ثمة خبر نقلته الصحف في الأسبوع المنصرم ، لكنه لم يثر سوى القليل من اهتمام المراقبين. وفحواه ان الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان- فرع الشمال ، توصلا الى وثيقة مباديء ، تمهد الطريق أمام اتفاق نهائي للسلام. والمعتقد ان قبول الحكومة بتعديلات دستورية ، من بينها ضمان حرية الاعتقاد والعبادة للجميع ، وفصل الدين عن الدولة ، هو الذي سهل الاتفاق على التسالم ، بعد نزاع مسلح استمر نصف قرن.
محمد محمد طه |
لا اظن ان هذا سينهي التوترات
الاثنية في السودان ، مع انه خطوة واسعة جدا ، نظرا لاقرار الحكومة بان جوهر
المشكل يكمن في النظام والثقافة السياسية
المهيمنة ، وليس في تدخلات الأجانب كما كان يقال دائما.
اعتقد ان تازمات الهوية ليست من نوع الازمات التي تملك وقودا
ذاتيا. فهي ليست قابلة للتفجر حيثما وجدت. ثمة مثل شعبي مشهور ، يبدو ان رجال
الدين عملوا على تكريسه ، يقول "الذي ليس على دينك لا يعينك" وفحواه ان
العقيدة الدينية هي العامل الحاسم في توجيه سلوك الأشخاص. لكن هذا غير صحيح ، الا اذا
تمت ادلجة الافراد ، أي اقناعهم بان الفريق الذي ينتمون اليه ، هو الوحيد المستقيم
، وان غيرهم مشكوك.
تحولات السياسة (ومعها توازنات القوى) والاقتصاد وربما الثقافة
، هي العامل الذي يوجد الفرصة لتحويل خطوط التنوع الى خطوط اختلاف ومن ثم
تنازع.
قد تختلف عوامل التأزيم بين وقت وآخر. لكني اود الإشارة الى عامل
مشترك يعرفه جميع الناس ، لكنه لم يدرس على نطاق واسع. اعني به ما اسماه د. برهان غليون "الاستئثار
بالراسمال الرمزي المشترك وادعاء الانفراد بملكيته".
هذا العامل مهم لانه يعطي القوى السياسية أداة قوية لقهر
المختلفين في المقام الأول ، ثم المشابهين في مرحلة تالية. في السودان مثلا ، استعملت
القوى السياسية التنوع الديني والاثني كوسيلة
استقواء. وقد شارك في هذا حركيون إسلاميون ، وجماعات صوفية ، وقوميون عرب ،
ومجموعات قبلية ، وأخرى مسيحية تناضل للاعتراف بحقوقها المتساوية ، وربما أصناف
أخرى لا اعرفها.
دعنا نأخذ السلوك السياسي للإسلاميين كمثال (وهم عدة اتجاهات
كما نعرف) فقد ادعوا أولا انهم الحراس الوحيدون للاسلام. والإسلام راسمال ثقافي
يشترك فيه جميع السودانيين ، بمن فيهم غير المسلمين. في الحقيقة فان الخطاب الذي
حظي بالغلبة ، قد نجح في تحويل مفهوم الانتماء للاسلام بالمعنى الاجتماعي-الثقافي
، الى انتماء بالمعنى الفقهي والايديولوجي ، الذي يؤدي بالضرورة الى اقصاء غير
الملتزم بالمذهب الفقهي الخاص بالقوة الغالبة.
في اول الامر كان المتضرر هو المسيحي والوثني والملحد. لكنه مع
الوقت بدأ يطال المسلم الذي يتبنى مذهبا مختلفا ، او يأخذ باجتهاد مختلف. (نتذكر
هنا المرحوم محمود محمد طه الذي اعدم في
يناير 1985 بعدما اتهم بالردة). بعبارة أخرى ، فان نجاح أصحاب القوة في اقصاء
المختلفين (الذين صادف انهم اقلية في معادلات القوى) أدى تاليا الى اقصاء
المشابهين ، الذين يشكلون أكثرية عددية لكنهم يفتقرون الى القوة المادية او
السياسية.
قد يبدو ان المشكلة تكمن في اقحام الإسلام في الحياة السياسية ،
وهذا هو الذي يبرر دائما الدعوة لفصل الدين عن الدولة. لكني اميل الى الظن بان
المشكلة تكمن في ميل بعض الأطراف الى استعمال الهوية في السياسة. وهو ميل يدعمه
انزعاج قوى اجتماعية معتبرة ، من التنوع والتعدد الديني والثقافي ، والإصرار على
الوحدة التي تفسر عندهم بإلغاء الألوان المختلفة ، وتحويل الناس جميعا الى نسخ
متشابهة.
الشرق
الاوسط الأربعاء - 24 شعبان 1442 هـ - 07 أبريل 2021 مـ رقم العدد [15471]
https://aawsat.com/node/2903931/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق