في
مرحلة اعادة بناء النظام السياسي الجديد ، يواجه العراق العديد من التحديات ، من
بين ابرزها اعادة بناء فكرة الولاء الوطني . الولاء للوطن هو واحد من المفاهيم
التاسيسية لاي مجتمع سياسي ، ويفترض كثيرون انه يتحقق بصورة طبيعية او كانعكاس
للعلاقات الجديدة التي تنشأ عن وعي افراد المجتمع بوجود الدولة . خلافا لهذا
الاعتقاد ، فان الاحساس بوجود الدولة ليس امرا بديهيا ، فقد ثبت ان هناك بعض المجتمعات المعزولة – رغم قلتها ومحدودية
حجمها – التي لا تشعر بوجود الدولة ، او لا تشعر بها كعامل مهم في حياتها اليومية
والعامة .
يبدو
للوهلة الاولى ان فكرة الولاء الوطني ، هي من البساطة والعفوية بحيث لا تحتاج الى
مناقشة . في حقيقة الامر فانها - مثل كثير من الامور البسيطة الاخرى – ذات ظاهر
مخادع ، فما نتصوره بسيطا وعفويا قد لا يكون كذلك . لو تأمل الانسان في كلا
الجزئين اللذين يؤلفان الفكرة ، اي الولاء والوطن ، فسوف يندهش من حقيقة ان كلا
منهما يفتقر الى تعريف نهائي متفق عليه . نحن نعلم مثلا ان فكرة الوطن في معناه
السياسي ليست عميقة الجذور في تراثنا ، ولهذا فقد ظهرت اراء – خلال الستينات
والسبعينات خاصة - تقول ان وطن الانسان هو دينه ، واذكر اننا كنا نتعلم في المدرسة
الابتدائية نشيدا يقول (اضحى الاسلام لنا دينا وجميع الكون لنا سكنا) وهي تشير
بوضوح الى المضمون الاممي للرسالة المحمدية ، وتعكسها في مفهوم سياسي يتعارض بصورة
من الصور مع المفهوم الاقليمي الحديث للوطن.
ويعتقد كثير من القوميين العرب ان وطن العرب هو ارض العرب من اقصاها الى
ادناها ، وليس الاقليم السياسي الخاص ، كما ان بعض الماركسيين كان يعتقد ان فكرة
الوطن رجعية في الاساس ، فالعالم كله وطن لمن ينتج مقومات الحياة . وظهرت في
الثمانينات حركة تدعو الى المواطنة الاممية وتنكر جبر الانسان على الارتباط باقليم
محدد. هذا كله يظهر ان فكرة الوطن ، رغم ما تبدو عليه من بساطة ، هي فكرة معقدة في
حقيقة الامر.
فكرة
الولاء ليست بسيطة ايضا . فهي ترتبط بشدة بمفهوم الهوية . اذا كان الانسان يشعر
بالانتماء الى قبيلته او طائفته بدرجة اقوى من الانتماء لمجتمعه السياسي ، فان
ولاءه المركزي سيكون لتلك الدوائر . وتشتد حدة التمايز بين دوائر الانتماء
المختلفة في الاقطار التي تشهد صراعات اهلية او انقسامات واسعة النطاق. لهذا فان من
اولى واجبات الحكومة في اي بلد ، هو وضع الاطار المناسب لكي تتداخل الهويات
الجزئية في الهوية الوطنية وتصبح جزء من مكوناتها بدلا من ان تكون مقابلا لها او
بديلا عنها .
مشكلة
الولاء الوطني في العراق هي واحد من الامثلة على تقصير الحكومات المتعاقبة في
صياغة الهوية وعلاقة المجتمع بالدولة على نحو مناسب . وقد كشفت الصراعات الدائرة
منذ سقوط النظام السابق عن التأزم الكامن في النسيج الاجتماعي ، والناتج في المقام
الاول عن التحميل القسري لمفهوم غير صحيح للولاء ، وصياغة منحازة لفكرة الوطن . من
بين ابرز الامثلة على ذلك التحميل القسري هو ربط الولاء للوطن بالولاء للنخبة
الحاكمة ولشخص الرئيس بصورة خاصة ، وربط مصير البلد بمصيره الشخصي ، كما لو كان
الوطن كله ، بارضه وشعبه وتراثه وثروته ، متلخصا في ذلك الشخص. واظن ان على عرب
العراق ان يشعروا بالامتنان لاخوانهم الاكراد ، الذين رغم ان النظام السابق
واسلافه قد استثنوهم من المعادلة التي تشكل الوطن العراقي ، الا نهم في المقابل
تمسكوا بوحدة العراق وانتمائهم اليه.
تحويل
الولاء الوطني الى ولاء سياسي للنخبة الحاكمة او شخص الرئيس له اثار كارثية على
الوطن ، اذ ان الوطن يتحول من مظلة جامعة وملاذا مشتركا لكل ابنائه الى ما يشبه
دائرة من دوائر الدولة . وفي هذه الحالة فان اي فشل او تقصير من جانب الحكومة
ينعكس تلقائيا على العلاقة بين المواطن ووطنه . العراق اليوم بحاجة الى اعادة
صياغة لمفهوم الوطن ومفهوم الولاء الوطني . والحقيقة ان دخول القوات المسلحة
الوطنية في الصراعات الاهلية هو الذي اثار هذا الاشكال . وثمة من يخشى من تكرار
تجربة النظام السابق ، حين كان ولاء القوات المسلحة من جيش وشرطة ومخابرات منصرفا
الى شخص الرئيس ونخبته المقربة ، بحيث لا
يجد رجال القوات المسلحة حرجا في ان يقفوا ضد مواطنيهم وان يمارسوا القتل والتدمير
، لا لشيء الا لأن فريقا من المجتمع قد عارض الحكومة . الحكومة العراقية الحالية
مسؤولة بشكل حاسم عن تغيير هذا المفهوم السقيم . الدولة يجب ان تكون تابعة للمجتمع
، والقوات المسلحة حارسة له لا وسيلة اعتداء عليه.
عكاظ ( السبت - 15/10/1425هـ ) الموافق 27 / نوفمبر/ 2004 - العدد
1259
مقالات ذات علاقة
طريق الاقلية في دولة الاكثرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق