10/01/1995

قراءة أهـل الشك


يعتبر محمد اركون (1928-2010) واحدا من اكثر المفكرين اثارة للجدل ، بل الغيظ في بعض الاحيان  ، فمنذ اطلالته الاولى على القاريء العربي ، لفت الانظار الى جملة من  القضايا المسكوت عنها في تاريخ الفكر الاسلامي ، وعندما عالجها فقد انطلق من موقع الشك في الفوارق التي تقام عادة للتمييز بين اهل التاريخ واهل الحاضر.

والحقيقة انه بدأ بالتشكيك فيما يعتبره هالة من القداسة ، احيط بها عدد من الاسماء ، من سياسيين او فقهاء او مفكرين ، ممن شاركوا بنشاط في الحياة الثقافية للعالم الاسلامي ، في مراحل صعوده الحضاري ، فبدأ بنقد اعمالهم ، وانتهى الى التشكيك في سلامة مواقعهم ، ضمن التسلسل المتعارف عليه لتاريخ الفكر .
لذلك فان عددا كبيرا من القراء سيصاب بالدهشة ، حينما يقرأ مطالعاته في التراث الثقافي الاسلامي ، ولابد ان بعض هؤلاء سيصاب بالضيق ، للجرأة الشديدة التي تميز قلم اركون ومعالجاته .
اللامفكـر فيـــه
وينطلق محمد اركون في معالجاته القاسية تلك ، من بديهية اقام عليها كثيرا من تنظيراته ، فحواها ان الفكر الذي ورثناه من اسلافنا ، قد كتب على يد فريق اجتماعي محدد ، لايمثل بالضرورة  كامل شرائح المجتمع الاسلامي ، وبالتالي فانه لايعكس الصورة الكاملة للحياة الثقافية والاجتماعية للمسلمين في عصورهم السابقة ، بل ثمة جانب يعتبره شديد الاهمية من التراث الاسلامي بقي مغفلا وممنوعا من الانتشار ، فلم يصلنا من بحره الا قطرات ، تكشف دراستها عن ملامح الوجه الآخر للحياة والثقافة ، التي نطلق عليها عنوانا اجماليا ، هو التراث الاسلامي .
ولهذا السبب فانه يلح على الضرورة العاجلة لدراسة مايسميه (اللامفكر فيه) في التراث الاسلامي ، ويعتبر نجاحه في تسليط الاضواء على هذا الجانب ، وتشخيصه وتشجيع الاخرين على تناوله ، رهان حياته الفكرية الرئيس .
 ويعتمد اركون في مقارباته على اثارة الاسئلة ، وفصل التفسيرات والشروح التي تشكلت حول النص الديني ، عن تدعيماتها النصية الجانبية ، التي تمنحها ـ حسب رأيه ـ حالة التعالي والتجرد ، كما يوجه النقد الى التاريخ الخطي للافكار ، باعتباره يعكس راي الطبقة المدنية من اصحاب الفكر وحسب .
منــهج غــربي
 وقد تعرض منهجه في قراءة التاريخ والثقافة ، لنقد شديد من جانب مفكرين ، شعروا بالقلق ، من ان محاولاته النقدية تستبطن رغبة في تهميش ، بل تحطيم قواعد قام عليها التفكير الاسلامي ، استنادا الى موازين فلسفية او منهجية ، تنتمي الى المجال المعرفي الغربي ، المادي التاسيس وغير المحايد فيما يتعلق بالاسلام كعقيدة ومنظومة قيم ، والامة الاسلامية ككيان وتجربة تاريخية .

ولايخفي اركون في اي من كتاباته المنشورة في اللغة العربية ، اعتقاده الراسخ بان الارث الثقافي للامة الاسلامية ، بحاجة الى دراسة جديدة ، تتناول خصوصا اعادة تقييم ماوصل الينا ، وماجرى تصنيفه خلال الازمنة الماضية ، من التاريخ الاسلامي ، في دائرة الثابت الفكري او الاعتقادي ، اوفي دائرة المتغير العلمي والتطبيقي .
ويعتقد انه لانجاز هذه الدراسة ، فاننا بحاجة الى استثمار مكثف للمنهجيات العلمية في نقد المعرفة ، التي تطورت في الغرب ، باعتبارها مناهج بحث ذات صفة علمية انسانية محضة ، نافيا المضمون الايديولوجي الذي يُـدّعَى انها تنطوي عليه .
استشراق جديد
ويقول ناقدو اركون انه منهجه ليس سوى تجديد لمدرسة الاستشراق ، التي درست الاسلام من منظورات غربية ، وخرجت بصور مشوهة عن الحقائق الاسلامية .
وبدروه فان محمد اركون يعطي قيمة كبيرة على المستوى الفكري لجهود عديد من الغربيين الذين درسوا الفكر الاسلامي ، ويظهر في ثنايا ابحاثه ثناء متكرر على كشوفاتهم ، التي لم يستطعها نظراؤهم المسلمون ، لسبب يتعلق بالمسار التاريخي ، الذي تشكل خلاله مايصفه بالعقل الكلاسيكي الاسلامي ، الذي تأسس ضمن مركبات بعضها عقلاني اولي وبعضها متعال ، مقدس او غيبي .
لكنه من ناحية ثانية يوجه نقدا شديدا ، الى طائفة من المستشرقين والدارسين الاجانب ، الذين رضوا باعتماد الفكر المتشكل بعد تفسير النص ، باعتباره مصدرا اصليا لدراسة الاسلام ، وهو يرى ان هذا الفكر قد ادى الى تشكيل خاص لمعاني النص ، وانعكاساته الفلسفية وتطبيقاته ، تكوّن مايمكن اعتباره ايديولوجية مجتمعية مستقلة عن النص (الاصل) ، وهو يرى في هذا المنهج الذي يدعي الامانة العلمية بالاعتماد على تلك المصادر ،  ممارسة سطحية في البحث.

اسئلة تلد اسئلة
ويكاد القارىء المتامل لابحاث الاستاذ اركون ، يشكك احيانا في قدرته على تقديم بديل معقول عن المنهجيات التي يتناولها بالنقد ، ذلك ان المطبوع من ابحاثه يبدو كما لو كان تحويما لاينقطع ، حول عدد كبير من القضايا الفكرية والمنهجية ، التي يتناول كلا منها بالنقد الشديد ، وهو يدعم بعض نقده بتدليلات كافية ، ويترك البعض الاخر دون الحد الادنى الضروري من الاستدلال .
وربما ادى افراطه في حشد القضايا التي يطرحها للمعالجة ، سواء تلك التي يستهدفها بصورة رئيسية ، او تلك التي يستشهد بها استطرادا ، الى قصر قرائه على عدد قليل من المحترفين واهل الاختصاص ، وهؤلاء بدورهم لايجدون لديه الا القليل من الكشوفات الجديدة ذات القيمة الرفيعة .
 لكن الذي لايمكن انكاره ، ان محمد اركون واحد من تلك الطبقة من الباحثين ، الذين يضطرون قارئهم الى التامل العميق في مايكتبون ، فما يثيره من الاسئلة  اكثر مما يجيب عنه ، وتلك لعمري ميزة لايتمتع بها سوى قليل من الكتاب ، يشعر القاريء انه ـ وهو معهم ـ رفيق للمعاناة والالم لحظة الشك ولحظة الكشف ، المعاناة التي يظن بها كل رفيق للفكر أو محب .
اليوم 10 يناير 1995




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...