الواضح ان مفهوم الأيديولوجيا وتطبيقاته ، يثير حساسية ملحوظة عند الجمهور ، فضلا عن السياسيين والمفكرين. سيبقى هذا الراي انطباعيا ، نظرا لشكنا في كون المفهوم واحدا عند جميع الناس ، فوق اننا لا نعرف المسافة بين ما يريده الناس من هذا المفهوم وما يرفضونه فيه.
على أي حال ، قد يكون مفيدا المرور سريعا على اصل المفهوم وسبب الخلاف حوله ، ولا سيما الموقف المتشكك فيه او الرافض له.
تقول المصادر ان الذي صاغ مصطلح
الأيديولوجيا ، هو
المفكر الفرنسي ديستوت
دي تريسي سنة 1796. كان دي تريسي يحاول وضع قواعد تفسيرية توضح كيفية انتقال
البيانات من الحواس الخمس التي تتفاعل مع البيئة المحيطة بالإنسان ، الى عقله ،
حيث تستعمل في تشكيل منظومات الأفكار. ويقال ان تريسي تأثر بالفيلسوف الإنجليزي فرانسيس
بيكون ، الذي رأى ان تفكير الانسان
في الأشياء ، محكوم بذاكرته التاريخية من جهة ، وبمكونات الظرف المحيط به ، وهي
النظرية التي يشار اليها عادة باسم "اصنام
العقل الأربعة". أراد
دي تريسي وضع قاعدة عامة ، تفسر حركة الأفكار منذ ولادتها حتى تتموضع في سلسلة ،
فتشكل منظومة متكاملة ، واطلق على هذا المشروع اسم "علم
الافكار ideology ".
كان
تريسي مقتنعا تماما بأن أي فكرة تولد داخل عقل الانسان ، يجب ان تولد ضمن منظومة
او تنظم لاحقا الى منظومة ، لأنه لا توجد في العقل أفكار منفردة غير متصلة باي
فكرة أخرى.
حصل المصطلح على رواج اكبر بعدما ظهر في كتابات كارل
ماركس ، منتصف القرن التاسع عشر. وكانت المفارقة ان ماركس بدأ ناقدا للأيديولوجيا
، التي قال انها تخلق وعيا زائفا بالواقع ، لكنه اتجه لاحقا الى تشكيل منظومة
فكرية متكاملة ، تمثل نموذجا لما نسميه أيديولوجيا. والواضح ان ماركس لم يتخذ هذا
المنحى في غفلة ، بل يبدو انه أراد عامدا انشاء العقيدة الشيوعية كأيديولوجيا شاملة
ومغلقة الى حد كبير. وخلال القرن العشرين أنشأ معظم الأحزاب الشيوعية الكبرى قسما
خاصا للتعليم والتدريب الأيديولوجي ، وبعضها يحمل هذا الاسم دون مواربة.
ثمة اعتراضات كثيرة على الأيديولوجيا
، بما هي ومن حيث المبدأ ، وقد ذكرت في المقال السابق قول من قال انها "حجاب
الحقيقة" او الشجرة التي تحجب الغابة. لكني أود التركيز على ما أظنه ابرز
الاعتراضات ، وهو تلبسها بما يشبه عباءة الدين.
توصف الأيديولوجيا بانها نظام
كلي ، ينظم في نسق واحد المعرفة والسلوك الشخصي وعلاقة الانسان مع الاخرين
والطبيعة. وهذه على وجه التحديد وظيفة الدين ، ولذا قيل ان الأيديولوجيا تقوم – عمليا
– بالاستيلاء على مكانة الدين من خلال مزاحمته على الوظائف التي يفترض انه مختص
بها.
نعلم ان المسافة واسعة جدا بين الدين
والايديولوجيا: فالاول من عند الله بينما الثانية من صنع البشر. يركز الدين على
داخل النفس وليس الخارج. الواجب المحدد للإنسان هو الحفاظ على نظافة قلبه ، ومواصلة
تطهيره من خلال اتهام النفس بالقصور او التقصير والاعتذار الى الله عنه. الدين
حالة انجذاب من الانسان الى الخالق ، وليس اندفاعا من الانسان الى بقية البشر. أما
الأيديولوجيا فتركز على المحيط الحيوي
للإنسان ، بناء على فرضية مسبقة بأن الأيديولوجيا التي يحملها كاملة ، وان القصور
في المحيط وليس فيها ولا في حاملها. بعبارة أخرى فان حركة الأيديولوجي تتجه من
داخله الى خارجه ، وتسعى لتغيير المحيط باعتبارها في مرتبة أعلى من هذا المحيط ،
ولا تحتمل الخطأ.
السؤال الآن: ماذا يحصل لو ان
مجموعة اشخاص شكلوا تيارا يحمل اسم الدين ويتحدث بلغته ويرفع شعاراته ورسومه ،
ويعتبر نفسه ممثلا للدين وحاميا لحماه ، لكن المضمون الجوهري لهذا التيار وتعاليمه
كلها ، من صنع البشر ، فهل نصنف هذا الخطاب في جانب الدين ام في جانب الأيديولوجيا
، أي هل نركز على الصورة الإلهية للخطاب ام على مضمونه البشري؟.
الخميس - 07 شَعبان 1446
هـ - 6 فبراير 2025 م
https://aawsat.com/node/5109202-
مقالات
ذات صلة
الصعود السياسي للاسلاميين وعودة الدولة الشمولية
حول القراءة الايديولوجية للدين
كتاب اخر يستحق القراءة : كارل بوبر "منطق البحث العلمي
حول القراءة الايديولوجية للدين
ايديولوجيا الدولة كعامل انقسام: كيف يحدث التفارق
الآيديولوجي والثقافي؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق