بين جميع النقاشات التي
شهدتها القمة العربية، لفت انتباهي فقرة في النقاش حول مشكلة اقليم دارفور
السوداني، تؤكد على مساهمة العالم العربي في اعمار الاقليم كجزء من الحل الشامل
للصراع العرقي فيه. ولا اريد المبالغة في الظن بان الاموال ستنهال على هذه المنطقة
الفقيرة فور انتهاء القمة. لكن تبني مبدأ «الدعم الحياتي كجزء من الحل السياسي» هو
من غير شك لب المسألة وهو الطريق الصحيح لمعالجة التوترات العرقية والاجتماعية.
عرف العالم العربي الحلول الامنية والعسكرية مرارا وتكرارا ولم يفلح في أي منها.
وجرب الحلول السياسية والاقتصادية في بعض الاحوال وقد نجحت جميعا. ابتلي السودان
نفسه بحرب طاحنة في الجنوب طالت ثلاثين عاما، ولم تنته الا بعد تنازل الخرطوم
وقبولها بمشاركة الجنوبيين في السلطة والثروة. وفر هذا الحل أرواح الآلاف من الناس
كما وفر 400 مليون دولار كان ينفقها الجيش السوداني سنويا على الحرب في الجنوب.
ومثل ذلك تجربة الصراع بين الاكراد والحكومة العراقية التي استمرت منذ 1936 حتى
2003، ولم تنته رغم ان الحكومة جربت اقسى وسائل الحرب، أي الابادة الجماعية حين
دمرت قرى بكاملها وقصفت اخرى بالقنابل الكيماوية. استهلك هذا الصراع ارواح مئات
الالاف من العراقيين والمليارات من الموارد وضيع الكثير من فرص النمو، لكنه لم يجد
حلا الا حين اعترف العراقيون جميعا بحق الاكراد في حكم ذاتي ضمن نظام فيدرالي موسع يقوم على الديمقراطية
والتعددية والتوزيع المتكافئ للموارد الوطنية.
ولهذا فليس لدينا اليوم مشكلة اسمها
المشكلة الكردية، كما كان الحال طوال العقود السبعة الماضية. بدأت مشكلة دارفور
بصراع بين القبائل على مراعي الابل ومصادر الماء الشحيحة في الاقليم. وتطورت الى
نزاع على حقوق الملكية، ثم تفاقمت حين دخل فيها العامل القومي والعنصري، وبلغت
ذروتها حين اصبحت جزءاً من النزاع الدولي حول السودان ونظامه.
والمؤسف ان حكومة
الخرطوم قد ارتكبت خطأ فادحا بانسياقها الى النهج الخطير الشائع في السياسة العربية
الذي يميل الى اختراق المجتمع المحلي وتقسيمه الى حلفاء واعداء، وهو منهج يؤدي
بالضرورة الى استعداء فريق والانحياز الى آخر والدخول طرفا في النزاع بدل الحياد
بين المتنازعين ولجم الاندفاع نحو الازمة.
وقد ادى هذا المنهج كما يحدث دائما الى
تشديد الكراهية بين القبائل الافريقية من جهة وبين الحكومة وحلفائها من جهة اخرى،
وتحولت ازمة دارفور الصغيرة الى مشكلة دولية تهدد استقرار السودان واستقلاله. لو
بادرت الخرطوم ومعها العالم العربي الى العلاج الاقتصادي قبل ظهور المشكلة، او على
الاقل قبل تفاقمها، لما كان لدينا اليوم مشكلة اسمها دارفور. بدأ الصراع بسبب ندرة
الموارد، ولهذا فان الحل يبدأ هو الاخر بتوفير موارد اضافية لحل مشكلة الندرة.
صحيح ان السودان فقير، لكنه كان قادرا على حل هذه المشكلة بنفسه او بالتعاون مع
اشقائه العرب. تنفق الحكومة على قواتها العسكرية في دارفور اضعاف ما كان ضروريا
لاطلاق تنمية تحل مشاكل الاقليم وتبرد التوتر بين سكانه. بعبارة اخرى فان الانزلاق
الى فكرة الحل العسكري السريع قد فاقم المشكلة وضاعف كلفة الحل البديل، وهذا ما
يحدث دائما. اقرار القمة العربية بالحاجة الى اعمار دارفور كجزء من سلة الحل هو مجرد
بداية.
وينبغي للحكومة السودانية ان تعمل على تفعيله في أسرع وقت ممكن. بكلمة اخرى
فان الخرطوم بحاجة الى حل ذي ثلاثة ابعاد: اولها ادماج ممثلي السكان المحليين في
الادارة الحكومية، وثانيها اطلاق حملة اعمار تركز على تأمين مصادرالعيش الكريم
للسكان، وثالثها القبول بقوات عربية او افريقية مساندة للقوات السودانية كنوع من
الضمان المؤقت للسكان المحليين الذين فقدوا الثقة في حكومتهم حتى يستعيدوا الثقة
فيها. طالما كان السودان فقيرا ومتكلا على غيره، لكن ارتفاع اسعار البترول يوفر
الان فرصة نادرة لهذا البلد كي يغير صورته القديمة.
ولهذا يتوجب عليه استثمار كل
قرش يحصل عليه من مبيعات البترول في الاعمار والتنمية بدل تضييعها في حروب متنقلة
بين اقاليمه. يمكن للمال ان يحل مشكلات كثيرة، لكنه في كل الاحوال يحتاج الى ارادة
والى استعداد لتقديم تنازلات. لا يعيب أي حكومة ان تتنازل لشعبها، بل يعيبها قتلهم
او تركهم يقتلون على ايدي بعضهم البعض، ويعيبها بالتاكيد تركهم يعانون الفاقة وشظف
العيش بينما يتغنى الاعلام الحكومي بالوطن والسلام.
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070404/Con20070404100694.htm
الأربعاء 16/03/1428هـ ) 04/
أبريل/2007 العدد : 2117
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق