الخبر
الذي لم يلفت انتباه الكثيرين يقول ان البنك الدولي قد دعا دول الخليج الى التركيز
على الصناعات التصديرية بدل الافراط في الانشاءات المكلفة . ويمثل البنك وشقيقه
صندوق النقد الدولي ابرز هيئة تعنى بالاقتصاد العالمي . فيما يتعلق بنصيحته لدول
الخليج ، فهو يقول ببساطة ان ارتفاع اسعار البترول قد وفر لهذه المنطقة مداخيل
تتجاوز ما تحتاجه لنفقاتها الفورية والقصيرة الامد . وان عليها ان تستثمر هذه
الفرصة في جمع قرشها الابيض ليومها الاسود . لا نتمنى بطبيعة الحال ان نصل الى يوم
اسود ، لكن الامور لا تجري دائما وفق ما يشتهي الانسان . ولم ننس بعد الازمات
الخانقة التي اصبنا بها يوم تدهورت اسواق البترول في النصف الثاني من الثمانينات و
ما زالت بعض آثارها مشهودة حتى اليوم .
نحن
بحاجة الى التحرر من الارتهان المطلق لتصدير البترول الخام . صحيح انه يمثل حاجة
للاقتصاد العالمي يستحيل الاستغناء عنها في المدى المنظور . لكن الصحيح ايضا ان
اعتماد العالم على بترول الخليج يرجع في المقام الاول الى وفرته ورخص اسعاره . وفي
اوائل الثمانينات نصح وزير البترول السعودي الاسبق احمد زكي يماني دول الاوبك
بالمحافظة على معادلة مناسبة للانتاج والاسعار ، لان الارتفاعات المتوالية ستؤدي في رايه الى عودة الامريكيين الى الالاف
من ابار البترول التي اغلقت لارتفاع كلفة الانتاج . كما ستؤدي الى جعل مصادر
الطاقة الاخرى – المحطات النووية مثلا -
اقتصادية . ونضيف هنا ان العالم يشهد توسعا في اكتشاف مصادر جديدة للبترول سواء في
غرب افريقيا او في اسيا الوسطى وحتى في الصين . ونضيف ايضا ان تطور تقنيات الكشف
والاستخراج قد اعادت الحياة الى عدد من الحقول التي اعتبرت ناضبة في خليج المكسيك
وامريكا الشمالية . هذه التطورات ستقلل من القدرة التنافسية لبترول الخليج ، لا
سيما اذا حافظت الاسعار على معدلاتها الحالية المرتفعة .
المشكلة
ليست هنا ، فكل سلعة في العالم تواجه منافسة من سلع اخرى مماثلة او بديلة . المشكلة
ان مسارا من ذلك النوع قد يوصلنا الى نقاط ارتكاز حرجة . قبل ربع قرن على سبيل
المثال كنا قادرين على تدبير امورنا بتصدير خمسة ملايين برميل بسعر عشرين دولارا
للبرميل . لكننا لا نستطيع اليوم تدبير امورنا حتى مع مضاعفة الرقمين . ليس فقط
لان عدد سكان المنطقة قد تضاعف ، بل لان نوعية حاجاتهم وكلفة حياتهم قد اختلفت
وتضاعفت بنسب اعلى . ويعرف دارسو الاقتصاد السياسي ان نقطة الاشباع الحدي للحاجات
تتصاعد بالتدريج بحسب قدرة الفرد على تلبيتها . وما يعتبر في وقت ما كماليا يتحول
اذا تم الحصول عليه الى ضروري ، وبالتالي فان كلفة المعيشة تتصاعد بانتظام ، ويمكن
للقاريء ان يقارن بين كلفة حياته الان وكلفتها قبل عشرة اعوام كي يتلمس هذا المعنى
. خلاصة القول اذن ان مداخيل البترول لا يمكن ان تستمر في التصاعد الى ما لانهاية
، وان اي مستوى تصل اليه سيتحول بالتدريج الى نقطة ارتكاز لكلفة المعيشة او نقطة
اشباع حدي للحاجات الحيوية . وهذا سيعيدنا من جديد الى نفس المشكلة التي واجهناها
في النصف الثاني من الثمانينات ، اي قصور الموارد عن تلبية الحاجات .
الخيار
الذي يبدو بديهيا هو الاتجاه الى الصناعة كمحور لتنويع قاعدة الاقتصاد الوطني .
ويمكن النظر اليها من زاويتين : الانتاج المحلي يمثل وسيلة للتخفيف من عبء
الواردات ، اي اعادة تدوير النفقات ضمن حدود الاقتصاد المحلي ، وبالتالي تكرار
الاستفادة من راس المال . والزاوية الثانية هي زيادة عائدات التصدير . على سبيل
المثال فان تصدير برميل من البنزين او الديزل يعود باضعاف قيمة تصدير برميل من
الزيت الخام ، والامر نفسه يقال عن تصدير المواد البتروكيمياوية الوسيطة المصنعة
من مصادر بترولية .
طرح
هذا الموضوع تكرارا في السنوات الماضية ، لكن لسبب ما فانه لم يحظ باهتمام
السياسيين واصحاب القرار . ويبدو هؤلاء اكثر شوقا الى الانفاق على بناء العمارات
والمطارات الضخمة منهم الى بناء المصانع وتوسيع قاعدة الانتاج الوطني . هناك من
يقول بان دول الخليج عاجزة عن التصنيع لانها تفتقر الى الخبرات التقنية ، او لان
شعوبها كسولة او لانها مصابة بمرض تفضيل الاجنبي على المحلي . وكل هذه المبررات هي
انطباعات شخصية وليست نتاج بحث علمي . ولعل تجربة الصناعة في السعودية هي اكبر
دليل على سقم هذه الاقوال ، فهي على رغم محدوديتها تمثل دليلا على القابلية
الهائلة للتطور في هذا الطريق . وخلال السنوات العشر الماضية تحولت شركة سابك ،
وهي محور صناعة البتروكيمياويات السعودية ، الى مصدر عالمي معروف للمواد الصناعية
الوسيطة ، وحافظت على صادرات سنوية تقدر بمئات الملايين . ويمثل الموظفون
السعوديون اكثر من نصف قوة العمل في هذه الشركة العملاقة . ونجاح هذه الشركة
ونظيراتها دليل على ان طريق الصناعة ممكن ومثمر وقادر على تحقيق نجاحات.
توفير
القرش الابيض لليوم الاسود لا يعني تخزين الاموال في البنوك ، وليس شراء استثمارات
في خارج المنطقة كما يفعل بعض الاثرياء وشركات الاستثمار. اذا اردنا النظر الى الموضوع من زاوية وطنية
بحتة ، فان توفير القرش الابيض يعني توسيع وتنويع قاعدة الانتاج الوطني وزيادة
مصادر التمويل المحلي ، للخلاص من الارتهان الحالي لاسواق البترول واسعاره وازماته
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق