عرض المشاركات المصنفة بحسب مدى الصلة بالموضوع لطلب البحث فتاوى. تصنيف بحسب التاريخ عرض كل المشاركات
عرض المشاركات المصنفة بحسب مدى الصلة بالموضوع لطلب البحث فتاوى. تصنيف بحسب التاريخ عرض كل المشاركات

18/06/2011

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني


المجتمع شريك في صناعة الفكرة الدينية لانه شريك في صناعة اشكالياتها وصناعة الظرف الذي يحدد صيغتها ومجالات اشتغالها.

زميلي الدكتور عبد العزيز القاسم ارسل مجموعة فتاوى لعلماء بارزين اختار لها عنوان "فتاوى القرن الماضي" ومع ان بعضها صدر قبل اربع سنوات فحسب ، الا ان افقها التاريخي ينتمي الى قرون ماضية بالفعل . خذ مثلا الفتوى بتحريم لعب كرة القدم ، وتحريم دخول النساء لمنتديات الانترنت ، وتحريم تحية العلم والسلام الوطني ، وتحريم لبس المرأة لحذاء عالي الكعب او ارتداء ثوب العرس الابيض، وتحريم اهداء الورود ، وتحريم تعلم اللغة الانكليزية .. الخ .
بعض اعضاء المجموعة البريدية للزميل القاسم علق ساخرا ، وقليل منهم استنكر نشر الفتاوى واعتبره اساءة للعلماء الذين اصدروها . نشر هذه الفتاوى– ولو ضمن نطاق المجموعة – واختيار عنوانها  يمثل اعتراضا عليها ، وان صيغ في اطار التلطف . الزميل القاسم وكثير من اعضاء مجموعته يصنفون بين المدافعين عن التيار الديني التقليدي (الذي ينتمي اليه اصحاب تلك الفتاوى) ، وموقفه المعترض هو احد الامثلة على تغيير متزايد يشهده التيار الديني في السنوات الاخيرة ، تغيير من التسليم بما يقوله الداعية او الفقيه الى نقده ، بل والسخرية منه احيانا.
يدور الجدل داخل التيار الديني حول قابلية التفكير الديني الموروث للتلاؤم مع الواقع المعاش للمسلمين ومتطلبات حياتهم الراهنة. والمرجح ان يثمر عن تبلور صيغة للتفكير والعمل الديني مغايرة لما نعرفه اليوم . بلغ التيار الديني ذروته في الربع الاخير من القرن العشرين ، وكان محركه الرئيس هو الحاجة الى استعادة الهوية والتاكيد على الذات . والواضح ان هذه الحاجة قد تحققت الى حد كبير. في مرحلة الصعود يتركز الاهتمام على الجانب الكمي (الحجم) . فاذا اشبعت الحاجة وتحقق تراكم معقول ، فسوف تتبلور محركات بديلة للظاهرة الاجتماعية. وابرز تجليات هذا التغيير هو النقد الداخلي الذي يركز على تحسين الكيفية (النوع). يؤدي هذا التغيير بطبيعة الحال الى تعارضات داخلية في المصالح والاراء ، تظهر على شكل انشقاقات دافعها فكري او سياسي.
تمثل المملكة العربية السعودية وايران مختبرين اساسيين للعلاقة بين الفكر الديني الموروث وتحديات العصر. وقد شهد كل منهما صعودا للتيار الديني يتناسب مع الارضية الثقافية والامكانات المتاحة لكل من المجتمعين . فبينما كانت الادارة الحكومية هدف التيار الديني الايراني ، ركز نظيره السعودي على المجتمع والافراد العاديين. ومن هنا فقد كانت السياسة محور تركيز التيار الاول ، بينما تركز اهتمام الثاني على السلوك اليومي للافراد.
في ايران نسمع الان مجادلة لما كان في الماضي مسلمات لا تقبل النقاش. من ذلك مثلا الراي الذي كتبه اية الله منتظري وفحواه ان السلطة السياسية ليست حقا مطلقا للفقهاء يستمدونه من الامام المعصوم كما تقول نظرية ولاية الفقيه ، بل هي ملك للمجتمع يفوضها الى الحاكم في اطار عقد وبشروط محددة . ومنتظري تلميذ مقرب لاية الله الخميني ، وكان في 1980 رئيسا لمجلس الخبراء الذي وضع دستور الجمهورية الاسلامية . اما اية الله صانعي وهو تلميذ آخر للخميني فقد دعا الى مساواة كاملة بين الرجل والمرأة في الحقوق السياسية بما فيها تولي منصب رئاسة الدولة والقضاء ، خلافا للعرف الفقهي القائل بان النساء غير مؤهلات لتولي المناصب السيادية . وكتب اية الله شبستري ان الديمقراطية الليبرالية هي اقرب النظم السياسية الى روح الدين واقدرها على ضمان حياة دينية سليمة.
خلال عقدين ونصف انضم الى التيار الديني جيل جديد اكثر التصاقا بتجليات الحداثة لانه اكثر اتصالا بمصادر الثقافة البديلة . هذا الجيل اكثر قدرة على التعبير عن حاجات المسلم المعاصر واكثر جرأة في نقد المسلمات الموروثة. وكشفت بحوث ميدانية لاكاديميين ومراكز ابحاث ايرانية عن ضمور ملحوظ في علاقة الجيل الجديد بالزعماء الدينيين وميل اقوى الى القيم الليبرالية في الحياة اليومية كما في السياسة. بينما يشير الجدل الواسع في التيار الديني السعودي الى رغبة قوية في التحرر من شريحة كبيرة من القيم والمسلمات التي كانت عصية  على المساءلة حتى سنوات قليلة.
في 1989 كتب المفكر الايراني عبد الكريم سروش ان كثيرا من الاحكام الشرعية واراء الفقهاء مؤقتة لانها ثمرة الافق التاريخي الخاص بالمجتمع الذي ولدت فيه . ولهذا لا يجوز جبر الناس عليها . المجتمع – حسب رايه – شريك في صناعة الفكرة الدينية لانه شريك في صناعة اشكالياتها وصناعة الظرف الذي يحدد صيغتها ومجالات اشتغالها. وقتذاك تلقى سروش ردودا غاضبة من المجتمع الديني. لكننا اليوم نرى كثيرا مما قاله يتحقق او يثير النقاش بعدما كان مجرد التفكير في مناقشته يعتبر خروجا عن الطريق القويم.



6-12-2008



مقالات ذات علاقة


02/10/2012

الوجه السياسي لسد الذرائع

الافراط في اصدار فتاوى التحريم امر غير مقبول . لانه يضيق على الناس ما وسعه الله. والانكى من ذلك تساهل بعض الفقهاء في اعادة تفسير الادلة على نحو يخدم منحى التحريم ، واحيانا اغراقهم في السماح بتسلسل الحكم الى موضوعات تتجاوز – وربما تختلف ذاتيا وعلائقيا – عن موضوع الحكم الاول . وقد وجدت ان كثيرا من تلك الفتاوى تستند الى قاعدة ثانوية ، من القواعد المعمول بها في اصول الفقه ، هي قاعدة "سد الذرائع". والمقصود بسد الذرائع هو منع الافعال التي يظن ان الاخذ بها ، مؤد في الغالب الى الفساد ، حتى لو لم يكن الفعل بذاته ممنوعا في الشريعة[1]. وعلى هذا الاساس صدرت الفتوى في سياقة المرأة للسيارة وكثير من الفتاوى المماثلة.
ونظرا لكثرة ما صدر من فتاوى التحريم على ضوء هذه القاعدة ، فقد تحولت بذاتها الى مورد جدل ، فدافع عنها متشددو التيار الديني وانكروا نقاط ضعفها. وفي المقابل طالب دعاة وباحثون بالتحفظ في تطبيقها. وكتب القاضي السابق محمد الدحيم :

في العرف الفقهي غلب السد على الفتح في قاعدة الذرائع، ولربما لا تجد للفتح ذكراً عند البعض، مما سبب أزمة في الفتوى والقضاء، وفي الدعوة والتربية؛ بل في الحياة والمعاش، فأصبح سد الذريعة سوطاً يضرب به الداعي والمربي، وملجأ لأشباه الفقهاء؛ ليعملوا به وصايتهم على الناس في حراسة مشددة للحدود، وإهمال مشعور أو لا مشعور به للداخل الاجتماعي، مما أنهك قوى الناس واستنـزف صبرهم، ودفعهم للمقاومة من أجل العيش والحياة. على حين لا يزال الفقيه يتمتع بالمعاندة والسلطوية. ولا أدري إلى متى؟ ومتى سيشعر –عفا الله عنه- بمتغيرات الحياة ومستجداتها[2].


في خط مواز ، راى الكاتب والاستاذ السابق بجامعة الامام ، محمد علي المحمود ، ان الاعتماد على قاعدة سد الذرائع ، ليس سوى انعكاس لثقافة متخلفة تميل الى المبالغة في التحريم والمنع ، وتستعملها لتجاوز المصادر النصية للشريعة:

عندما تقرأ آراء ومواقف (= تلك التي يسمونها : فتاوى) إخواننا المتطرفين من موضوع قيادة المرأة، تجد أنها مبنية على مُبررات وعلل لا علاقة لها مباشرة بالشرع المطهر في صورته النصوصية الأولى، بل هي مبررات وعلل مستقاة من الواقع المتخلف الذي صنعوه على هذه الحال الموغلة في التخلف، أو هي مبررات وعلل ذاتية نابعة من التخلف والانغلاق والخوف والانشداد إلى الذهنية التحريمية التي تأسست سلفا (في زمن سابق عليهم)، وأصبح مجرد تقادمها شرعية لها [...] المسألة لديهم ، مدنية خالصة حتى وإن لم يعترفوا بذلك ، إذ هي مبنية على قاعدة سد الذرائع ، بل وليست أية ذرائع ، إنها تلك الذرائع التي صنعوها / توهموها بأنفسهم ، ثم أرادوا سدها[3]

اما الشيخ سلمان العودة فقد شكك في صحة القاعدة ذاتها ، قائلا ان المنع بناء على هذه القاعدة منع قانوني مبني على المصلحة ، أكثر من كونه حكما شرعيا. وان ترغيب الناس في الخير وحثهم عليه، أفضل من المنع المتشدد سدا للذرائع[4]. واقر د. سعد العتيبي ، وهو من المدافعين عن المنهج التقليدي ، بما يؤول اليه التوسع في تطبيق القاعدة من حرج على عامة الناس:

الذين يُنظرون لقاعدة الذرائع لا يجيزون التوسع في سدها ؛ لأن التوسع فيه يؤدي إلى إيقاع الأمة في الحرج ، وفي هذا إخلال بأصل شرعي آخر مهم هو "رفع الحرج" ، وعليه فلا يجوز الإفتاء بناء على سد الذرائع مطلقاً مهما كانت ؛ بل لابد من تحقق مناط السد والمنع.

 لكنه في الوقت نفسه يلاحظ الخلفية السياسية لذلك التوسع :

 كلما كثر الفساد في الناس ، كلما كثرت الفتوى بسد الذرائع ، وهكذا الشأن في القضايا العامة ، وأمور الولاية : كلما وسد الأمر إلى غير أهله أو إلى من يشيع بين الناس اتهامهم بالسوء ، كلما كثرت الفتوى بسد الذرائع. والعكس بالعكس[5]

. اما الشيخ سعيد الغامدي فقد قال صراحة ان معارضي "سد الذرائع" يسعون لتصفية حسابات مع التيار الديني[6].
وفي العام 2005 نشر 118 من رجال الدين بيانا يؤكدون فيه على دعمهم للفتوى السابقة بتحريم قيادة النساء للسيارات، بناء على قاعدة سد الذرائع ، التي اعتبروها من قاعدة راسخة لا يصح التشكيك فيها ولا التقليل من ضرورتها واهميتها . وقال البيان ان "قيادة المرأة للسيارة لا تجوز ، لأن قاعدة سد الذرائع منطبقة عليها تماماً، لأنها - أي القيادة - تفضي بالمرأة والمجتمع إلى الوقوع في مفاسد عظيمة وعواقب وخيمة" وذكر البيان 14 مفسدة متوقعة فيما لو رفع التحريم، حتى مع القول بوجود مصالح فيها ، الامر الذي يستوجب تطبيق قاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"[7].
توقيع عدد من العلماء الناشطين في مجال الفتوى على بيان من هذا النوع يعتبر من الحالات النادرة . الحالات القليلة السابقة للبيانات الجماعية كانت تتعلق بقضايا ومطالبات سياسية . اما هذا البيان فهو يتحدث تحديدا عن مسألة فقهية. ويدافع عن صحة الحكم الصادر بشأنها. ولم يكن هذا معهودا في المجتمع الديني. لهذا فسر البيان عند الجميع بانه اقرار من جانب الموقعين بان تناولهم لموضوع حقوق المرأة ، وخصوصا موضوع قيادة المراة للسيارة ، لا ينظر الى جانبه الفقهي تحديدا ، قدر ما يحدد موقفا سياسيا ويدعو الجمهور الى اتباعه.
 تسييس الاحكام الشرعية سلوك معروف ، ويعرفه جميع الباحثين في السياسة والمجتمع. لكن رجال الدين اعتادوا انكار الربط بين الفتوى والسياسة. الجدل المزمن حول حقوق المرأة السعودية ، ولا سيما منذ العام 1990 يكشف دون لبس، ان تشدد التيار الديني التقليدي في المسألة، ليس سوى انعكاس لموقفهم العام في الصراع مع تيار التحديث ، الذي يصفونه بالعلماني والتغريبي. والحق ان هذا التيار قد دفع رجال الدين الى منزلق ما كان ينبغي لهم ان يقبلوا به ، اعني به الظهور امام المجتمع بمظهر المدافع عن التقاليد والاعراف القديمة ، ومعارضة الاصلاح في المجتمع والدولة ، من دون الاستناد الى مبرر علمي او واقعي او مصلحة عامة ظاهرة.

مقالات ذات علاقة






[1] لتفصيل حول الاساس الشرعي لقاعدة سد الذرائع وتطبيقاتها ، انظر محمد حسين الجيزاني : اعمال قاعدة سد الذرائع في باب البدعة ، مكتبة دار المنهاج ، (الرياض 1428). لراي معارض للافراط في تطبيق القاعدة ، انظر عبد الله الغذامي: الفقيه الفضائي، المركز الثقافي العربي (بيروت 2011)، ص 132
[2] محمد الدحيم : فتح الذرائع ، موقع الاسلام اليوم 22-6-2003 . http://muntada.islamtoday.net/t46843.html
[3] محمد المحمود: قيادة المرأة.. من الوعي المتخلف إلى ذهنية التحريم ، العربية نت 16-6-2011 http://www.alarabiya.net/views/2011/06/16/153535.html
[5] د. سعد العتيبي : أسس السياسة الشرعية (8/1) : قاعدة الذرائع /سد الذرائع ، موقع المسلم 23/10/1427 هـ ، http://almoslim.net/node/83617
[6] سعيد بن ناصر الغامدي: أريحونا من سد الذرائع ، نشرت بصحيفة المدينة ، وننقلها هنا عن موقع سليمان الماجد 9/7/1432 - http://www.salmajed.com/node/11841

17/05/2017

الفتاوى الغريبة وحكمتها الخفية


في ديسمبر 2008 نشرت صحيفة "الوطن" تقريرا للزميل عضوان الاحمري ، استعرض أغرب الفتاوى خلال العام. وتنشر الصحافة تقارير مثل هذا بين حين وآخر.
استغراب تلك الفتاوى لا يتعلق بصحة أو خطأ أدلتها. فليس هذا ما يهم عامة الناس. موضع الاثارة والاستغراب هو تطبيق مضمون الفتوى. وأذكر ان وزير الاعلام السابق د. محمدعبده يماني رحمه الله ، عرض علي يوما كتابا عن الحديث المعروف بحديث الذبابة. ووجدت ان كاتبه قد بذل جهدا فائقا في التحقق من الروايات التي تسند الحديث المذكور. لكن المرحوم يماني لم ينس الاشارة الى ان المشكلة لا تكمن في صحة الاستدلال ، بل في كون مؤدى الحديث مما يجافي الذوق العام. ولذا يقع موقع السخرية.
المرحوم د. محمد عبده يماني

اعلم أيضا ان بعض الفقهاء المعاصرين يختار السكوت عن فتاوى كانت محل اجماع في الماضي ، لأن الجمهور ما عاد يقبلها. ومن بينها مثلا فتاوى تحريم التصوير ، والدراسة في الخارج والعمل في البنوك واقتناء الاسهم ، و السفر الى البلدان الاجنبية ، والمتاجرة في الاسواق المستقبلية ، وتولي النساء للوظائف القيادية..الخ.
هذا يشير الى حقيقة ان المسألة الشرعية لا تنتهي بمجرد اعلان الفتوى فيها. دعنا نقول ان عملية الاجتهاد تتألف في المنهج الموروث من ثلاث مراحل ، هي التكييف الموضوعي للمسالة ، ثم البحث عن الادلة ذات العلاقة ، واخيرا انتخاب الحكم المناسب.
لكن التحولات الاخيرة في تعامل الناس مع الشريعة وأهلها ، تستدعي إضافة مرحلة رابعة ، هي اختبار الانعكاسات المترتبة على اعلان الفتوى. والمرجع في هذا الاقتراح ان المصلحة شرط في الحكم. واشتهر بين العلماء ان "الاحكام تدور مع المصالح وجودا وعدما". ومعنى هذا القول ان فتوى الفقيه تسقط من الاعتبار ، اذا ترتب عليها تضييع مصلحة عقلائية ، او تسببت في فساد.
ومن أجلى وجوه الفساد التسبب في إعراض الجمهور المسلم عن احكام الشريعة ، او جعلها موضعا للسخرية والتندر من قبلهم او من قبل غيرهم. ولا يختلف الحال بين ان يرفض الحكم لما يتسبب فيه من عسر على الناس او حرج ، كما في القول بحرمة السفر الى البلاد الاجنبية ، أو لأنه - في اللفظ او الفحوى - مخالف للذوق العام او طبيعة البشر ، كما في النهي عن محبة الزوجة غير المسلمة.
لا بد ان بعض القراء سيرى في الكلام السابق معالجة لسطح المشكلة. وهذا رأيي أيضا. لكن لو أردنا الذهاب درجة واحدة في العمق ، فقد نجد ان جوهر المسألة ليس رد فعل الجمهور على غرابة الفتوى ، بل في ان بعض الفتاوى تناقض حكم العقل أو تهدر المصالح الجارية للناس.
لا يتسع المجال للتفصيل في هذا. وزبدة القول ان المشكل الجوهري يكمن في الفرضية القائلة بان بعض الاحكام الشرعية ينطوي على حكم خفية لا يدركها العقل ، وان على المؤمن ان يأخذ بها تعبدا وتسليما ، لأنها حكم الله ، وهو الاعلم بما يصلح عباده وما يصلح لهم.
لا يوجد اي دليل معتبر على صحة الالزام بالفرضية المذكورة. فاحكام الشريعة ، سيما الموجهة للمجتمع كنظام ، غرضها تحقيق مصالح قابلة للتشخيص العرفي ، اي ان مضمونها ظاهر لعامة العقلاء. بديهي ان وضوح المصلحة العقلائية ، يستدرج حكمها ، لما ذكرناه من ان الاحكام تدور مع المصالح نفيا او اثباتا. ولنا عودة الى الموضوع في وقت آخر ان شاء الله.
الشرق الاوسط 17 مايو 2017

30/04/2008

رأي الفقيه ليس حكم الله

؛؛ تفكير الفقيه في الموضوعات والحوادث ومحاولاته لاستنباط احكام شرعية، يتاثر- مثل سائر الناس – بما حوله وما يعيشه من ظروف وضغوط وسبل حياة ؛؛

لعلك ترغب أيضا في معرفة "متى يصبح رأي الفقيه حكم الله"

الأصل في الفتوى أنها رأي شخصي للفقيه، وهو رأي قد يوافق آراء الفقهاء الآخرين وقد يخالفهم. واتفق الأصوليون والدعاة معاً على أن اختلاف الفتوى سبب للتيسير على المكلفين، والتيسير أصل في سلامة الحكم الشرعي. وذهب كثيرون إلى أن اختلاف الفتوى من أسباب استيعاب الشريعة المقدسة للتحديات المتولدة عن اختلاف الأزمنة وتغير ظروف المعيشة والثقافة وحاجات المجتمع. وكان من سمات عصور التخلف توقف الفقهاء عن نقد فتاوى أساتذتهم وذوي الشهرة من معاصريهم وقدمائهم.
 وشهدنا في السنوات الأخيرة عدول عدد ملحوظ من الفقهاء عن آراء مشهورة لأسلافهم، بل وعدولهم عن آراء خاصة سبق لهم أن استدلوا عليها وتبنوها وأفتوا بها ودافعوا عنها. وبين أبرز ما يذكر هنا رأيهم في عمل النساء وشروط الزواج، ورأيهم في أشكال الممارسة السياسية الحديثة، وفي التعاملات المصرفية والتأمين، وفي السفر إلى غير بلاد الإسلام.. الخ.
واختلاف الفتوى هو السياق الطبيعي؛ لنأخذ مثلا القروض البنكية التي دار حولها خلاف كبير، فقد ركز أكثر الفقهاء على الفائدة المشروطة كسبب لتصنيف القروض ضمن المعاملات الربوية المحرمة. بينما ميز كل من شيخ الأزهر السابق ، وكذلك اية الله صانعي بين القرض الاستهلاكي والاستثماري، ورأوا أن الثاني لا تعيبه الفائدة لأن المقرض شريك في فائض القيمة التي يولدها رأس المال فله حق في الربح، كما ركز الرجلان على ناتج الاستثمار وهو العمران في الأرض وتحسن المعيشة للمقترض وغيره. ونظر المرحوم شمس الدين إلى اختلاف النظام الاقتصادي ودورة رأس المال في زمن النص عنه في الزمن الحاضر، ولاسيما اختلاف مفهوم العمل والتباين بين حصة كل من رأس المال والعمل في تكوين الناتج.
ويقال مثل ذلك عن تحريم السفر الى بلاد الكفار، فقد استدل المانعون بنصوص صريحة من السنة، بينما ركز المجيزون على اختلاف الظرف الذي وردت فيه تلك النصوص عن ظرف العالم الراهن، كما استدلوا بالتجربة التي تثبت بوضوح أن المسلمين الذين سافروا الى بلاد الكفر قد حافظوا على دينهم ولم يتحولوا كفارا. فالواضح أن هؤلاء نظروا الى الرسالة الداخلية للنص أو غرض الحكم وليس ظاهره أو منطوقه ولو كان صريحا بينا في التحريم.
والفقيه - مثل سائر خلق الله - يتفاعل مع محيطه، يتأثر بظروفه المادية والثقافية، وبما يجيش في صدور الناس حوله من هموم وتوجهات وانفعالات ومصالح ومصادر قلق ورغبات وتطلعات، وما في نظامهم الاجتماعي من أعراف وتقاليد وأنماط معيشة. وهو - مثل غيره - يتعرض لعوامل الجذب والطرد في داخل البيئة الاجتماعية، كما يتعرض لمصادر الضغط وردود الفعل، سواء تلك التي تتولد في داخلها أو تنعكس عليها من الخارج. يضاف إلى هذه ايضا العوامل الشخصية التي تشمل الانتماء الطبقي أو الاثني، المستوى المعيشي، مصادر التعلم والثقافة، ومقدار المعلومات والمعارف المتوفرة له، والتجربة الحياتية الشخصية. فمجموع هذه العوامل يؤثر تاثيرا قويا على رؤية الفقيه للموضوعات وظروفها، وبالتالي على اختياره للقواعد الشرعية التي يطبقها على الموضوع. ولهذا السبب تأتي آراء الفقهاء متباينة في الموضوع الواحد.
هذا التمهيد يثير سؤالين ضروريين:
الأول: اذا كان رأي الفقيه - كبيرا كان او صغيرا - على النحو المذكور، فهل يعتبر مطابقا لحكم الله، أو هل يصح أن نطلق عليه صفة (حكم الله) أو (حكم الدين)، أم يبقى مجرد رأي شخصي محترم مثل سائر النظريات والآراء العلمية التي يلتزم بها المتلقي أو يعرض عنها بحسب اختياره؟.
الثاني: هناك على الدوام حاجة لأحكام ملزمة، مثل الأحكام التي تصدر عن جهات سيادية في الدولة، او الأحكام التي يصدرها القاضي في النزاعات. وهي أحكام تؤثر في الناس وفي مصالحهم، وقد تقيم حقوقا وتبطل أخرى. فهل يصح الرجوع الى رأي شخصي معرض للعيب والقصور في مثل هذه الاحكام، أم نختار طريقة مختلفة للحكم في مثل هذه المسائل، تعين على تقليص احتمالات الخطأ الشخصي؟.

عكاظ العدد 2509 - 30 أبريل/2008   https://www.okaz.com.sa/article/181336
مقالات ذات علاقة
·          


رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...