13/12/1994

دولة واحدة ... مجتمعات عديدة



خلال الاشهر القليلة الماضية تابعت وسائل الاعلام عددا من القضايا التي تبدو في ظاهرها مختلفة باختلاف مواقعها ومبرراتها ، على الرغم من كونها تمثل تجسيدات لمشكلة واحدة ، الا وهي مشكلة التنوع القومي والثقافي ، في اطار الدولة الواحدة وحدود هذا التنوع ، من اتفاق الولايات المتحدة مع كوبا على الحد من هجرة المواطنين الكوبيين ، الى منع المحجبات من دخول المدارس الفرنسية ، مرورا بالجدل الدائر في السودان حول تطبيق الشريعة ، وانتهاء بمحاكمة النواب الاكراد في البرلمان التركي .

الدولة القومية
ظهرت فكرة الدولة القومية في اوربا في اواخر القرن التاسع عشر ، كواحدة من المحاولات الهادفة الى حل مشكلة التنافر الاجتماعي ، الناتج عن تعدد الثقافات وتعدد القوميات في الدولة الواحدة ، وفي ذلك الوقت فان طبيعة النظام السياسي في اكثر الاقطار الاوروبية ، كانت توجد اسبابا لقيام تقسيم طبقي على اساس الانتماء القومي ، مما يجعل طائفة من المواطنين محكومة بارادة الطائفة الاخرى ، فتشكل الاولى مجتمع الدرجة الثانية ، بينما تستأثر الثانية بالدرجة العليا ، ومايترتب عليها من امتيازات ومكاسب ، بل ان بعض الامبراطوريات قامت بمحاولات جادة وعنيفة ، لتذويب القوميات والثقافات في بوتقة القومية المسيطرة ، مع ما استتبع هذا السعي من تكاليف باهضة ، على الصعيد المادي والبشري ، كما على الصعيد السياسي ، ولاينسى معظم المؤرخين سياسة الفرنسة في الجزائر ، ولاسياسة التتريك التي قادها حزب تركيا الفتاة ، عشية الغروب المؤلم لشمس الدولة العثمانية ، فضلا عن محاكم التفتيش المشهورة ، التي اعقبت سقوط الدولة الاسلامية في الاندلس .

تنوع باهظ الـثمن
وفي الفترة بين الحربين العالميتين حاول الحزب النازي بزعامة ادولف هتلر ، الذي اصبح من ثم الحزب الحاكم ، احياء هذه النزعة وتأجيجها على نطاق اوسع ، يقوم على التمييز بين الالمان ، باعتبارهم النموذج الانساني الاصفى والارقى ، وبين بقية سكان العالم الذين اعتبرهم من الدرجة الثانية ، وادى ذلك الى الويلات والمآسي المعروفة في الحرب الكونية الثانية .
اما في العالم العربي ، فثمة امثلة عديدة على التنافرات السياسية ، التي نتجت عن التعدد الثقافي او القومي في القطر الواحد ، من بينها الحرب الطويلة المزمنة في شمال العراق ، بين الحكومة والاقلية الكردية ، والحرب الاهلية اللبنانية التي استعرت بين الطوائف الدينية ، مرتين على الاقل خلال اقل من قرن ، وحديثا جدا الدعوة المتعاظمة بين الجزائريين الذين يرجعون الى اصول بربرية ، للحصول على وضع مميز ضمن الدولة الجزائرية .

يطمح السياسيون الى دولة ذات مجتمع واحد ، بثقافة واحدة ، لاتقاء التعدد الذي قد يصبح في وقت من الاوقات ، مبررا للتنافر الاجتماعي ، لكن يبدو ان تحقيق مثل هذا المجتمع ، لم يعد الان ضمن قائمة الممكنات على الصعيد السياسي ، بل ان العالم يسير حثيثا باتجاه مستويات من التنوع الثقافي داخل كل دولة ، تعيد من جديد صورة الامبراطوريات الكبرى ، التي سادت في ازمان سالفة ، وضمت تحت لوائها قوميات وشعوبا عديدة ، على بقاع واسعة من الارض ، كما هو الشأن في الدول الاسلامية المتعاقبة ، وامبراطوريات القرون الوسطى الاوربية ، ان تزايد الاهتمام بقضية حقوق الانسان من جهة ، وتحرير التجارة الدولية من جهة اخرى ، اضافة الى التقدم العظيم في وسائل الاتصال الجمعي ، ولاسيما في الربع الاخير من هذا القرن ، يؤذن بسقوط الحواجز السياسية التي تفصل بين الدول القومية ، كما يعمل على تفتيت الحدود الثقافية ، التي تشير الى خصائص لمجتمعات تتميز بها عمن سواها .

تعدد تحت سقف واحد
وبالنظر الى هذه التطورات ، فان الرهان القديم على امكانية قيام مجتمع نقي العنصر ، موحد الثقافة ، اصبح جزء من الماضي ، وحل محله قبول يتزايد مع مرور الزمن ، بفكرة المجتمع المتنوع والمتعدد الثقافات ، ضمن الاطار القانوني لسيادة الدولة .
لكن التعدد كان في الماضي ارضية للتنافر الاجتماعي ، ادى في احيان كثيرة الى نزاعات سياسية مكلفة ، ولذلك فان اعتماده قاعدة للعلاقة بين الدولة الحديثة والمجتمع ، بحاجة الى منهج في العمل واجراءات سياسية ، تتيح معالجة الاشكالات التي لابد ان تنتج عن الوضع الجديد .
ان اهم جزء من منهج العمل ، هو الاعتراف بحق كل مجموعة ثقافية في التمتع بخصوصيتها ، وحماية حقها الكامل في التعبير عن توجهاتها الثقافية ، بما لايصل الى الاضرار المادي او المعنوي بالمجموعات الاخرى ، وهي تحصل على هذا الحق في مقابل اقرارها الكامل بسيادة الدولة ، وتعالي القانون الوطني ، ومعالجة اي جزء من ثقافتها الخاصة ، ربما ينطوي على توجهات مخالفة لمصالح مجموع البلاد .

كما ينبغي اتخاذ اجراءات تستهدف تأكيد الهوية الوطنية ، الجامعة لمختلف الافراد والمجموعات الثقافية والاجتماعية في البلد الواحد ، والتاكيد على اعتبار هذه الهوية وتطبيقاتها ، حاكمة على اي مجموعة بمفردها ، بالنظر لكونها تمثل الحد القانوني والمعترف به ، لمفهوم المصلحة العامة الذي يرجع اليه الجميع .

وياتي في طليعة تلك الاجراءات ، مساعدة كل مجموعة على الانفتاح على الاخرى ، ثقافيا واقتصاديا ، حتى يبقى التنوع في حدوده الطبيعة ، كخاصية للجماعة ، فلا يتعداها الى الحدود المبغوضة ، كأن يصبح مبررا للتعالي على الغير او اعتزالهم .

 وفي الولايات المتحدة ومعظم الدول الاوربية ، التي يهاجر اليها مئات الالاف من البشر كل عام ، تتبنى الحكومات سياسة مزدوجة لاستيعاب المهاجرين ، تتضمن ـ من جهة ـ التاكيد على كون وطنهم الجديد هو الوطن النهائي الذي يختص بالولاء والحب ، كما تتضمن ـ من الجهة الاخرى ـ حماية حقهم في التعبير عن هويتهم الثقافية الخاصة ، مع تعديلها لكي تتناسب ونمط الحياة ، ومتطلبات القانون في الوطن الجديد .

ويظهر من دراسة التجربة الامريكية على وجه الخصوص ، ان سياسة الدمج المتوازن تحقق نجاحات كبيرة ، فهذا البلد الذي تشكل اساسا من مهاجرين من مختلف ارجاء العالم استطاع الحفاظ على مكانته كاقوى بلد في العالم ، واكثرها تقدما ، بل انه استثمر ذلك التنوع في تعزيز نفوذه الاقتصادي والثقافي في معظم بلدان العالم الاخرى ، بخلاف التجربة السوفياتية البائدة ، التي قامت على الدمج القسري وسيطرة الاكثرية الروسية ، فانتهت الى النزاعات القومية الدامية ، التي قلّ ان تخلو صحيفة يومية من اخبار جديدة عنها وعن مآسيها .
نشر في (اليوم) 13-ديسمبر- 1994

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...