في ديسمبر 2008 نشرت صحيفة "الوطن" تقريرا للزميل عضوان الاحمري ، استعرض أغرب
الفتاوى خلال العام. وتنشر الصحافة تقارير مثل هذا بين حين وآخر.
استغراب
تلك الفتاوى لا يتعلق بصحة أو خطأ أدلتها. فليس هذا ما يهم عامة الناس. موضع
الاثارة والاستغراب هو تطبيق مضمون الفتوى. وأذكر ان وزير الاعلام السابق د. محمدعبده يماني رحمه الله ، عرض علي يوما كتابا عن الحديث المعروف بحديث الذبابة. ووجدت ان
كاتبه قد بذل جهدا فائقا في التحقق من الروايات التي تسند الحديث المذكور. لكن
المرحوم يماني لم ينس الاشارة الى ان المشكلة لا تكمن في صحة الاستدلال ، بل في
كون مؤدى الحديث مما يجافي الذوق العام. ولذا يقع موقع السخرية.
اعلم
أيضا ان بعض الفقهاء المعاصرين يختار السكوت عن فتاوى كانت محل اجماع في الماضي ،
لأن الجمهور ما عاد يقبلها. ومن بينها مثلا فتاوى تحريم التصوير ، والدراسة في
الخارج والعمل في البنوك واقتناء الاسهم ، و السفر الى البلدان الاجنبية ، والمتاجرة
في الاسواق المستقبلية ، وتولي النساء للوظائف القيادية..الخ.
هذا
يشير الى حقيقة ان المسألة الشرعية لا تنتهي بمجرد اعلان الفتوى فيها. دعنا نقول
ان عملية الاجتهاد تتألف في المنهج الموروث من ثلاث مراحل ، هي التكييف الموضوعي
للمسالة ، ثم البحث عن الادلة ذات العلاقة ، واخيرا انتخاب الحكم المناسب.
لكن التحولات
الاخيرة في تعامل الناس مع الشريعة وأهلها ، تستدعي إضافة مرحلة رابعة ، هي اختبار
الانعكاسات المترتبة على اعلان الفتوى. والمرجع في هذا الاقتراح ان المصلحة شرط في
الحكم. واشتهر بين العلماء ان "الاحكام تدور مع المصالح وجودا وعدما".
ومعنى هذا القول ان فتوى الفقيه تسقط من الاعتبار ، اذا ترتب عليها تضييع مصلحة
عقلائية ، او تسببت في فساد.
ومن أجلى
وجوه الفساد التسبب في إعراض الجمهور المسلم عن احكام الشريعة ، او جعلها موضعا
للسخرية والتندر من قبلهم او من قبل غيرهم. ولا يختلف الحال بين ان يرفض الحكم لما
يتسبب فيه من عسر على الناس او حرج ، كما في القول بحرمة السفر الى البلاد الاجنبية ، أو لأنه - في اللفظ او الفحوى - مخالف للذوق العام او طبيعة البشر ،
كما في النهي عن محبة الزوجة غير المسلمة.
لا
بد ان بعض القراء سيرى في الكلام السابق معالجة لسطح المشكلة. وهذا رأيي أيضا. لكن
لو أردنا الذهاب درجة واحدة في العمق ، فقد نجد ان جوهر المسألة ليس رد فعل الجمهور
على غرابة الفتوى ، بل في ان بعض الفتاوى تناقض حكم العقل أو تهدر المصالح الجارية
للناس.
لا
يتسع المجال للتفصيل في هذا. وزبدة القول ان المشكل الجوهري يكمن في الفرضية القائلة
بان بعض الاحكام الشرعية ينطوي على حكم خفية لا يدركها العقل ، وان على المؤمن ان
يأخذ بها تعبدا وتسليما ، لأنها حكم الله ، وهو الاعلم بما يصلح عباده وما يصلح لهم.
لا
يوجد اي دليل معتبر على صحة الالزام بالفرضية المذكورة. فاحكام الشريعة ، سيما
الموجهة للمجتمع كنظام ، غرضها تحقيق مصالح قابلة للتشخيص العرفي ، اي ان مضمونها ظاهر
لعامة العقلاء. بديهي ان وضوح المصلحة العقلائية ، يستدرج حكمها ، لما ذكرناه من
ان الاحكام تدور مع المصالح نفيا او اثباتا. ولنا عودة الى الموضوع في وقت آخر ان
شاء الله.
الشرق
الاوسط 17 مايو 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق