في هذه الكتابة شيء من العسر. وأرجو من الأصدقاء
الأعزاء الذين تفضلوا بقراءتها ، ان يتحملوا قليلا ، وأعدهم بأنها ستحل إشكالية
مهمة جدا ، وكثيرة التكرار في النقاشات المتعلقة بالعقلاني واللاعقلاني في المعتقدات
والأفكار ، ولا سيما في مدى التزام الفرد بما هو سائد في المحيط الاجتماعي من
قناعات وآراء.
وكما وعدت في مقالة الأسبوع الماضي ، فاني سأتعرض لرؤية الفيلسوف الفرنسي اندريه لالاند المتعلقة بوظيفة العقل. لكني سأطرقها من زاوية مختلفة نوعا ما.
أخذا بعين الاعتبار مختلف الآراء التي عالجت وظائف
العقل ومكانته في التفكير والتشريع ، والتي عرضها مفكرون قدامى او معاصرون ،
استطيع تحديد ثلاث وظائف محورية للعقل ، يظهر دور كل منها في مرحلة عمرية محددة ، بدرجة
اكبر من الاخرى. وأعني بهذا مرحلة الصبا المبكر ، ومرحلة الاندماج الاجتماعي (بداية
سن العمل) ثم مرحلة الاستقلال الذهني.
سنبدأ بمرحلة الشباب المبكر ، حين يكون الانسان متلقيا
ومستهلكا لما يراه او يسمعه في المجتمع المحيط به. دعنا نفترض انه صبي في الثانية
عشرة من العمر ، وقد أخبره استاذه بأن الضوء والظلام ربما يجتمعان في وقت واحد ،
أو ربما يكون الشخص موجودا وغائبا في نفس المكان ، او انه ثمة من هو صغير وكبير في
ذات اللحظة. فهل تظن ان الصبي سيتقبل الفكرة ويصدق مقالة استاذه؟.
ان أردت التحقق من المسألة ، فقلها لصبي في هذ العمر
، واختبر رد فعله. لقد جربتها بنفسي مع عدة اشخاص في هذا العمر او دونه ، فضحك بعضهم
ظنا انني أسرد عليهم نكتة او لغزا. آخرون سكتوا واجمين بين مصدق ومكذب. المهم اني
لم اجد من يصدق إمكانية اجتماع المتناقضات ، مكانيا او زمانيا أو موضوعيا. فمن
الذي اخبر أولئك الصبيان باستحالة اجتماع النقيضين ، وكيف اكتشفوا ان ما نذكره هو
فعلا نقائض وليس مجرد عناصر منفصلة عن بعضها.
تعرف الفلاسفة على هذه القصة منذ قديم الزمان. وفي العصور
الحديثة ، كانت محط اهتمام العديد من الفلاسفة البارزين ، لا سيما مع بروز النزعة
التجريبية ، التي تنفي أي علم او معرفة عقلية قبل التجربة. ايمانويل كانط مثلا ، قال
مجادلا التجريبيين: حين تجري تجربة ، ستحتاج لمعرفة مسبقة بالعناصر الداخلة فيها
ومعايير قياس سلامة الناتج ، فمن أين جاءت تلك المعرفة ، هل هي نتاج لتجربة
سابقة؟. لكن تلك التجربة تحتاج أيضا الى معرفة سابقة ، وهكذا سوف ندور وندور في
حلقة مفرغة بلا بداية. وسيظهر في نهاية المطاف ، انه لا محيص من القبول بفرضية ان
العقل مجهز– قبل أي تجربة – ببعض أدوات التعقل الضرورية للقيام بأشياء عديدة ،
ومنها الدخول في تجارب. هذه الأدوات هي ما نعرفه باسم العقل الفطري او العقل المحض
او المعارف القبلية. وهي تتمظهر في صورة حدس او تخيل أو تأملات منطقية ، لا يعرف
الانسان ، سيما في مراحل عمرية مبكرة ، مصدرها او ضوابطها ، لكنه يجدها في نفسه فيستعملها
ويثق في دلالاتها. ومع مرور الزمن تنضج هذه الأدوات وتتحول الى ما نسميه بالعقل
العملي ، وهو مرحلة اعلى من عمل العقل ، يبرز دورها خصوصا مع تقدم الصبي الى مرحلة
الشباب ، ولاسيما حين يحتاج لتقديم نفسه الى بقية اعضاء المجتمع. وهذا ما سنتحدث
عنه في الأسبوع القادم ان شاء الله.
زبدة القول ان العقل في مرحلة الصبا ليس عقلا منتجا للافكار ، لكنه قادر على فهم الأشياء ، وتمييز ما هو ممتنع عقلا عما هو ممكن ، نظير ما ذكرناه عن المتناقضات. هذه القابلية تسمح لنا بالقول ان الانسان لا يولد جاهلا ، بمعنى ان الجهل ليس هو الأصل في الانسان ، كما يظهر من كلام استاذنا إبراهيم البليهي.
مقالات ذات صلة:
الانشغال بالعلم والانشغال بالجن
تعقيب على استاذنا البليهي
الشرق
الأوسط الخميس - 04 جمادى الآخرة 1446 هـ - 5 ديسمبر 2024 م
https://aawsat.com/node/5088397
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق