جادلني احد الزملاء بانه حتى لو افترضنا فائدة في الحديث عن الوطنية او القومية ، فانه لا ضرر من تأجيله. فاجبته بان كل شيء يحتمل التأجيل ، اهم الأشياء مثل اقلها قيمة ، طالما لم يكن علاجا لوباء كورونا.
لكن بدا لي دائما ان "العودة للذات" مهمة مزمنة ، ينبغي للمجتمعات الاهتمام بها ، لا سيما في ظروف التحول. الغرض الوحيد لمراجعة الذات والتفكير فيها هو الإجابة على سؤالين:
الأول: هل انا الذي احدد مساري ومقصدي ، ام انا فرد في
حشد يقوده "أخ أكبر" أو حتى "عقل جمعي" الى مقصد لا أعلمه ولا
أشارك في تحديده؟.
الثاني: مع علمنا بان الانسان بطبعه مجبول على التزام
الجماعة ، إلا ان علاقته بها تستدعي سؤالا جديا حول تحديد الجماعة المعنية ، سيما
في الظروف التي تستدعي المفاضلة والاختيار. ولعل معظم القراء الاعزاء ، يذكر الجدل
الذي عرفته البلدان العربية في تسعينات القرن المنصرم ، حول التفاضل بين الانتماء
الى الوطن/العروبة/الإسلام. والحقيقة ان هذه الأسماء الكبيرة ، كانت ستارا لجدل ضمني
(اكثر جاذبية) حول أولوية العائلة ، القبيلة ، المنطقة ، المذهب ، والتيار الديني
او السياسي. وأعلم ان بعض المتحذلقين من حملة الألقاب الدينية ، قد وضع سياقا
تبريريا ينتهي الى تفضيل التيار او الجماعة السياسية ، ويلقي عليها عباءة
"جماعة المؤمنين".
لا بد من القول أيضا ان الأمة ، أي امة ، هي ذات جمعية حقيقية
، قد تستهين بقيمتها يوما في سياق السخرية مما يسمونه "عقلية القطيع" ، أو
قد تبالغ في تعظيمها يوما آخر ، حين تصفها بخير الأمم او ارقاها او اجلها تاريخا.
في كل الأحوال لا يمكن انكار ان الامة حقيقة قائمة في الواقع وفي الذهن ، وان
وجودها مرتبط بحاجة الانسان للانتماء ، وهي حاجة ترتبط في ظني بالغريزة الأقوى في
نفس الانسان ، أي إرادة البقاء. وهو رابط يبرز بوضوح في سلوك الانسان حين يستشعر الضعف
او الخطر ، فتراه شديد الميل للانضمام الى
جماعة ، احتماء بها او انحيازا الى موقفها ، حتى لو كان معارضا لبعض تفاصيله.
دعنا نقول – تحريا للدقة - ان الأمة ليست من نوع الحقائق
المادية التي يمكن لمسها وتحديدها ، كالسيارة والحصان والشجرة ، ولا هي من البديهيات
المنطقية. لكنها لا تقل عن هذه في وضوحها. انها من هذا النوع الذي نسميه حقائق
اعتبارية ، أي المفاهيم التي اجمع البشر في مختلف عصورهم على تقبلها كمقولات صادقة
بذاتها ، فلا تحتاج الى تبرير سابق ، مثل قولنا ان النظام حسن والفوضى قبيحة.
هذا على أي حال مفهوم الامة ، بما هي جمع من البشر
المؤتلفين حول تصور موحد لذاتهم الجمعية ، أي السبب الموضوعي لاتحادهم. اما مضمون الرابطة
التي تجمعهم ومدى قوتها او قيمتها ، فهي توافقات يصنعها أعضاء الجماعة ويطورونها
جيلا بعد جيل. وتبعا لهذا فالامة ليست كيانا مقدسا في ذاته ، بل هي مثل المجتمعات
البشرية الأصغر ، تتطور وتتغير قيمها وأعرافها في سياق تفاعلها مع تحديات الزمن
وتحولاته. حين يفكر الناس في هذه الرابطة ، فان ما يملأ أذهانهم هو صورة الماضي
المتخيل ، وليس الحاضر ولا حتى الماضي الواقعي. سواء رضيت بهذه الصورة او انكرتها ،
فان الناس لا يتخيلون انفسهم مجردين منها او منفصلين عنها. انها الحقيقة التي
يودون ان تمثلهم او تتمثل فيهم. الامة اذن حقيقة على النحو الذي نريده ، وليس لها
صفة موضوعية فوق ارادتنا او مستقلة عنها.
الأربعاء -
14 جمادى الآخرة 1442 هـ - 27 يناير 2021 مـ رقم العدد [15401]
https://aawsat.com/node/2767181/
مقالات ذات صلة
المسألة القومية واستقلال الفرد
القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة
مكانة
"العامة" في التفكير الديني
حزب الطائفة وحزب
القبيلة تأملات في حدود
الفردانية
المسألة القومية واستقلال الفرد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق