24/01/2004

أم عمرو وحمار أم عمرو


حين تقع العين على كلمة مثل "البيروقراطية" في صحيفة فان ذاكرة القاريء تستحضر صفات اصبح تلازمها مع البيروقراطية شبه بديهي ، منها مثلا البطء والجمود والتحكم واحيانا البلاهة. وقبل بضعة اسابيع كتب د. حمود البدر مقالة ظريفة اخبرنا فيها عن قصة حمار ابتلي به بيروقراطي صغير فكلف الخزينة العامة اموالا كما استهلك الكثير من الوقت والورق ، لا لشيء الا لان القانون لم يلحظ احتمالا مثل القبض على حمار، اما البيروقراطي الصغير فكان عاجزا عن فعل شيء دون تعليمات ، كما ان رئيسه البيروقراطي الكبير لم يشأ تخويل مرؤوسه صلاحية اتخاذ القرار المناسب في امر الحمار، وانتهى الامر على طريقة العربي القديم :
 لقد ذهب الحمار بام عمرو
فلا رجعت ولا رجع الحمار
  لكن على رغم ما قيل في البيروقراطية من هجاء ، فان لها وجها مشرقا وان قل مادحوه . بل لقد اعتبرها ماكس فيبر وهو من اباء علم الاجتماع المعاصر سمة اساسية من سمات الدولة الحديثة . نحن نعرف الكثير عن بيروقراطية الحمار ، لكننا لا نلتفت غالبا الى ان الحمار ليس مشكلة البيروقراطية بذاتها بل مشكلة البيئة القانونية او الادارية التي يعمل فيها البيروقراطيون . ولهذا فانك قد تجد نظائر لمشكلة الحمار في بعض الشركات الخاصة والصحف وحتى في بعض العائلات.
 لو اصلحنا البيئة القانونية والادارية للادارة الحكومية فسوف تكون البيروقراطية محركا للتحديث والتطوير ، وسوف توفر على القادة السياسيين الكثير من العبء النفسي والمادي الذي يتحملونه من وراء خطايا البيروقراطيين.
 تتناول الاصلاحات المعنية هنا ثلاثة عناصر متفاعلة: القانون ، الصلاحيات ، والرقابة.
 ثمة جدلية يبدو انها سائدة في معظم الدوائر الحكومية ، تتعلق بالوزن النسبي لكل من نصوص القانون المكتوب وتعليمات الرئيس ، فالبديهي ان واجب الموظف الحكومي هو تطبيق القانون بالحد الاقصى من الالتزام بنصوصه.  لكن ما يحصل عادة هو ان تعليمات الرئيس تتمتع بفوقية مفتعلة بحيث تحل محل القانون . ويزيد الامر سوءا حاجة الموظف لارضاء رئيسه مما يحول العلاقة بينهما الى نوع من الاستزلام . كما ان شعور الرئيس بالقدرة على فرض سلطته تشجعه على المضي قدما في تحويل ادارته الى ما يشبه مجلس العائلة حيث تسوى الامور بالتراضي وليس بموجب القانون ، وتتخذ القرارات بناء على معايير شخصية لا موضوعية .
لمعالجة هذه الحالة فاننا نحتاج الى :
1- تطوير الصيغ القانونية العامة التي يفترض ان تحكم عمل الادارات الحكومية الى لوائح عمل تفصيلية ، تشرح طبيعة الاهداف التي انشئت الادارة لتحقيقها وصلاحيات الموظفين في مختلف المراتب والحقوق/الواجبات المتبادلة لكل من الموظفين والمراجعين ، والمعايير المعتمدة لقياس اداء الموظف فيما يتعلق بتحقيق الاهداف.
2- توزيع الصلاحيات : التقليد الجاري في الادارة الحكومية يفترض ان يعجز صغار الموظفين عن اتخاذ قرار فيرسلون المعاملة الى رئيسهم الذي يلعب هنا دور "ماكينة التوقيع". ثمة قضايا لا تحتاج اصلا الى مراجعة اي دائرة حكومية ، لكن رغبة الاداريين في تأكيد سلطتهم (وربما رغبتهم في قتل الوقت) هي التي تجعلهم يفرضون على الناس مراجعات وكتابة عرائض والتوسل بهذا وذاك لانجاز اعمال ليست من شأن الادارة الحكومية اصلا. وعلى نفس المنوال ، فان كثيرا من المعاملات التي تقدم للدوائر الحكومية يمكن ان تنجز في دقائق بواسطة موظف صغير ، لكنها تنقل الى الاعلى بسبب رغبة الكبير في تأكيد وجوده ، وخوف الصغير من تحمل المسؤولية ، ولهذا فقد تجد على طاولة وكيل وزارة طلبا لاستقدام عامل او اذنا في صرف الف ريال او منح اجازة اسبوع لموظف او شراء قطعة غيار رخيصة لسيارة .. الخ . نحن بحاجة اذن الى توزيع الصلاحيات بصورة مناسبة وطمأنة الموظف الصغير الى حقه في البت في المعاملات التي تاتيه دون خوف من تحمل المسؤولية المترتبة عليها .
3- الرقابة:  تتطور البيروقراطية بفعل الضغط الاجتماعي وليس بسبب الرقابة الداخلية . الضغط الاجتماعي يتحقق من خلال الصحافة ومؤسسات المجتمع المدتي ومبادرات الافراد ، ويتضمن نقد الممارسات الخاطئة ، واقتراح البدائل. وتظهر تجربة السنوات الاخيرة ان الصحافة كانت فعالة في تحسين اداء الادارة الحكومية. ولكي نحقق المدى الاعلى من فوائد الرقابة الاجتماعية ، فينبغي المطالبة بشفافية العمل الاداري ، بما في ذلك جعل القوانين والتعليمات جميعها علنية. كما ان الصحافة مطالبة بالتحول من دور الراوية الى دور المحقق ، وحينئذ ستكون صوت المجتمع واداة ضغطه. الصحافة المنشغلة بالمدائح لا تساهم في الاصلاح ، الصحافة التي ترسل رجالها للتحقيق في القضايا واستنطاق الاوراق والبشر والكشف عن الخبايا هي التي تستحق وصف "السلطة الرابعة".




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...