافية من حيث العرق او اللغة او غيرها. ولذا فان الميل السائد في العالم كله ينحو الى الفصل بين الهوية الوطنية التي تجمع كل المواطنين ، ومادونها من هويات فرعيات تضم شريحة او شرائح محددة ، سواء كان مصدرها عرقيا او ثقافيا او غيره ، موروثا او مستحدثا. الرابطة الوطنية – وفق هذا المفهوم – ليست اللغة او الدين او العرق ، بل التراب الوطني+القانون. وبناء عليه فان مجموع المواطنين في هذه الارض يعتبرون امة واحدة ، ويحملون هوية واحدة ، هي الهوية الوطنية.  يعالج هذا المفهوم اشكالية التفارق بين مطالب الاكثرية والاقلية واحتمالات اسئثار طرف او استقوائه على بقية الاطراف.
الركن الثالث (القانون): المواطنة المتساوية : المواطنة مبدأ دستوري فوق السياسات والقوانين. وهو عنوان لمنظومة من الحقوق والامتيازات والمسؤوليات التي يتمتع بها ويحمل عبئها كل مواطن، فهي نظام لعلاقته مع مواطنيه الاخرين، وعلاقته بمؤسسة الحكم. ويعالج هذا المبدأ مشكلة التباين بين الزامات السياسة والنظام وحقوق الافراد. ومنها الالزامات الناشئة عن ندرة  الموارد ، مثل تبنيها لمعتقد خاص ، او تحالفاتها الداخلية والدولية، وتباين حجم الفرص وحجم الطلب عليها. ومقتضاها انه لا يجوز للدولة تبني سياسة او قانون او السكوت عن ممارسة، تخرق مبدأ المواطنة المتساوية ، بما فيها ضمان الحريات الاساسية ، الطبيعية والمدنية ، وحق التمتع بالموارد والفرص المتاحة في المجال العام.

دور القوى الاهلية:

حين استعرض تاريخ الحراك السياسي الاهلي خلال العقدين الماضيين ، لا أجد القوى الاهلية ، التقليدية منها والاصلاحية ، قدمت مساهمة واضحة في مسألة بمثل اهمية الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي. أشعر بالامتنان للعديد من كتاب الراي في الصحافة المحلية ، وللقليل من رجال الدين ، وبالطبع دعاة الاصلاح السياسي ، الذين رفضوا المواقف الطائفية والتنميط السلبي للشيعة ، ولا سيما في الفترات التي تصاعدت فيها امواج الكراهية الطائفية والتهجم المهين. هذه مواقف مشكورة ومحمودة. لكنها اقرب الى عمل الاطفائي الذي يقاوم الحريق. نحن اليوم اقل اهتماما بمثل تلك الموجات واكثر قدرة على العبور فوقها. لكننا ما نزال بحاجة الى تقديم حلول لقضايانا الحرجة والاساسية.
اشرت في مقالات سابقة الى تحاشي الاصلاحيين في التيار الديني الاشارة الى مشكلة التمييز الطائفي ، توقيا لنقد التقليديين والطائفيين في هذا التيار ، وتحاشي الاصلاحيين الاخرين للمسالة تلافيا لتحفظات الفريق الاول. هذا يذكرني بما اسمعه من كبار مسؤولي الدولة ، الذين يؤكدون في اجتماعاتنا الخاصة معهم ، على انهم ضد التمييز وانهم لا يفرقون بين مواطن وآخر. لكنهم جميعا ، من اعلى الهرم حتى ادناه ، تحاشوا طوال سنوات ان يذكروا اسم الشيعة علنا ، او يشيروا الى وجودهم في البلد او الى احترام الحكومة لحقوقهم.
لقد حان الوقت كي يتحمل السعوديون جميعا مسؤولية الخلاص من التمييز الطائفي. صحيح ان اجتثاثه ينتظر اصلاحا على المستوى الوطني ، وصحيح ان التحولات الاساسية في هذا الملف متوقفة على قرار النخبة الحاكمة. لكننا نستطيع المساهمة في درء الاستقطاب والانقسام والكراهية ، ونستطيع الحيلولة دون استخدام العامل الطائفي في اعاقة الاصلاح ، او استخدامه كسلاح ضد الاصلاحيين.

خلاصة وتوصيات

1- دارت المناقشة حول المسالة الطائفية في  المملكة العربية السعودية ، وركزت على المسألة الشيعية باعتبارها اكثر قضايا الاقليات والصراعات الطائفية بروزا. وتستهدف المقالة تقديم نموذج تحليل يراه الكاتب ادق تعبيرا عن الواقع القائم. من هنا فهي تدعو لمقاربات سوسيولوجية – سياسية ، وتستبعد المقاربات الايديولوجية التي تنظر للمسألة الطائفية كصراع حتمي مرتبط بوجود المذاهب.
2- يعتقد الكاتب ان المسألة الشيعية في المملكة لا تقع ضمن التصنيف العلمي لقضايا الاثنيات الذي يضع فكرة الانفصال كمؤشر ثابت لتقييم علاقة الاقلية بالاكثرية. بل هي – تحديدا- قضية حقوق مدنية تدورحول المساواة والغاء التمييز على اساس المذهب والطائفة. وهي في هذا تسير بالتوازي مع تيار الاصلاح السياسي على المستوى الوطني.
3- في هذا السياق لا تغفل الورقة حقيقة ان المملكة تنطوي على نزاع مذهبي-طائفي متعدد التعبيرات. لكنها تميل الى اعتبار ان العامل السياسي وخصوصا موقف الدولة هو الجوهري في المشكلة. بقية التعبيرات لا تمثل تهديدا فعليا او داهما ، او انها ملحقة بالوضع السياسي العام وليست جزء اساسيا من تكوينه.
4- لاحظت المقالة ان مساهمة السعوديين في النقاش حول المسألة الطائفية ، وفي قضايا الوحدة والهوية الوطنية ، محدودة جدا ، رغم اهمية الموضوع وخطورته. كما لاحظت شدة انعكاس النزاعات الاقليمية على علاقات المواطنين داخل البلد ، الامر الذي يشير – ربما – الى ضمور الجامع الوطني وبروز العامل المذهبي في تحديد المواقف. هذا سيؤدي بالطبع الى استقطاب داخلي على اساس طائفي لا وطني.
5- تقترح المقالة ثلاثة سيناريوهات لمعالجة المشكل الطائفي ، أ) اداري – على المدى القصير، يستهدف تنقية الاجواء العامة وتخفيف الكراهية ، ومنع الاستغلال المبرر طائفيا. ب) قانوني – على المدى المتوسط ، يقر المساواة دون الحريات العامة والمشاركة السياسية. ج) دستوري – على المدى البعيد ينهي المسألة الطائفية جذريا.
6- بالنظر للتحفظات وموارد النقد التي ذكرتها المقالة، فاني ادعو لمناقشة المسألة بجميع ابعادها وتفصيح المخاوف والاشكالات لدى جميع الاطراف الوطنية. ادعو لمناقشتها نقاشا علميا ، وعدم الاكتفاء بالنصائح الاخلاقية او الجمود على الهواجس المذهبية والايديولوجية. اذا وضعنا كل شيء في اطار العلم ، فسيكون قابلا للنقاش بلا حدود.





[1] سفر الحوالي : كشف الغمة عن علماء الامة، ونشرت الرسالة في كتاب تحت اسم "وعد كيسنجر والاهداف الامريكية في الخليج". ن.إ: http://saaid.net/book/open.php?cat=84&book=540
[2] قناة العربية www.alarabiya.net/articles/2006/04/08/22686.html

[3] برهان غليون : نظام الطائفية ، المركز الثقافي العربي (بيروت 1995)، ص 21
[4]  عبد الله بن جبرين ، جواب على سؤال في درس العدة في جامع الراجحي 23/8/1421 هــ. موقع الدفاع عن السنة  http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=1925
[5] سفر الحوالي : المصدر السابق. ويلاحظ ان الحوالي لم يذكر الاقليات المسلمة ضمن هذا التنميط ، اما لانه لايراها داخلة فيه ، او لانه  لايعتبر الشيعة بين الاقليات المسلمة.
[6] النص الكامل للرسالة على موقع شبكة الدفاع عن السنة http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=3834. جدير بالذكر ان الرسالة غير منشورة في الموقع الخاص للعمر (http://almoslim.net) رغم انه يذكرها في خطبه بين حين واخر ، كما ان مواقع الانترنت الحليفة حذفت التوصيات من النص المنشور. وهي جميعا غريبة ومثيرة.
[7] سفر الحوالي : الأقلية حين تتحكم في الأكثرية (جواب عما قدمته الطائفة الشيعية من مطالب لولي العهد) 13/4/1424هـ.  موقع صيد الفوائد http://www.saaid.net/Warathah/safar/6.htm





* مقالات اخرى للكاتب في نفس السياق :
الشيعة السعوديون : مشكلات المواطنة في ظروف التحول (2010) http://talsaif.blogspot.com/2011/04/blog-post_22.html
الهوية السياسية للشيعة: من الانكفاء الى البراغماتية (2008) http://talsaif.blogspot.com/2011/09/blog-post_25.html
الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات (2011)    http://talsaif.blogspot.com/2011/07/blog-post_290.html
الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني (2011)
دور الدولة في اطلاق او تثبيط التوتر الطائفي (2011) http://talsaif.blogspot.com/2011/08/blog-post.html
المسألة الطائفية: بحثاً عن تفسير خارج الصندوق المذهبي (2007) http://talsaif.blogspot.com/2011/04/blog-post_15.html

هناك 3 تعليقات:

  1. جميل جدًا هذا العرض، من تشخيص للمشكلات والبحث في أساليب وطرق ابداعية في المعالجة، فضلا عن العمق.

    كنت أتأمل لو أن الورقة تناولت أهمية الدور الاقتصادي مدنيا.. عبر رافعة مؤسسات تنموية مستدامة... ماذا لو بدأنا اقتصاديا بدلا من اجتماعيا أو سياسيا ... يا ترى هل بالامكان أن يتحقق نجاحات !؟

    استفدت من الورقة بشكل كبير.
    شكرا لك دكتور

    علي آل طالب السعودية

    ردحذف
  2. شكرًا دكتور على جهودك في هذا المجال..

    ردحذف
  3. كل ما قيل ويقال عن المجتمعات التقليدية وما تواجهه من تحديات ثقافية تشريعية اخلاقية تنموية .." لا تقف عند حدود الطائفية او الاثنية والتعددية فحسب ( ما لم تقر الحقوق الاساسية ) كمرجع من المراجع الرئيسة في الاجراءات الجزائية والاحكام القضائية ؟

    ردحذف

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...