يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية حول العالم 1,114.22 مليار دولار ، ويتوقع ان تصل في 2030 الى 2,554.76 مليار دولار ، بمتوسط 5.8% سنويا). واذا صحت هذه الفرضية ، فيمكن الاستنتاج بأن هذا القطاع سيكون مصنع الثروات في السنين القليلة القادمة.
هذه فكرة متداولة يعرفها معظم الناس على الارجح.
لكني أتساءل دائما: كيف نحول الأفكار الى مصدر للثروة. دعني أضرب مثالا بجان
كوم ، وهو مهاجر اوكراني شارك زميله برايان اكتون في تطوير
برنامج التراسل الشهير "واتس اب" عام 2009. وفي 2014 دفعت شركة فيسبوك
19 مليار دولار للاستحواذ عليه. لا أتوقع – بطبيعة الحال – ان أرى مثل هذه التجربة
كل يوم. لكني استطيع القول دون تحفظ ان الجزء الاعظم من الثروة القومية للولايات
المتحدة الامريكية يأتي من هذا المصدر ، اي تحويل الافكار الى أموال.محمد الشارخ (1942-2024)
في السنوات الماضية كان يقال ان تجارة الاراضي هي
الطريق السريع والآمن لصناعة الثروات. لكننا نعلم انه طريق لعدد محدود جدا من
الناس ، لانه يحتاج الى رساميل ضخمة. كما انه يبقى عملا فرديا في الغالب ولا يعود
بثمرات مهمة على الاقتصاد الوطني.
أما اليوم فاني ادعي ان اقتصاد
المعرفة ، ولاسيما قطاع المعلوماتية والبيانات بكل تفرعاته ، هو الطريق
الحقيقي للثروة ، ليس على المستوى الفردي فحسب ، بل على المستوى الوطني أيضا. ثمة
ميزات في هذا القطاع تجعل المجتمعات العربية قادرة على المنافسة على المستوى العالمي ، اذا حولت
اهتمامها بصناعة المعلوماتية ، وخصوصا البرامج ، من الاستهلاك او المتاجرة البسيطة
، الى الابتكار والصناعة في كافة المجالات ، بدءا بالعاب الاطفال حتى ادارة المدن
الكبرى.
سأركز هنا على ميزتين أراهما واضحتين لكل قاريء:
الأولى: أن هذا الحقل الاقتصادي لا يعمل الا ضمن شبكات.
لا يربح الفرد الا اذا ربح كثيرون آخرون. وهذه حقيقة اكتشفها مبكرا عالم الاجتماع
الامريكي – الاسباني مانويل كاستلز
، وكتب عنها بالتفصيل في ثلاثيته المسماة "عصر
المعلومات - 1996". ومن هنا فان ثمرات العمل لا تنحصر في شخص او عدد
محدود ، بل تتسع للمئات والآلاف من الناس. ان برنامج الكمبيوتر يشبه الفكرة التي
يبدعها شخص ، ثم يطورها شخص آخر ، ويستثمرها ثالث في استنباط فكرة مختلفة ، وهكذا
تتواصل وتتعدد استعمالاتها وعدد المستفيدين منها ، في الانتاج والاستعمال. تخيل الآن عدد الناس الذي يستعملون واتس اب في
اعمالهم ، حجم الارزاق والمعايش التي تمر عبره ، والفوائد المالية التي يجنيها ملايين
المستعملين في اصقاع العالم ، والعوائد التي تجنيها الولايات المتحدة الامريكية
بسببهم.
الميزة الثانية: لقد
تأخرنا في دخول حقل الصناعة ، لا سيما في مستوى
التقنيات العالية. وقد بدأت المجتمعات الاخرى منذ قرن او أكثر ، فاللحاق
بهم يتطلب مضاعفة السرعة في التعلم والتطبيق والاستثمار لاختصار الطريق. أما حقل
المعلوماتية ، فالعالم كله حديث عهد به. خذ مثلا الصين التي انضمت الى هذا المجال
في مطلع القرن الجديد ، وباتت اليوم تنافس الدول الاكثر تقدما في مختلف جوانبه.
ومن هنا فان المسافة الزمنية بيننا وبين الاكثر تقدما ، تعد ببضع سنوات وليس اكثر.
ما نحتاج اليه في الحقيقة هو الثقة بالذات اضافة الى الاجراءات العملية البعيدة
المدى.
اود اختتام هذه الكتابة
بالتأكيد على ان اقامة بيئة حاضنة ومحفزة لصناعة المعلوماتية على المستوى الوطني ،
في كل بلد عربي ، يحتاج الى مقدمات ، تبدأ من ادراج البرمجة في الصفوف الابتدائية
، ثم جعلها منهجا الزاميا في المرحلة المتوسطة. هذا سينتج جيلا كاملا من رواد
الصناعة. وهناك عوامل اخرى ربما نعود اليها في كتابة لاحقة.
الشرق الاوسط الخميس - 16 شوّال 1445 هـ - 25 أبريل
2024 م https://aawsat.news/47t9h
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق