المجتمع شريك في صناعة الفكرة الدينية لانه شريك في صناعة اشكالياتها وصناعة الظرف الذي يحدد صيغتها ومجالات اشتغالها.
زميلي
الدكتور عبد العزيز القاسم ارسل مجموعة فتاوى لعلماء بارزين اختار لها عنوان
"فتاوى القرن الماضي" ومع ان بعضها صدر قبل اربع سنوات فحسب ، الا ان
افقها التاريخي ينتمي الى قرون ماضية بالفعل . خذ مثلا الفتوى بتحريم لعب كرة
القدم ، وتحريم دخول النساء لمنتديات الانترنت ، وتحريم تحية العلم والسلام الوطني
، وتحريم لبس المرأة لحذاء عالي الكعب او ارتداء ثوب العرس الابيض، وتحريم اهداء
الورود ، وتحريم تعلم اللغة الانكليزية .. الخ .
بعض
اعضاء المجموعة البريدية للزميل القاسم علق ساخرا ، وقليل منهم استنكر نشر
الفتاوى واعتبره اساءة للعلماء الذين اصدروها . نشر هذه الفتاوى– ولو ضمن نطاق
المجموعة – واختيار عنوانها يمثل اعتراضا عليها ، وان صيغ في اطار التلطف .
الزميل القاسم وكثير من اعضاء مجموعته يصنفون بين المدافعين عن التيار الديني
التقليدي (الذي ينتمي اليه اصحاب تلك الفتاوى) ، وموقفه المعترض هو احد الامثلة
على تغيير متزايد يشهده التيار الديني في السنوات الاخيرة ، تغيير من التسليم بما
يقوله الداعية او الفقيه الى نقده ، بل والسخرية منه احيانا.
يدور
الجدل داخل التيار الديني حول قابلية التفكير الديني الموروث للتلاؤم مع الواقع
المعاش للمسلمين ومتطلبات حياتهم الراهنة. والمرجح ان يثمر عن تبلور صيغة للتفكير
والعمل الديني مغايرة لما نعرفه اليوم . بلغ التيار الديني ذروته في الربع
الاخير من القرن العشرين ، وكان محركه الرئيس هو الحاجة الى استعادة الهوية
والتاكيد على الذات . والواضح ان هذه الحاجة قد تحققت الى حد كبير. في مرحلة
الصعود يتركز الاهتمام على الجانب الكمي (الحجم) . فاذا اشبعت الحاجة وتحقق تراكم
معقول ، فسوف تتبلور محركات بديلة للظاهرة الاجتماعية. وابرز تجليات هذا التغيير
هو النقد الداخلي الذي يركز على تحسين الكيفية (النوع). يؤدي هذا التغيير بطبيعة
الحال الى تعارضات داخلية في المصالح والاراء ، تظهر على شكل انشقاقات دافعها فكري
او سياسي.
تمثل
المملكة العربية السعودية وايران مختبرين اساسيين للعلاقة بين الفكر الديني
الموروث وتحديات العصر. وقد شهد كل منهما صعودا للتيار الديني يتناسب مع الارضية
الثقافية والامكانات المتاحة لكل من المجتمعين . فبينما كانت الادارة الحكومية هدف
التيار الديني الايراني ، ركز نظيره السعودي على المجتمع والافراد العاديين. ومن هنا
فقد كانت السياسة محور تركيز التيار الاول ، بينما تركز اهتمام الثاني على السلوك
اليومي للافراد.
في
ايران نسمع الان مجادلة لما كان في الماضي مسلمات لا تقبل النقاش. من ذلك مثلا
الراي الذي كتبه اية الله منتظري وفحواه ان السلطة السياسية ليست حقا مطلقا
للفقهاء يستمدونه من الامام المعصوم كما تقول نظرية ولاية الفقيه ، بل هي ملك
للمجتمع يفوضها الى الحاكم في اطار عقد وبشروط محددة . ومنتظري تلميذ مقرب لاية
الله الخميني ، وكان في 1980 رئيسا لمجلس الخبراء الذي وضع دستور الجمهورية
الاسلامية . اما اية الله صانعي وهو تلميذ آخر للخميني فقد دعا الى مساواة كاملة
بين الرجل والمرأة في الحقوق السياسية بما فيها تولي منصب رئاسة الدولة والقضاء ،
خلافا للعرف الفقهي القائل بان النساء غير مؤهلات لتولي المناصب السيادية . وكتب
اية الله شبستري ان الديمقراطية الليبرالية هي اقرب النظم السياسية الى روح الدين
واقدرها على ضمان حياة دينية سليمة.
خلال
عقدين ونصف انضم الى التيار الديني جيل جديد اكثر التصاقا بتجليات الحداثة لانه
اكثر اتصالا بمصادر الثقافة البديلة . هذا الجيل اكثر قدرة على التعبير عن حاجات
المسلم المعاصر واكثر جرأة في نقد المسلمات الموروثة. وكشفت بحوث ميدانية
لاكاديميين ومراكز ابحاث ايرانية عن ضمور ملحوظ في علاقة الجيل الجديد بالزعماء
الدينيين وميل اقوى الى القيم الليبرالية في الحياة اليومية كما في السياسة. بينما
يشير الجدل الواسع في التيار الديني السعودي الى رغبة قوية في التحرر من شريحة
كبيرة من القيم والمسلمات التي كانت عصية على المساءلة حتى سنوات
قليلة.
في
1989 كتب المفكر الايراني عبد الكريم سروش ان كثيرا من الاحكام الشرعية واراء
الفقهاء مؤقتة لانها ثمرة الافق التاريخي الخاص بالمجتمع الذي ولدت فيه . ولهذا لا
يجوز جبر الناس عليها . المجتمع – حسب رايه – شريك في صناعة الفكرة الدينية لانه
شريك في صناعة اشكالياتها وصناعة الظرف الذي يحدد صيغتها ومجالات اشتغالها. وقتذاك
تلقى سروش ردودا غاضبة من المجتمع الديني. لكننا اليوم نرى كثيرا مما قاله يتحقق
او يثير النقاش بعدما كان مجرد التفكير في مناقشته يعتبر خروجا عن الطريق القويم.