قبل
بضعة أيام أعادت وزراة التعليم السعودية التأكيد على تصفية المكتبات المدرسية من
الكتب الداعية للتطرف. وهذا جزء من سياسة أقرت قبل سنوات ، هدفها تجفيف مصادر
التشدد في التعليم العام.
ومثل كل الاخبار الجديدة ، حظي القرار بتأييد بعض الناس وعارضه آخرون. لكن في المجمل فقد أعاد القرار احياء نقاش قديم حول مصادر التطرف في الثقافة العامة ، سيما ثقافة الشباب.
يجب
القول ابتداء ان هذه ليست مهمة يسيرة ولا يمكن انجازها في بضع سنين. كما لا ينبغي
المبالغة في تحميل المدرسة عبء المهمة بمجملها. الميول المتطرفة ليست ثمرة عامل واحد
، وعلاجها ليس سهلا كي يلقى على طرف واحد. يعرف الاجتماعيون ان تشكيل الذهن الجمعي
، او ما نسميه هنا بالثقافة العامة ، يتأثر بعوامل عديدة ، بعضها ثقافي بالمعنى
الخاص مثل التعليم والاعلام والتربية الدينية ، وبعضها بعيد تماما عن هذا الاطار ،
كالاقتصاد والسياسة والتقاليد الاجتماعية والموقع الطبقى الخ.
من
هنا فان تفكيك الميول المتطرفة يحتاج لاستراتيجية وطنية شاملة ، تتعامل مع الثقافة
في معناها الموسع ، اي مجموع المصادر التي تشكل الذهن الجمعي.
بعد
سنوات من القراءة والتأمل في العلاقة بين الثقافة والعنف ، استطيع القول ان احد
المفاتيح الرئيسية لفهم المشكلة يكمن في "المنغلقات" او الطرق المسدودة.
يمكنني تعريف المنغلقات بالصدام بين الارادة والعجز. ثمة مثال معروف يضرب عادة
لادانة السلوك الهروبي من المشكلات ، لكني اراه صالحا لتوضيح مسألة الصدام تلك.
فحوى المثال ان تلميذا فشل في الاختبار وحين سأله زملاؤه عن السبب أجاب بأن معلمه
حاقد عليه فاسقطه عمدا. يضرب اخرون مثلا بابن الشيخ الذي عانى من عنف ابيه فاتجه
الى الالحاد. وحين سئل الاب عن السبب وضع اللوم على المدرسة والتلفزيون ورفاق
السوء.. الخ.
يكثر
سرد هذين المثالين وأشباههما لتأكيد العلاقة بين الفعل ورد الفعل. وينظر اليهما
عادة كدليل على خط مستقيم يشبه القاعدة المعروفة في الفيزياء: كل فعل يولد رد فعل
يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه.
وأرى
ان استعمال هذه القاعدة لتفسير الفعل والانفعال الاجتماعي غير سليم ، او انه – على
أقل التقادير – قاصر عن ايضاح الطبيعة المركبة للفعل الانساني وما يترتب عليه من
تموجات في المحيط الاجتماعي. ان تبرير التلميذ لفشله في الامتحان بحقد معلمه قد لا
يكون – بالضرورة - تعبيرا عن رغبته في تبرئة نفسه من المسؤولية ، بل ربما ينم عن
جهله بالاسباب الاخرى المحتملة. تماما مثل لوم الشيخ للتلفزيون والمدرسة ورفاق
السوء ، الذي قد يخفي عدم ادراكه لمجموع العوامل التي قادت الى هذه النتيجة.
كان
المفكر الامريكي دانييل
ليرنر قد ناقش بالتفصيل مسألة "التكيف=empathy" بل اعتبرها محور نظريته حول التحديث
والتنمية. تعرف القابلية للتكيف بالقدرة على اكتشاف وتبني بدائل/تفسيرات او حلول
بديلة عن المألوف والمعروف مسبقا. وبهذا فهو المقابل لما أسميته
"المنغلقات" او الطرق المسدودة والاحادية. اعتقد أن اي استراتيجة وطنية
لمعالجة التطرف ينبغي ان تركز على كشف ومعالجة المنغلقات ، اي نقاط التصادم بين
الارادة والعجز. هذه النقاط منتشرة في حياتنا الخاصة والعامة. وكثير منها يتحول
الى توترات ثقافية/ذهنية ، تشكل ارضية خصبة لاستقبال دواعي التطرف ودعواته.
المدرسة قد تلعب دورا مهما في تسكين او اعادة توجيه ميول الشاب. لكن من المبالغة
اعتبار هذا الدور حلا كاملا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق