26/07/2023

مأزق الأسئلة الضبابية

السطور التالية جواب على سؤال وجه لي تكرارا ، وفي صيغ مختلفة ، محورها جميعا هو المسافة بين الثقافة والوعي ، على مستوى المجتمع او البلد بأكمله. ويظهر لي ان هذا من نوع الأسئلة التي لا يمكن الجواب عليها بنحو قطعي.

بيان ذلك: ان الذين يطرحون السؤال ، ليسوا متفقين على الاطار الموضوعي الذي يدور فيه نقاشهم. فهل يقصدون الوعي والثقافة بالمعنى العام الذي يملكه غالبية الناس؟. ام ياترى يعنون صنفا خاصا من الثقافة والوعي؟. وقرأت قبل أيام مقالة تعيب على بعض كبار المثقفين العرب تقبلهم لفكرة التطبيع مع اسرائيل ، ويقول الكاتب ان اولئك المثقفين ينقصهم الوعي بحقيقة الصراع وأبعاده ، وموقع التطبيع من هذا الصراع التاريخي. فالواضح ان الوعي واللاوعي يعادل – عند هذا الكاتب -  تبني موقف محدد من الصراع مع اسرائيل ، وليس الوعي في معناه العام.

وفي وقت مقارب ذكر كاتب آخر ان الشعب الامريكي مغيب وغير واع بما تدبره النخبة اليسارية من مؤامرات كبرى للسيطرة على مقدرات البلاد. وأظنه قد أشار الى ان النخبة اليسارية التي يعنيها ، تتألف من الامريكان الأفارقة ورجال الاعمال الذين يديرون شركات التقنية الكبرى. ومعظم هؤلاء من المهاجرين الجدد. اما زعيم هذه النخبة فهو الرئيس الأسبق باراك اوباما ، كما يظهر من سياق الكلام.

كما قرأت قبل سنوات مقالا لكاتب امريكي يقسم بالايمان المغلظة ، ان كل ما يجري في الولايات المتحدة من انتخابات ومؤسسات ، ليس سوى مسرحية محبوكة جيدا ، وان الحكومة الحقيقية التي تدير هذه البلاد هي منظمة الامم المتحدة ، وهي التي تعين الرؤساء وقادة الجيش ، وتسخر الاعلام والفن لابقاء الشعب مغيبا وغير واع بما يجري من حوله. بل ان ضابطا سابقا في سلاح الجو الامريكي نشر كتابا في 1991 يزعم فيه انه اطلع شخصيا على وثائق سرية تثبت ان مؤسسات حكومية امريكية تنسق مع كائنات فضائية للسيطرة على ا لولايات المتحدة وادارتها سرا.

وأعلم ان بعض القراء الاعزاء سيضحك في سره من هذه التقديرات المنحازة. لكنها امثلة حية على ان الوعي المقصود في بعض الكتابات ، هو تبني الموقف الخاص بالكاتب او المتحدث: من قبله فهو واع ، ومن انكره او تبنى غيره فهو مغيب أو غافل.

ويغلب على ظني ان لا فائدة ترتجى من الاسئلة العامة التي لا تدري في اي عالم تدور. ولهذا فقد يكون الأولى ان "نفترض" مقصدا للسائل ، فنحيل السؤال إليه ، ونجيب عنه بما يقتضيه هذا المقصد. والغرض من هذا التحوير هو تلافي تضييع الفائدة المرجوة من النقاش. وقد رأيت عددا من كبار الأساتذة يفعله صراحة ، فيقول مثلا: اني لا اعلم المقصود بهذا السؤال لكن سأفترض انه كذا وكذا..

وعلى هذا المنوال فسوف أفترض ان غرض السؤال الذي بدأنا به ، هو المسافة بين الثقافة في معناها العام ، وبين الوعي المؤدي لفهم الواقع والسعي لتغييره ، فالوعي هنا يقابل القدرة على نقد الواقع ، واكتشاف الفارق بينه وبين الوضع الأمثل ، اي بين الحاضر والمستقبل ، والدعوة الى سلوك طريق التغيير. الثقافة هنا تمهد للوعي وتوفر المادة اللازمة لاكتماله ، فهي تحرك حاملها كي يلعب الدور التاريخي المطلوب من أهل العلم. ومادمت قد بلغت هذه النقطة ، فلابأس بالاشارة الى اني لا أرى المثقف مسؤولا عن اي شيء ، سوى ان ينتج شيئا يليق بما يحمله من معرفة ، تماما مثل الطبيب والمهندس والفلاح الذين نطالبهم بأن يتقنوا مهنهم ، كي يسهموا في عمران الكوكب.

زبدة القول اذن ان الوعي يساوي القدرة على نقد الواقع ، اي فهم وتفكيك الثقافة التي تبرره ، وكمال الوعي يكمن في تشخيص المسافة التي تفصل بين النقطة التي نقف عندها ، والنقطة التي نريد الوصول اليها.

الشرق الاوسط الأربعاء - 09 مُحرَّم 1445 هـ - 26 يوليو 2023 م    https://aawsat.news/vyvqb

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...