يعد جون رولز واحدا من اعظم فلاسفة القرن
العشرين. وقد ساهمت اعماله في تغيير وجهة البحث في العدالة وتطبيقاتها بشكل جذري.
هذا ما قاله امارتيا سن ، الفيلسوف والمفكر الهندي الحائز على جائزة نوبل
للاقتصاد. قد تكون عبارات مثل "أهم" و "اعظم" انطباعية ، سيما
اذا صدرت عن أشخاص تأثروا فعليا باعمال رولز. لكن ثمة ما يدلنا على انه كان
بالفعل مفكرا استثنائيا ، يندر اغفاله في اي دراسة جادة حول العدالة او التنمية
البشرية في العالم المعاصر. طبقا لتقارير غوغل الاكاديمية ، فان اسمه يظهر كمرجع
لدراسات عامة واكاديمية بما يزيد عن 160 الف مرة ، من بينها 110 الاف مرة خلال
السنوات الخمس الماضية فحسب. وهذا رقم يتجاوز عدد الارجاعات المسجلة لأي مفكر آخر
في العالم.
السر الذي جعل اعمال رولز واسعة التأثير ،
هو نجاحها في البرهنة على ان التزام السياسات العامة بقيمة العدالة ، طريق لتسريع
النهوض الاقتصادي والاجتماعي ، وتعزيز الاستقرار الذي تنشده كافة الحكومات ، خلافا
لانطباع عام بين السياسيين والاقتصاديين ، فحواه ان النمو الاقتصادي قد يتطلب
تأجيل حقوق الانسان الاساسية. في هذه النقطة بالذات ، تتمايز رؤية رولز عن الليبرالية
الكلاسيكية التي افترضت امكانية التضحية بالمساواة أو على الاقل تأجيلها ، في سبيل
النهوض بالاقتصاد والمعيشة وتعزيز الحريات الفردية. كما تمايزت عن الرؤية الماركسية التي نادت
بتأجيل الحريات الفردية والمدنية ، حتى إقرار المساواة الكاملة بين جميع
المواطنين.
يصر رولز على ان نظريته "العدالةكانصاف" نظرية سياسية ، بمعنى انها قابلة للتطبيق في إطار سياسات وبرامج عملية ، غايتها اعادة تشكيل البنية الاساسية للنظام الاجتماعي ، بما فيها القانون والسياسات الرسمية وبرامج العمل ، وصولا الى اقامة نظام اجتماعي عادل.
نعرف ان هذا التقدير لم يكن مجرد تأمل
فلسفي. لقد ثبت فعليا ان رؤية رولز – رغم ما يظهر عليها من نزوع مثالي – قابلة
للتحول الى برامج عمل. في العام 1990 تبنت الجمعية العامة للامم المتحدة جدول
مؤشرات لقياس النمو الاقتصادي/ الاجتماعي الذي تحققه اقطار العالم في كل عام. وضع
الجدل على يد محبوب الحق ، احد اشهر منظري التنمية المعاصرين ، بمساعدة امارتيا سن
، والسياسي الاسكوتلندي تام داليل. يشكل مجموع تلك المؤشرات دليلا للمخططين في كل
بلد ، نحو تحقيق الهدف الأعلى للتنمية ، اي تعزيز العدالة الاجتماعية ، من خلال
توسيع خيارات الافراد وتمكينهم من ادارة حياتهم ، على النحو الذي يترجم تصورهم
الخاص للسعادة.
وفقا لرؤية رولز فانه يمكن للعدالة ان تتحول
من تطلع مثالي الى قيمة متحركة في واقع الحياة ، اذا صيغ مفهومها في سياق نقاشات
مفتوحة بين مواطنين عقلاء أحرار. ان نقاشا حرا بين الناس ، سيفضي الى إبراز مفهوم
للعدالة ، واقعي وقادر على توحيد الاطياف الاجتماعية المختلفة. وهو يقرر في كتابه "الليبرالية السياسية" أن النظم
الليبرالية تواجه تحديا جديا ، يتمثل في قابليتها لانشاء فضاء واحد يوفر العدالة
لجميع المواطنين ، مهما اختلفت مشاربهم ومتبنياتهم الدينية والايديولوجية ومستوى
معيشتهم.
عقلانية الانسان تتجلى – حسب رولز – في
قدرته على ادراك حقيقة العدل وتمييز ما هو خير لنفسه وللآخرين. وبهذا فهو يؤكد على
قيمة محورية غالبا ما تناساها السياسيون ، وهي ان سعي الانسان لصالحه الخاص ، لا
يغير من حقيقة ان ذاته وفطرته خيرة ، وانه قادر على تدبير حياته دون عدوان على حقوق
غيره.
الشرق الاوسط الأربعاء - 19 جمادى
الآخرة 1439 هـ - 07 مارس 2018 مـ رقم العدد [14344]
http://aawsat.com/node/1196381
مقالات ذات علاقة
من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد
الاجتماعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق