لا بد ان الكثير من الناس قد تساءل بعد الفاجعة
الرهيبة التي شهدتها منى ثاني ايام العيد عن الحكمة من الزام الحاج برمي الجمار في
هذا الوقت الضيق ، من الزوال الى الغروب . وهو رأي فقهي تركه كثير من الفقهاء من
القدامى والمحدثين ، لكنه لازال الحكم المعتبر من جانب الاكثرية . لا يوجد دليل
قطعي لا نقاش فيه على منع الرمي في الاوقات الاخرى ، ولهذا فان بعض الفقهاء
المعاصرين اجاز الرمي ابتداء من الليل ، وقال آخرون بجوازه بدءا من طلوع الشمس .
حتى
اليوم فان العدد الرسمي للقتلى قد تجاوز 360 شخصا ، وهناك المئات غيرهم في المستشفيات
، نسأل الله لهم العافية . وللاسف فان هذه المشكلة قد تكررت في معظم الاعوام
الماضية. وهي تجربة تؤكد استحالة السيطرة الكاملة على حركة ما يقرب من مليوني شخص
، يريدون جميعا اداء الرمي خلال اقل من ست ساعات.
ومن
المحتمل ان تتفاقم المشكلة ، مع تزايد عدد الحجيج في المستقبل ، حيث تشير
التقديرات الى زيادة سنوية ثابتة لا تقل عن خمسة بالمائة . اي اننا نتحدث عن حوالي
مائة وخمسين الف حاج اضافي كل عام .
كي
نسهل لهذه الاعداد المتزايدة اداء النسك ، فاننا بحاجة الى استعدادات مناسبة ، على
مستوى الاسكان والنقل والغذاء والطاقة والامن وغيرها . لكن ماذا عن الجانب الفقهي
؟.
في
ازمان سابقة ، حين كان الحجيج قلة ، وكان الامن معدوما ، اجاز الفقهاء الرمي مبكرا
او متاخرا اتقاء للحيوانات المفترسة او قطاع الطرق . وهي مشكلة غير قائمة اليوم ،
لكن الحكم فيها يعد اشارة الى عقلانية الفقيه في التعامل مع موضوع الحكم الشرعي .
من البديهي ان الشارع يريد حكما قابلا
للتطبيق على النحو الامثل . ولهذا قيل بان الاجتهاد لا يعني الحصول على حكم فقط ،
بل الحصول على حكم في تطبيقه مصلحة بينة . ولا شك ان ازهاق النفوس هو اكبر المفاسد
. اشرت آنفا الى انه لا يوجد سبيل لضمان سلامة مليوني حاج يتحركون في مساحة
محددودة في وقت ضيق يقل عن ست ساعات . وليس من الحكمة – ولا من الممكن – منع الناس
من الحج . ولهذا فان الحل الوحيد الباقي هو توسيع الفسحة الزمنية المسموح بها لرمي
الجمار كي تبدأ من مغرب اليوم السابق ، على القول بان المغرب هو اول اليوم او من
منتصف الليل الى منتصف الليل على القول الاخر.
اقول
ان هذا الراي الذي توصل اليه بعض الفقهاء الان ، يحتاج الى تعميم ، ونتوقع من جميع
الفقهاء الاخرين ان يفتوا به ، خاصة مع عدم الاجماع على خلافه.
نشير
لهذه المناسبة ايضا الى مسألة التضحية ، فطبقا لتقديرات شبه رسمية فان سبعمائة الف
من الاضاحي تذبح ثم تحرق او تدفن ولا يستفيد منها احد . والسبب في ذلك هو - مرة
اخرى - العدد الهائل للاضاحي في وقت ضيق جدا . ومنذ بضع سنوات نظم بنك التنمية
الاسلامي مشروعا ضخما لاعادة توزيع الاضاحي المذبوحة على فقراء المسلمين ، لكن هذا
المشروع لا يفي بالغرض لا سباب فنية واقتصادية . ان اقصى ما يمكن اعادة نقله الى
الدول الفقيرة لا يتجاوز في احسن الحالات ربع الاضاحي ، وتتوزع نسبة قليلة على
فقراء الحرم والجوار ، اما النسبة الغالبة فتذهب الى المدافن او المحرقة .
وفي هذا
الوقت فان مئات الالاف من الناس ، من المسلمين وغيرهم يموتون من المجاعة او سوء
التغذية في بقاع اخرى من العالم . ترى اليس من العقلاني ذبح بعض هذه الاضاحي في
كشمير لمساعدة ضحايا الزلزال الاخير الذين فقدوا كل مقومات حياتهم . وذبح البعض
الاخر في النيجر التي مات عشرات الالاف من المسلمين فيها ، ولا سيما من الاطفل
بسبب المجاعة وسوء التغذية ؟ . ان الاضاحي التي تدفن او تحرق في منى يمكن ان تطعم
ملايين من البشر في الدول الفقيرة طيلة عام كامل ، فتحفظ نفوسا بريئة هناك ، وتعمم
بركة الحج على المساكين وذوي الحاجة في كل مكان من العالم .
قبل
بضعة اعوام اجاز اية الله الخميني للحجاج الايرانيين دفع قيمة اضاحيهم لضحايا
زلزال كان قد ضرب غرب ايران . وسجل بذلك سابقة في الربط بين الحكم الشرعي والمصالح
العقلائية المبتغاة من ورائه ، فهل نرى اليوم فقهاء آخرين يتحلون بالشجاعة والقدرة
على اعادة تاسيس الاحكام الشرعية على المصالح العقلائية الواضحة للمسلمين ، كي
يفتوا للحجاج بتوجيه قيمة اضاحيهم لاعادة اعمار مدن المسلمين المدمرة في اندونيسيا
وكشمير وافغانستان والشيشان ، وتوفير المياه الصحية والدواء للمسلمين في النيجر
وتشاد ومالي وغيرها من المجتمعات المسلمة التي يموت اهلها بسبب المياه الملوثة
وسوء التغذية والفقر ؟.
الاسلام
اليوم بحاجة الى نهضة ، ليس في المجال العمراني والثقافي فقط ، بل في المجال
الفقهي ايضا ، ولا سبيل الى ذلك غير التحرر من القوالب الضيقة المتوارثة في الفقه
، واعادة الارتباط بين الاحكام الشرعية وواقع حياة المسلمين .
الايام
17 يناير 2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق