31/01/2006

الوجه الاخر لعاشوراء


صحيح ان احياء مناسبة عاشوراء يتمحور حول التذكير بما جرى في الماضي السحيق ، لكنها ليست مجرد حديث يتلى على المستعمين كما يحصل في الخطب الاعتيادية ، بل هي اقرب الى نوع من الاستذكار الجماعي لتجربة تمتزج في اطارها الفكرة بظرفها العاطفي وتبريرها الديني وصورتها الشعرية . انها ممارسة تفاعلية يتحول خلالها المستمعون جميعا مع خطيبهم الى جزء من القضية التي يروونها ، اي تجربة روحية مشتركة تتوحد خلالها مشاعر الافراد للتاكيد على الهوية او اعادة ترسيم مقومات وعناصر هذه الهوية .

ترى هل نستطيع استثمار التاثير الثقافي والروحي الهائل الذي ينطوي عليه هذا الموسم لصياغة حياتنا على النحو الاحسن ؟

نفهم بالبديهة ان الغرض الاسمى للدين هو الارتقاء بحياة الناس في مدارج السعة والقوة والتقدم المادي . لكن في المقابل فان جانبا مهما من ثقافتنا الدينية ، وبينها بالطبع الثقافة التي نتلقاها في موسم عاشوراء ، لا ترتبط من قريب ولا بعيد بالحياة التي نعيشها ، بل ان بعضها يؤدي فعليا الى تغريب الانسان عن عصره وفصله عن محيطه الحيوي الكوني . ولعل سبب هذه الحالة يكمن في فشلنا كمثقفين في التوصل الى معادلة سليمة في العلاقة بين الدنيا والاخرة . تؤكد الثقافة الاسلامية على الاخرة باعتبارها الحياة الحقيقية التي تستحق التضحية والعناء . وتؤكد في جانب آخر على الحياة الدنيوية كمجال لاختبار اهلية الانسان للفوز باعلى المراتب في الاخرة . و لهذه الغاية فهي تدعو المسلمين الى اكتساب اسباب القوة المادية والعلمية التي تؤهلهم لقيادة العالم .

نجح مسلمو العصور السابقة في التوصل الى علاقة مناسبة بين دنياهم وآخرتهم ، ولعل هذا من بين اسباب نهوضهم الحضاري . لكن من البين ان مسلمي هذا العصر ما زالوا يقفون على ابواب الحيرة ، ولهذا فان مساهمتهم في الحضارة القائمة يعد صفرا او قريبا من الصفر . نحن لا نساهم في حضارة الاخرين لاننا منفصلون عنها روحيا وثقافيا ، ولا نسعى لتخليق نموذجنا الحضاري الخاص لاننا لا نعرف من اين نبدأ . ولهذا فاننا نعيش على حاشية الحضارة ، لا راضين عنها كي نشارك فيها ولا في غنى بما عندنا كي ننفصل عنها.

نفهم بطبيعة الحال ان الاسلام لايتحمل وزر ما وصلنا اليه . في كل الاحوال فان الدين الحنيف ينطوي على خيارات متعددة : كقوة تعبئة ونهوض كما حصل في ماضي الزمان ، او كوسيلة تبرير لواقع الحال كما يحصل في هذا الزمان . وفي ظني ان جوهر مشكلة المسلمين اليوم تكمن في ضياع الاولويات او ضياع البصيرة كما في التعبير التراثي . ولعل ابرز الامثلة على ذلك هو فشلنا في الاتفاق على تحديد المسار الرئيسي لحياتنا : هل هو مسار توافق وانسجام مع التجربة الانسانية الكونية او هو مسار انفصال عنها . لكل من الخيارين تبعات وعواقب لا بد من وعيها واحتمالها .

 اذا قررنا التواصل والانسجام فسوف يتوجب علينا التضحية ببعض ما نعتبره من المسلمات والبديهيات من ثقافتنا او تقاليدنا او متبنياتنا وحتى بعض مفاهيمنا الدينية . واذا قررنا الانفصال فان علينا ان نقيم بديلا يستطيع منافسة الحضارة القائمة ماديا ومعنويا ، والا فانه سيكون مجرد اعتزال للعالم ، قد يؤدي في نهاية المطاف الى القضاء علينا تماما مثل ما حصل للهنود الحمر . هناك بطبيعة الحال الخيار الراهن ، اي المساوقة بين الانسجام والتخارج ، وهو ليس خيارا بالمعنى الدقيق فنحن نتبعه بسبب العجز عن الاختيار. وهو على اي حال ليس المثال الافضل لامة تحترم نفسها وقدراتها.

بديهي ان الانسجام والتوافق مع التجربة الانسانية الكونية هو اكثر الطرق عقلانية وفائدة ، لكنه لا يعني النقل الحرفي وتقليد ما عند الاخرين من دون تمحيص . نحتاج في حقيقة الامر الى تطوير علاقة نقدية ثنائية الاتجاه ، تشمل نقد عناصر ثقافتنا على ضوء نظائرها في العالم ، ونقد ما لدى العالم على ضوء ثقافتنا ، ومحاولة اختيار الافضل والاكمل من دون تحجر او انحياز لما عندنا او ما عندهم . اذا اردنا ان نبدأ فعلينا ان نبدأ بالقيم المؤسسة للحياة ولا سيما قيمة الحرية وقيمة العلم . قيمة الحرية تعنى ان جميع الناس احرار في اعتقاداتهم ومتبنياتهم وسلوكياتهم ، وانه لا يجوز لاحد ان يفرض على غيره اعتقادا او سلوكا من دون رغبته . وقيمة العلم تعني ان نتاج العقل البشري هو الارضية الصالحة التي تقوم عليها الافعال ، وانه يجب تحرير العقل والعلم من قيود التقاليد والافهام الجاهزة ، وبشكل عام ، تحريره من سلطة المجتمع .

عاشوراء يمكن ان يكون مناسبة للامعان في تغريب الانسان عن عصره ، ويمكن ان يمثل فرصة عظيمة لاعادة ربط الانسان بعصره ودفعه الى الارتقاء في مدارج الحياة الدنيا . وفي هذه النقطة تحديدا تتحقق فكرة خلود الدين ، وتمكينه من اغناء الحياة وريادتها . بينما لا يكون الدين في الحالة الاولى سوى تراث قديم تتناقله الاجيال كما يرث الابن كتب ابيه . بديهي ان الامنية الغالية لكل خطيب ومتحدث في هذه المناسبة ، هي تقديم الدين كمحرك حي متفاعل مع الحياة المعاصرة ودافع لاتباعه الى النهوض والغلبة . واذا كانت المسألة على هذا النحو ، فاني ارجو ان يسعى الخطباء خاصة الى تبصير مستمعيهم بالحاجة الى التواصل مع الحضارة الكونية القائمة ، باعتبارها الاولوية المطلقة للنهضة . كما اتمنى ان يؤكدوا على الحاجة الى صياغة فلسفة لحياتنا الجديدة تقوم على قيمتي الحرية والعلم . نحن نحتاج الى الحرية كي نعيش ، ونحتاجها كي نفكر ، كما نحتاج العلم كي نكتشف ما لا يزال خبيئا من طاقاتنا ومجهولا في حياتنا وعالمنا.

الايام 31 يناير 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...