02/09/2020

التخلي عن التلقين ليس سهلا

 


لا أغالي لو قلت ان جميع من دعوا لتطوير التعليم المدرسي ، متفقون على نقطة واحدة في الحد الأدنى ، وهي التخلي عن اسلوب "التلقين" واعتماد التعليم التفاعلي ، حيث يمسي الطالب شريكا في تشكيل موضوع الدرس. لكني ايضا ازعم ان غالبية المعلمين المؤمنين بهذه الفكرة لايطبقونها أبدا.

فكرة التخلي عن "التلقين" ترجع الى 30 عاما على الأقل. وقد كتب عنها عدد من وزراء التربية ووكلائهم ، قبل تولي مناصبهم او بعد تقاعدهم ، مما يؤكد قناعتهم بالفكرة. لكننا رغم مرور تلك المدة الطويلة ، لانزال مشغولين بمناقشة الموضوع ، ونشعر انه لم ينضج بعد.  اليست هذه مفارقة محيرة؟.

أعلم ان نظام التعليم العام قد تطور بشكل ملموس خلال العقد الجاري. كما اعلم ان المعلمين باتوا أكثر كفاءة واستيعابا لمناهج التعليم الحديث وما تنطوي عليه من تحديات.

لكن دعنا نطرق زاوية ، ربما لم يلتفت اليها اكثر الناس ، او لم يرغبوا في نقاشها. وهي تشكل التحدي الأهم في التعليم التفاعلي ، اعني بها ما ينتج عنه من بروز لفردانية الطالب واستقلاله.

بيان ذلك: لو سالني معلم عن محور التعليم التفاعلي وجوهره ، لقلت انه استثارة ذهن الطالب وتشجيعه على ان يفكر ، اي ان يرتكب الأخطاء دون خوف. وهذا بدوره يعزز فردانية الطالب واستقلاله. سوف اعود في مقال لاحق لشرح العلاقة بين التعليم وارتكاب الاخطاء ، لكن دعنا نركز الآن على نقطة الاستقلال والفردانية:

تبرز فردانية الشاب حين يعتاد على البحث والتجريب بنفسه. سيقوده البحث الى عوالم وآراء جديدة ، وسيتصل بمحيط اجتماعي/ثقافي ، وراء المحيط المحمي باعراف الجماعة ، اي انه سيعيد تكوين هويته واكتشاف ذاته المستقلة والمختلفة عن ابيه ومعلمه ، بل عموم الجيل الذي يتوقع من الابناء ان يكونوا "مطيعين" وملتزمين بالاداب والاعراف المتوارثة.

التعامل مع هذا التحدي أمر مقلق حقا للآباء والمعلمين ، ومن يوازيهم في المرتبة او الدور. نحن ننظر الى نظام التعليم المدرسي كامتداد للتنشئة العائلية. ونفكر في ابنائنا كامتداد مادي وثقافي لاشخاصنا ، وننزعج أشد الانزعاج اذا سمعنا انهم تباعدوا عنا ، في تفكيرهم او سلوكياتهم او التزامهم باعراف الجماعة وتقاليدها ، بل حتى لو لبسوا أزياء غير ما اعتدنا لبسه.

في المقابل ، فان الغرض الأول للتعليم المدرسي ، هو اعداد الجيل الجديد لزمن مختلف وتحديات مختلفة. ولهذا احتاج الى معلمين محترفين. نحن نرى هذا كل يوم في حديث الناس ، عن عدم التواؤم بين مايسمونه "مخرجات التعليم" وحاجات سوق العمل. اني اخالف هذه الفكرة. لكن تكرارها على السن الناس ، يؤكد قناعتهم بان على المدرسة ان تؤدي دورا مختلفا عن ذلك الذي يؤديه الابوان في المنزل.

نحن إذن امام تعارض جدي بين إرادتين تنشطان في اتجاهين متعاكسين: ارادة تريد أن يكون الابناء استمرارا للآباء وتاريخهم ، وارادة تريد قطع الحبل السري الذي يشدهم الى هذا التاريخ ، كي يكونوا جزء من مستقبل مختلف.

السؤال الذي يجب طرحه هنا: الى اي درجة يود المعلم ان يرى طلابه مستقلين عنه ومتحررين من توجيهه؟. والى اي حد يسمح الآباء لابنائهم بالاستقلال ، في ثقافتهم وسلوكهم وما يتبنونه من قيم؟. وأخيرا ، وهذا هو الاكثر جدية في نظري: هل تريد الادارة الرسمية القائمة على التعليم بلوغ هذه النقطة ، ام ان حديثها عن "التعليم التفاعلي" ينصرف الى  المعنى التقني فحسب؟.

الأربعاء - 15 محرم 1442 هـ - 02 سبتمبر 2020 مـ رقم العدد [15254]

https://aawsat.com/node/2482806/

مقالات ذات علاقة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...