02/11/2023

رأيك الذي لا يقبل النقض او الجدل


أردت في مقال الاسبوع الماضي دعوة القراء للتفكير في قيمة المعارف التي يحملونها بالقياس لما عند غيرهم. ولعلي بالغت قليلا إذ زعمت ان ما تراه العين وما تسمعه الاذن ، كلاهما من نوع الظنون ، ولا يرقى لمرتبة الحقيقة ، رغم ما شاع بين الناس من اعتبار رؤية العين دليلا لا يقبل الشك.

اعمق الردود على تلك الفكرة ، هي قول احد الزملاء ، بأن مضمون المقال يساوي انكار اي وجود للحقيقة في العالم. ، فكأن مراده ان الذي نراه أو نعرفه مجرد وهم ، او – على احسن التقادير – مرحلة انتقالية بين الظن والحقيقة.

ستيف جوبز (1955-2011)

لكني ما قصدت هذا بطبيعة الحال ، بل اردت تشجيع القاريء على مجادلة قناعاته ، لا سيما الراسخة والعميقة منها ، التي نظنها حقائق نهائية لا تقبل الشك ولا التعديل. وقد وجدت ان طرح المسألة في صورتها الاكثر تطرفا ، أدعى لتحقيق المراد ، وهو إثارة الأذهان. ان التفكير والتأمل هو الطريق الوحيد في اعتقادي لاكتشاف حدود المعرفة وقيمتها ، الأمر الذي يهدينا للتواضع والتسامح ، واحترام الرأي المضاد ، مهما بدا غريبا عما ألفناه أو ارتحنا اليه.

ما يثير الجدل في غالب الأحيان ، ليس الحقائق الصريحة ، بل الآراء الملتبسة بالحقيقة او  التي يدعي اصحابها انها تطابق الحقيقة. ان اطلاق شخص مثلي صفة الحقيقة على رأيه ، لا يزيل عنها صفة الرأي الشخصي ، الا اذا وافقه الناس جميعا ، او غالبية معتبرة منهم ، حيث تلبس حينئذ صفة الوجود الموضوعي ، مثل وصف "آيفون" الذي اخترعه ستيف جوبز ، فكان مجرد فكرة شخصية ، لكنه تحول لاحقا الى حقيقة موضوعية تشبه الحقيقة التي نسميها التراب والشجر والحديد. فهل ياترى يمكن اطلاق نفس الوصف على الآراء التي احملها انا وأنت أو سائر الناس ، الآراء التي تتعلق بمختلف قضايا حياتنا او حياة الآخرين؟.

كنت قد شرحت في كتابة سابقة رؤية الفيلسوف المعاصر كارل بوبر ، الذي قسم موضوعات المعرفة الى ثلاثة اطارات او عوالم ، أولها الكون المادي الذي نعيش فيه ، والذي يتكون من عناصر واقعية نستطيع لمسها بأيدينا. يتأمل البشر في هذه العناصر ويسعون لفهمها واستكشاف الصلات التي تربط بينها ، ثم يضعون استنتاجاتهم في صورة نظريات تتضمن وصفا وتفسيرا لما تعرفوا عليه.

اما العالم الثاني فهو تصوراتنا عن ذواتنا وعن العالم المحيط بنا ، والتي تتشكل على ضوئها مواقفنا من الاشخاص والحوادث. حركة الذهن في هذا الاطار هي ما يشكل عالمنا الذي نعرفه. بعبارة اخرى فان مجموع تأملات البشر في انفسهم وفي الاخرين ، هي المصدر الذي يشكل معنى العالم ومعنى الافعال التي يقوم بها البشر ، حين يتعاملون مع بعضهم. 

ثالث العوالم هو مجموع ما ينتجه العقل الانساني ، ويطرحه كموضوع مستقل عن صانعه وعن الاشخاص الآخرين ، نظير مثال الآيفون الذي يبقى ويتطور بعد رحيل صاحبه ، الذي – على الارجح – ليس معروفا عند غالبية مستعملي هذا الاختراع. ومثله ايضا الآلات والشبكات والبرامج والاعمال الفنية والكتب والادوية والاغذية ، وكل شيء مطروح امام البشر كمنتج نهائي ، لا يرتبط استمرار وجوده بارادة من صنعه.

هذه عوالم متفاعلة. فالعالم الاول يوفر موضوعات عمل الثاني ، حيث يتحول التأمل الى فكرة جديدة ، يتحول بعضها الى منتج معياري ، يحفظ في العالم الثالث. رغم انها مترابطة ومتفاعلة ، الا ان هذه العوالم الثلاثة لا تقبل التحديد أو الحصر ، كما لا تقبل السكون والثبات ، فهي في حال تغير دائم: في الوصف والفهم والاعتبار ، كما في حالة العالم الاول ، او في التفسير وطرق الانتاج ، كما في الثاني ، او في نوعية المنتج النهائي وانتقاله من الأدنى للأعلى ، الذي نسميه "الاحدث" كما في العالم الثالث.

عد الآن وفكر في رأيك: الى اي من هذه العوالم ينتمي ، كي تظنه حقيقة لا تقبل الشك او الجدل؟.

الشرق الاوسط الخميس - 17 ربيع الثاني 1445 هـ - 2 نوفمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4642841

 


مقالات ذات صلة

التجربة ليست برهانا

زمن ثقافي جديد

العقل المؤقت

الفكــرة وزمن الفكـرة

مأزق الأسئلة الضبابية

مغامرات العقل وتحرر الانسان 

كتاب اخر يستحق القراءة : كارل بوبر "منطق البحث العلمي  

نافذة على فلسفة كارل بوبر

لماذا تركنا مقامات الحريري؟

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

هكذا خرج العقل من حياتنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...