منذ بداية القرن العشرين ، حصل 1000 من الشخصيات البارزة على "جائزة نوبل" ، من بينها 4 حالات فقط ، منحت الجائزة لزوج وزوجته بصورة مشتركة. لكنها منحت مرتين اخريين لكل من الزوج والزوجة على انفراد. وكان هذا في 1974 حين منح البروفسور غونار ميردال "جائزة نوبل التذكارية" في الاقتصاد ، ثم منحت زوجته ألفا "جائزة نوبل" للسلام عام 1982.
البروفسور غونار ميردال (1987-1898) |
غونار ميردال واحد من أعلام الدراسات الاقتصادية
المعاصرة. لكنه كتب وتحدث ايضا في علم الاجتماع ، وطرق احيانا ابواب الفلسفة
والتاريخ. وأظن ان اهتمامه بعلم الاقتصاد على مستوى الدولة ، قد كشف له عن نقاط
التعارض بين ما يصنف كنفقات عامة ، وما يعتبر استثمارا في الجيل القادم ، من اجل
ضمان مستقبل البلاد.
كانت السنوات التالية لنهاية الحرب العالمية
الثانية (1939-1945) قد شهدت جدالات واسعة بين تيارين في السياسة الاوربية ، يدعو
احدهما الى "دولة
الرفاه welfare-state " التي تضمن للمواطن كافة الخدمات الاولية
الضرورية ، بينما يدعو الثاني الى "دولة
الحارس الليلي night-watchman state"
التي يقتصر دورها على حفظ الامن الاجتماعي وتمثيل البلاد في الخارج. واختار ميردال
النموذج الأول ، لأنه – أولا - يؤمن بان العدالة
الاجتماعية تتحقق من خلال التوزيع العادل للثروة ، وان هذا يعني تحديدا قيام
الدولة بتوفير الحاجات الاساسية ، التي لا يستطيع الناس توفيرها بمفردهم ، مثل
التعليم الاساسي والصحة وأمثالها. لكن مجادلته الأساسية تكمن في المبرر الثاني ،
وهو اقتصادي بحت ، خلاصته ان توفير الحاجات الاساسية للمواطنين ، ولو من خلال
زيادة الضرائب ، اشبه بالمال الذي يستثمره التاجر او الصانع ، كي يربح لاحقا. حين
توفر الدولة الخدمات العامة الاساسية ، فان الكفاءة الانتاجية للمجتمع سترتفع ، ويرتفع
تبعا لها الدخل القومي والفردي ، لا سيما عند الاجيال الآتية.
يرجع اهتمامي بالاستاذ ميردال الى دراساته القيمة
عن اقتصاديات النمو ، ولا سيما الارضية الاجتماعية للاقتصاد وملاحظاته على العلاقة
بين الثقافة والاقتصاد ، في كتابه الشهير "الدراما الاسيوية:
تحقيق في اسباب فقر الامم". وأريد الاشارة بالخصوص الى رؤيته حول دور
التعليم في صناعة السوق ، وهي تخالف - من حيث المبدأ - الرأي القائل بان على
التعليم ان يعمل بحسب حاجات السوق. والتي يبررها اصحابها بان الشباب يتعلم كي يضمن
وظيفة ، فلا بد له ان يكيف دراسته ، على النحو الذي يريده أرباب الأعمال. هذه
الرؤية جزء من منصور أوسع يركز على الانتاج وكسب المال كغاية. لكن ماذا عن الغاية
الاعلى ، اي الانسان نفسه؟.
يبدو لي ان الجدل في الفكرة سيقودنا الى نوع من
الدوران في حلقة مفرغة. فسواء اخذنا بهذا الرأي أو ذاك فسوف نصل الى الثاني ، اما
كوسيلة او كغاية. ومن هنا فان المسألة مجرد جدل لفظي. لكن الجانب الذي يستحق
الاهتمام هو حقيقة ان التعليم استثمار في العقول. وان العقول الناضجة بذاتها مصانع
للثروات ، وليس مجرد خبرات تؤجر لرب عمل ما. تؤكد هذا المعنى تجربة بنغالور
، المدينة الشهيرة بانها وادي السليكون الهندي ، فقد تجاوزت صادراتها
من الخدمات التقنية في العام الماضي 38 مليار دولار. هذه الاموال جاءت بشكل
رئيسي من عمل العقول. وهي مثال واقعي واحد على دور التعليم كصانع للسوق ، وليس
خادما للسوق. سياسات التعليم التي اختارتها الهند ، وفرت فرصة كي يتحول شبابها الى
قنوات تستقطب الأموال من أسواق العالم.
لمعرفة القيمة المقارنة
لهذه الصادرات ، أذكر ان مجموع العاملين في قطاع الخدمات التقنية بمدينة بنغالور يبلغ
مليونين تقريبا. بالمقارنة فان مجموع صادرات الهند الزراعية بلغت 52.5 مليار دولار في 2023 ، ويعمل فيها 152 مليون شخص. اي ان كل
عامل زراعي يوفر 324 دولار من الصادرات ، بينما نظيره العامل في مجال التقنية نحو
19,000 دولار.
اظن ان هذه مجادلة مقنعة بأن
توجيه التعليم كي يخلق السوق وبالتالي الاقتصاد ، خير من الاتجاه المعاكس ذي
الطبيعة الانكماشية.
الشرق الاوسط الخميس - 23 جمادي الأول 1445 هـ - 7 ديسمبر 2023 م https://aawsat.com/node/4713026
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق