في ما مضى من الزمن كان يقال انه لا يمكن وضع مقاييس مالية
لتقييم كفاءة البيروقراطية الرسمية، لأنها لا تستهدف الربح بل الخدمة العامة.
والخدمة العامة بطبيعتها انفاق من دون عائد فوري او ملموس. بخلاف الادارة التجارية
التي تستهدف مباشرة زيادة الارباح من خلال زيادة الانتاج وتخفيض الكلف، والتي لهذا
السبب يمكن قياس كفاءتها بالرجوع الى حجم الارباح وحجم الخسائر. لكن اقطاب الموجة
الجديدة، وابرزهم -ربما- البنك الدولي، يرون جانبا آخر للمسألة. الادارة، ايا كانت
طبيعتها، عمل انساني قابل للقياس والتقييم بالرجوع الى اهداف معينة ومسار عمل
معين.
في بداية القرن الماضي شدد ماكس فيبر على اهمية البيروقراطية ودورها في
عقلنة السياسة وتحديث الحياة العامة. واشار خصوصا الى العنصر الجوهري في
البيروقراطية، اي اعتمادها على القوانين والتعليمات المكتوبة، الامر الذي يسهل
المتابعة والمحاسبة ويخفف من الطابع الشخصي في العمل العام. نحن اليوم في عالمنا
العربي نضيق من بطء البيروقراطيين وترددهم، لكن هذا افضل على اي حال من ادارة
مفككة يعمل كل رئيس فيها بحسب مشتهياته واهوائه، وربما مصالحه وتوجهاته الشخصية.
لكننا مع ذلك بحاجة الى وضع نظام يحول دون تحول الادارة من صورتها المثالية كوسيلة
لخدمة الجمهور، الى مؤسسة خاصة للافراد النافذين او ذوي المصالح. او ربما تحولها
من وسيلة لتسهيل وتطوير الخدمة العامة الى عائق يسد ابواب الخير على الناس باسم
القانون او باسم المصلحة العامة. ولهذا السبب بالتحديد ظهرت الموجة الجديدة التي
تسعى لنزع الصورة السلبية التي ارتسمت في اذهان الناس عن البيروقراطية وقدرتها
الفائقة على التعطيل والاعاقة. في فبراير 2005 استضاف الاردن مؤتمرا شاركت فيه 16
دولة عربية، لمناقشة العلاقة بين الادارة والتنمية. وكشفت مناقشات المؤتمر عن
خسائر بمئات الملايين يتكبدها العالم العربي بسبب سوء الادارة. وضرب المشاركون امثلة
كثيرة على تلك الخسائر، ومن بينها تعطيل استثمارات محلية واجنبية كانت ستوفر فرص
عمل جديدة، وبينها ايضا مشروعات حكومية كانت سترفع الدخل القومي وتحسن مستوى
المعيشة، وصولا الى ابطاء او اعاقة تحديث قطاعات الخدمة الحكومية.
حاولت مؤسسات عديدة وضع معايير للإدارة الصالحة، من بينها
البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وبرنامج الامم المتحدة الانمائي،
واخيرا منتدى التنمية في مؤتمره الخامس والعشرين الذي انعقد في البحرين مطلع 2004.
بالنسبة لهذه المؤسسات جميعا فان الاهداف الكبرى للادارة الحكومية هي: الارتقاء بمستوى
معيشة المواطنين، حماية حقوقهم المدنية والمعالجة العقلانية للمشكلات التي تظهر في
البيئة الاجتماعية. وبناء على هذه الاهداف فإن كل عمل مضاد او معطل لواحد منها
يعتبر فسادا.
تختلف المعايير التي وضعتها كل من المؤسسات المذكورة عن
بعضها في جوانب محددة، لكنها تتفق على مبادئ اساسية، من بينها: الشفافية، اي جعل
عمل الادارة علنيا وقابلا للكشف لعامة المواطنين، واخضاع كل الاعمال للمساءلة
والمحاسبة بغض النظر عن شخص المدير او رتبته، ووجود هيئات محايدة يرجع اليها
المواطنون عند التنازع مع المؤسسات الحكومية. وأظن أن أبرز مشكلات الادارة في
البلاد العربية هو افتقارها للحياد. ومن المؤسف ان هذا الجانب لم يتعرض للنقاش
والدراسة بشكل مركز وموضوعي. الادارة العامة غرضها الخدمة العامة، ويجب ان يتم هذا
من دون التفات الى أي جانب. بعبارة أخرى فإنه ينبغي التأكيد على ضرورة أن تكون محايدة،
لأن حيادها واجب وضرورة وإلا دخلت في نفق الفساد، مهما حاولت اتقاءه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق