تدل احصاءات التعليم على ان معظم
الاقطار العربية ، قد تقدمت بصورة حسنة في مكافحة الامية ، وحصل نحو ثمانين
بالمائة من الذكور الذين تقل اعمارهم عن 30 سنة ، على قدر من التعليم الاولي او
المتوسط في خمس عشرة دولة عربية ، وهذا تطور يعتبر طيبا ، بالقياس الى الوضع الذي
كان قائما عند نهاية النصف الاول من القرن العشرين .
سلامة موسى |
بضـاعة بائـرة
فعلى الرغم من تلك الجهود لايزال العلم بضاعة
بائرة في عالم العرب ، ربما يرجع هذا الى ارتفاع نسبة صغار السن قياسا الى مجمل
السكان ، وربما الى الفقر الذي من شأنه ان يشغل الفرد بهموم تدبير المعيشة عن هم
الارتقاء العلمي ، او لظروف عدم الاستقرار السياسي التي تسود بعض البلاد ، او
لاسباب اخرى ، ايا كانت فانها لاتغير من النتيجة شيئا ، فتراخي الاهتمام بالعلم
ينتج تأثيراته السلبية ، التي من اهمها تراخي الاندفاع نحو التطور ، او انحراف
الحركة في طريق غير قويمة ، ان العلم هو الدليل الامين لحركة المجتمع ، ومتى ماغاب
فلا يأمن السائرون ان يضلوا درب السلامة.
وليس من الصعب العثور على مشجب ، نعلق
عليه وزر ماحدث من قصور او تقصير ، لكن ليس هذا موضع التحقق من مسئولية التقصير ،
فالذي ينبغي ان يأخذ اهتمامنا هو سبل العلاج ومسئولية القادرين عليه .
مسئولية المثـقفين
من الواضح ان جميع الفئات الاجتماعية
تتحمل بدرجة او باخرى ، قدرا من مسئولية نشر العلم وتعميمه ، نظرا لانها تستفيد
كغيرها من نتائج هذا العمل ، لكن فئة المثقفين واصحاب الفكر تتحمل في هذا الميدان
مسئولية اكبر من غيرها ، لا تخصيصا لها بهذا الحمل الثقيل ، بل لانها اول مستفيد
من تصحيح الوضع الخاطيء ، فقد استتبع انكماش الاهتمام بالثقافة ، انحدارا في
الاعتبار الاجتماعي الذي هو حق لاهل العلم ، فاصبحوا ياتون ـ من حيث التسلسل
الواقعي للمراتب الاجتماعية ـ في المرتبة الثالثة أو الرابعة ، وربما ادنى من ذلك
، خلافا لماينبغي ان يكون عليه الحال ، من تقديم للعلم واهله ، ووضعهم في مواضع
الشرف والريادة الاجتماعية .
الحلول والاحلام
ثمة وسائل عديدة لاستعادة هذه المكانة
اهمها ـ في تقديري ـ الاقتراب من قضايا الناس الصغيرة واليومية ، والاقتراب من
الفهم العام عند معالجة القضايا المختلفة ، ان الانصراف الى معالجة القضايا الكبرى
واقتراح الحلول التاريخية ، والاقتصار على مخاطبة المختصين ، انما ينتج في حقيقة
الامر ضيقا في المساحة الاجتماعية التي تتعامل مع النتاج العلمي .
المسألة هنا ليست صعوبة الفكرة أو سهولتها فقط ،
المسألة هي ايضا في ابتعاد الفكرة عن المعاناة اليومية للناس ، او غربتها من
طموحاتهم القصيرة الأمد ، ستجد الكثير من الكتب التي تبحث في مشكلات الأمة العربية
وهي تطرح لذلك حلولا تاريخية جذرية ، فالعديد من الباحثين الذين عالجوا اسباب
الفشل الذي منيت به تجارب التطور الاقتصادي والاجتماعي في العالم العربي ـ على
سبيل المثال ـ شخصوا المشكلة باعتبارها نتيجة مباشرة لوضع التنمية في اطار الإقليم
أو الدولة الواحدة ، التي لاتستطيع نتيجة لضيق الموارد او المساحة او الكفاية
السكانية ، ان تواجه التحديات الضخمة لمتواليات التخلف ، وعلى ذلك فان حل هذه
المشكلة لن يكون ميسرا إلا بتنمية في إطار قومي .
بكلمة أخرى فان الرسالة التي
تنطوي عليها مثل هذه المعالجة ، هي ان على كل دولة من دول العالم العربي ان تنام
على وسادة الانتظار حتى تتحقق الوحدة العربية ، أو نمطا جزئيا من أنماطها على
الأقل ، حتى تتوفر الفرصة للاقلاع من مستنقع التخلف ، مثل هذا الحل الذي ربما ينظر
اليه أهل الإختصاص باعتباره جذريا وتاريخيا ، لاعيب فيه سوى ان أحدا من الناس
حكاما ومحكومين لايستطيع القيام به ، في المدى المنظور على الأقل ، ليس لأن الشعب
العربي لايريد الوحدة ، بل لأن همومه اليومية وهموم حكوماته كثيرة وضاغطة ، بحيث
يبدو هذا المطلب بالنسبة اليهم مؤجلا الى زمن بعيد في المستقبل ، اي انه قابل
للتصنيف ضمن دائرة الاحلام ، وليس الاهداف والمخططات ، ولهذا السبب فان المعالجة
التي تشترط قيام الوحدة قبل التنمية ، تعتبر بالضرورة غير ذات قيمة على الصعيد
التطبيقي ، لانها تعجز عن اثارة اهتمام الناس ، فضلا عن اصحاب القرار ، فتبقى مجرد
محاولة حظها الوحيد هو الحفظ على الرفوف .
ثقافة للشارع
وفي منتصف القرن ، كان المفكر المصري
سلامة موسى يدعو في مقالات صحفية ، الى خطة وطنية لتوفير المراحيض الصحية للفلاحين
في القرى ، قائلا ان انعدامها أدى الى استيطان الأمراض في الريف ، فعاب عليه
نظراؤه من المثقفين هذه الدعوة ، لأنها - كما قالوا - نزول بالثقافة من عليائها
الى أوساخ الشارع. وكتب احدهم مقالا عنوانه (الثقافة المراحيضية) كرسه للسخرية من
دعوة الكاتب. كما دعا بعضهم - على سبيل التهكم - الى تحويل المعاهد العلمية الى
معاهد سمكرية ، انسجاما مع دعوة سلامة موسى تلك .
لكن هذا يرتبط بتشخيص المثقف العربي
لدوره في المجتمع. فأمثال سلامة موسى يتطابق جدا مع مثقف يعتبر ان دوره تحريضي في
المقام الأول. هو قد يدعو الى أمور مختلفة ، بحسب مايناسب الزمان والمكان ،
ولدينا أمثلة على قصائد شعراو مقالات أو كتب الهبت حماس الناس لمقاومة مستعمر ظالم
، أو عالجت مشكلة مستعصية لأنها جاءت في وقتها ، ولأنها انطلقت من تشخيص دقيق
للداء وتحديد مماثل في الدقة للدواء ، فالمثقف هنا مارس دوره كمحرض للمجتمع ،
واستعمل قلمه ليس لاظهار مقدرته الابداعية ، او استعراض عضلاته العلمية ، بل
للتعبير عن حاجات الناس .
ولابد من افتراض ان مثل هذه المعالجة على
بساطتها ، هي احد الاساليب الفضلى لتجسير الفجوة بين اهل العلم وعامة الناس ، هناك
بطبيعة الحال عشرات من القضايا ، هي هموم قائمة لاكثرية الناس ، بعضها نظري
واكثرها عملي ، تمثل ميدانا يستطيع المثقف من خلاله التدليل على الفائدة الحقيقية
للعلم ، بدل التحويم حول الخيالات والرموز أو الدعوة الى الاحلام .
نشر في (اليوم) الاحد 30 ـ10ـ 1994
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق