أيام القمة العربية كانت فرصة
لسكان الرياض كي يكتشفوا واحدا من عيوب المركزية الادارية. لاربعة ايام كان الجو
شديد الهدوء والهواء نظيفا. وتحول معظم السائقين فجأة الى اناس مسالمين لا يسابقون
ولا يغضبون ولا يطلقون زمامير سياراتهم على اعنتها، ولا يواصلون كبس الضوء العالي
كي يجبروا من امامهم على اخلاء الطريق الممتلئ اصلا. وكان في وسع الناس ان يصلوا
الى مقاصدهم في دقائق، مقابل ساعة او نحوها في الايام السابقة.
في هذه الايام
نفسها اكتشف سكان المنطقة الشرقية واحدا من فضائل اللامركزية، فكثير من سكان
الرياض الذين حصلوا على اجازة خلال ايام القمة جاؤوا الى الشرقية كي يتبضعوا او
يستمتعوا بربيعها الجميل، فشهدت المطاعم والفنادق والاسواق ازدهارا استثنائيا،
واستمتع الناس باوقات سعيدة مع عائلاتهم واطفالهم. لا يمكن بطبيعة الحال عقد قمة
عربية كل اسبوع كي يواصل الناس استمتاعهم بما يحصل على حاشيتها.
لكن المؤكد ان
كثيرا من سكان الرياض ومثلهم من سكان الشرقية قد تساءلوا: اليس من الافضل توزيع
الثقل السكاني بين مناطق المملكة بدل تركيزه في المدن الكبرى؟. قبل قرون كتب
عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته المشهورة ان العمران يتطلب زيادة السكان وكلما زاد
سكان بلد زادت الصنائع فيه وتوفرت اسباب المعيشة. وهذا ما يسمى في ادبيات التنمية
اليوم بالتحضير حيث يعتبر نمط المعيشة المديني ضرورة لقيام اقتصاد حديث.
في هذا
السياق فان ابرز الفوارق بين المدينة والقرية هو الحجم السكاني الذي تجعل اقامة
الخدمات العامة والنشاط الاقتصادي
بشكل عام مجديا وجذابا، وهو ما لا يتوفر في القرى قليلة السكان. ولو قدر لابن
خلدون ان يرى حال المدن المزدحمة اليوم فلربما غير رأيه، او وضع – على اقل
التقادير- حدا اعلى لزيادة السكان في المدن كما فعل اقتصاديون وعلماء اجتماع
معاصرون. لا شك ان ضآلة عدد سكان القرية تجعل اقتصادها هشا ومحدودا، كما ان ضخامة
مجتمع المدينة يجعل اقتصادها نشطا ومتنوعا.
لكن ثمة معادلة حرجة هي اشبه بمسار
ينتهي عند نقطة محددة. قبل هذه النقطة يكون الحجم السكاني الكبير مثاليا للاقتصاد،
ولكنه يتحول من بعدها الى عقبة ومصدر لانواع من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية
والنفسية والامنية وغيرها. ربما لا يحسب كثير من الناس القيمة المادية وغير
المادية للوقت الذي ينفقونه في الطريق الى اعمالهم. اذا كنت من سكان الرياض او جدة
فالمقدر انك تضيع ساعة ونصف الساعة يوميا تقريبا بسبب الزحام.
هذا الوقت الذي يبدو
قصيرا، يعادل عشرة بالمائة من الوقت المفيد للعمل (16 ساعة في اليوم). وتقاس
الخسارة الاجمالية بضرب مجموع عدد الاشخاص الذي يحصدون هذه الخسارة في متوسط قيمة
ساعة العمل. واظن ان حسابا من هذا النوع سيكشف عن خسائر سنويا بمئات الملايين. لكن
هذه ليست الخسارة الوحيدة، اذ يضاف اليه استهلاك السيارة نفسها واستهلاك الوقود،
وهي نفقات غير مرئية لكنها حقيقية.
ويضاف اليه ايضا التدمير المنتظم للبيئة بسبب
الكميات الهائلة من الكربون والملوثات التي تقذفها محركات السيارات في الهواء. كما
يضاف اليه الخسائر على المستوى الشخصي، فالشوارع المزدحمة هي الاماكن الطبيعية
للتوتر النفسي والقلق الذي يؤدي مع التكرار الى تدهور في الصحة البدنية والجسمية.
اذا تركنا الطرق وازدحامها، ونظرنا الى المسألة من زاوية التخطيط الحضري، فان
التزايد العشوائي للسكان يثمر عن ضغط شديد على الخدمات العامة كالتعليم والصحة والخدمات
البلدية وغيرها، وهذا يؤدي بالتأكيد الى انخفاض كفاءتها او انخفاض مستوى الخدمة
المقدمة.
في الحقيقة فان هذه المشكلة جعلت مؤسسات الخدمة العامة في كثير من
البلدان عاجزة عن القيام بواجباتها، وكان الحل الوحيد هو ترك الناس يدبرون انفسهم.
من يريد العيش في مدينة كبيرة فعليه ان يتحمل نفقات علاجه وتعليم ابنائه واحيانا
تفريغ برميل الزبالة امام بيته وهكذا. صحيح ان زيادة السكان تؤدي الى نشاط اقتصادي
اضافي، لكنها - اذا تجاوزت حدا معينا - فسوف تعود الى استلاب الفوائد من خلال
المسارات التي اشرنا اليها.
المدينة المزدحمة اشبه برجل يسرف في الاكل كي يستمتع
بماله، لكنه يعود فينفق جزءاً اكبر على معالجة الامراض الناتجة عن التخمة
والاسراف. الحل الوحيد لهذه المشكلة يكمن في تطبيق اللامركزية الادارية. معظم
الازدحام ناشئ عن تمركز اوعية التوظيف الاساسية (الدوائر الحكومية والشركات الكبرى)
في العاصمة، من دون ضرورة سوى ان العادة قد جرت على هذا النحو. اللامركزية تعني
نقل الكثير من الادارات من العاصمة، واهم من ذلك تهيئة السبل القانونية كي يستغني
الناس عن الذهاب الى العاصمة لانجاز كل عمل صغيرا كان او كبيرا.
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070411/Con20070411102590.htm
عكاظ - الاربعاء
23/03/1428هـ--- 11/ أبريل/2007 العدد :
2124
مقالات ذات
علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق