لا
يستطيع المال حل جميع المشكلات لكنه يستطيع بالتاكيد ايجاد الظرف الملائم لتيسير
الحل. في ظل ندرة الموارد فان النقاط الضعيفة في النظام الاجتماعي تميل الى التأزم
وتظهر على السطح في صورة معضلات مثل البطالة والفقر وتقلص الفرص وغيرها . وبالعكس
من ذلك فان وفرة الموارد توفر وظائف جديدة
كما تعزز الامل في نفوس الناس بامكانية تحقيق الاهداف الحيوية. ما نلاحظه
اليوم من انشغال مفرط للجمهور بسوق الاسهم وغيرها من قنوات الاستثمار هو مؤشر على
تراجع فعلي للمشكلات التي سادت خلال
السنوات الماضية وشكلت موردا متجددا للشكوى سواء في الصحافة او في الملتقيات
الاجتماعية . تجدد الامل نشهده ايضا في الارتفاع الكبير للانفاق الفردي كما يظهر
في عودة الازدهار لسوق البناء والانشاء التي يقدر بعض التجار الزيادة فيها بنحو 40
بالمائة قياسا الى العام الماضي .
يعرف
اهل السياسة مثل هذا الظرف بظرف الارتخاء السياسي ، وهو على وجه التحديد الفترة الزمنية
التي يسود فيها التفاؤل بين الناس ويتحدثون عن آمالهم ومكاسبهم اكثر مما يتحدثون
عن احباطاتهم ومشاكلهم . بالنسبة للقادة السياسيين فان هذا الظرف هو الفرصة
المثالية للقيام بالتغييرات المثيرة للجدل . في العادة فان الشعور بالحاجة الى
تغييرات اساسية في النظام الاجتماعي او الاستراتيجيات السياسية الكبري يتولد في
ظروف الازمة . ذلك ان الازمة بذاتها هي دليل على وجود خلل ما او قصور ما يحتاج الى
علاج . لكن في الوقت نفسه فان معظم السياسيين لا يميل الى التغيير في ظرف الازمة ،
خشية ان يثير ردود فعل معاكسة ، ربما تعمق التازم بدل ان تعالجه. والسر في ذلك واضح ، ففي ظروف الازمة
(الاقتصادية او السياسية او الاجتماعية) يميل الناس الى الارتياب والسلبية .
واذا كان التغيير المنشود مخالفا
لرغبات شريحة اجتماعية ما ، فلعلها تتخذه مبررا جديدا للتاكيد على شكوكها السابقة
. وقد شهدنا في بلاد عربية واجنبية كثيرة ، ان محاولات الاصلاح الاقتصادي مثلا قد
اثارت غضبا عارما بين شرائح عريضة من المجتمع ، رغم القناعة الكاملة من جانب
المخططين بانها الحل الانجع للازمات والمشكلات التي تواجه تلك الشريحة بالذات.
ولعل احدث الامثلة على ذلك هو الاضطرابات التي شهدتها اليمن في اواخر يوليو الماضي
بعد قرار الحكومة الغاء الدعم على المشتقات البترولية ، الامر الذي ادى الى رفع
اسعارها في السوق المحلي . هذه الاضطرابات التي ذهب ضحيتها قتلى وجرحى هي مثال على
نوعية ردود الفعل التي يمكن ان تثيرها سياسات الاصلاح الحكومية . الاصلاحات
الاقتصادية تثير غضب الشارع وربما تفجر احتجاجات عنيفة ، اما الاصلاحات السياسية
فتثير ردود فعل غاضبة في داخل الحلقات القريبة من مراكز القرار ، اي ضمن النخبة
التي تشارك في السلطة السياسية او تؤثر فيها مباشرة . ولهذا فهي - رغم لينها
النسبي قياسا الى غضب الشارع - تولد تاثيرا اكبر على اصحاب القرار . ذلك انها
تنطوي على تهديد جدي بتفكك نظام العلاقات الداخلية او تضعضع الاجماع الذي يتكيء
عليه النظام السياسي . في الحقيقة فان السبب الرئيسي لتردد الكثير من الحكومات
العربية في تبني اصلاحات جذرية وواسعة النطاق يرجع الى القلق من تخلخل البيت
الداخلي للنخبة السياسية العليا ، او خسارة القوى الاجتماعية التي تحتاج النخبة
الى دعمها .
في
ظل ظروف الازمة تتحاشى النخبة الاقدام على اصلاحات ذات معنى ، خشية ان تستغل من
جانب القوى الاهلية الغاضبة في فرض مراداتها ومطالبها . ان ظرف الازمة هو ظرف عدم استقرار ، وربما يؤدي
الاقدام على خطوات مثيرة للجدل الى المزيد
من عدم الاستقرار . وعلى العكس من ذلك فان ظرف الرخاء الاقتصادي يقود بالضرورة الى ارتخاء اجتماعي وسياسي ، وهو
ظرف يسود فيه الامل والتطلع الى الاحسن . وبالتالي فان الاكثرية الساحقة من الناس
تميل الى القبول بالتجديد والتغيير ، بل وتحتمل حتى التغييرات التي لم تكن ترضى
بها في ظروف اخرى. كما تميل الى المهادنة والقبول بالحلول الوسطى والتوافقات .
والسر في ذلك يرجع الى ان الرخاء المعيشي وتوفر الموارد يولد في داخل الانسان نوعا
من الاستقرار والسلام النفسي ، والميل الى التعامل او المداهنة مع الغير بدل
الارتياب فيهم . الامان المعيشي يعزز الامل في المستقبل . في ظل هذا الظرف فان
المجتمع سيكون اكثر استعدادا للقبول بالتعاون مع السلطة بدل استثمار الاصلاحات في
الانتقاض عليها . ولهذا السبب فان ظرف الارتخاء هو الفرصة المثالية للاقدام على
اصلاحات سياسية كبيرة ، لانها سوف لن تستثمر في الانقضاض على السلطة كما تخشى
النخبة عادة .
وفي
اعتقادي ان ظرف النشاط الاقتصادي الذي تشهده حاليا دول المشرق العربي ، ولا سيما الدول الخليجية هو الفرصة المثالية
للقيام بالتغييرات التي طال الحديث عنها ، اي تلك التغييرات الضرورية لتحديث نظام
الادارة السياسية والهندسة الاجتماعية وانماط المعيشة والانشغالات الثقافية والعلمية
. ليس من الصالح التسويف والتاجيل لاننا لا ندري ان كانت حقبة الرخاء الحالية سوف
تستمر سنوات طويلة ام انها سوف تتلاشى بعد عامين او ثلاثة . نقول هذا وخلفنا تجربة
الثمانينات من القرن الماضي حين قفزت اسعار البترول الى خمسة اضعافها خلال خمس
سنين ثم عادت فهوت من جديد مخلفة وراءها ازمات وضيق معيشة ومشكلات على اكثر من
صعيد . ان الاستثمار الامثل للثروة المتوفرة اليوم يكمن في اصلاح الخلل المزمن في
نظامنا الاجتماعي كي يكون اقدر على مجابهة التحديات المختلفة التي تتوجه اليه من
كل صوب ، سواء التحديات المرتبطة بتراجع الدخل الوطني او تغير الظرف السياسي الاقليمي
او الدولي او تغير الثقافة والسلوكيات بسبب الانفتاح المتزايد في العالم .
الايام
18 اكتوبر 2005
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق