14/11/1994

يتحرك الاقـتصـاد والناس واقـفون



في الاسبوع المنصرم كرس الاستاذ محمد العلي زاويته الظريفة في هذه الجريدة ، لاثارة التساؤل عن امكانية جمود الانسان على قديمه بينما تتطور الاشياء من حوله ، وهو اجاب على تساؤله على صورة عنوان مع وعد بالتفصيل في المستقبل ، ومضمون الفكرة كما يبدو من العنوان ، ان هذا الاحتمال ممكن ، لان تطور الانسان يعني في حقيقته تطور شبكة العلاقات الاجتماعية ، اطارها ومضمونها.
 ثلاثـة اسئلـة
لقد سبق الاستاذ العلي الى اثارة هذا السؤال عديد من الباحثين ، الذين درسوا قضية التنمية والتحديث في العالم الثالث ، وفي هذا الاطار بالذات فمن الممكن اعادة طرح السؤال على صيغ ثلاث :
1/ هل يمكن تحقيق تنمية اقتصادية دون تنمية اجتماعية موازية ؟ .
2/ هل يمكن للانماء الاقتصادي ان يكون فعالا ، في وضع البلاد على ابواب المدنية والتحضر ، في ظل استمرار الحياة الاجتماعية على انماطها القديمة.
3/ هل يمكن الاعتماد على النشاط الاقتصادي كقاطرة لتحريك عجلة التغيير الاجتماعي؟.
 عن السؤال الاول يمكن الجواب بنعم ، اذا اخذنا المقاييس الكمية للنمو الاقتصادي ، دليلا في تحديد مستوى النمو المتحقق ، فثمة مجتمعات حققت معدلات جيدة من النشاط الاقتصادي ، وحظيت بنسبة نمو سنوي معقولة في ناتجها القومي الاجمالي ، على الرغم من انها لم تقم باي خطوة رئيسية ، في اتجاه تحديث وتطوير حياتها الاجتماعية ، بل ثمة بلدان قليلة السكان اقامت اقتصادا فعالا ، بالاعتماد شبه الكامل على اليد العاملة الاجنبية ، وهذا بذاته دليل على ان الحاجة الى المجتمع المحلي في تنشيط الاقتصاد ، غير حرجة الى الحد الذي يقال ان تنشيط هذا يتوقف على ذاك.
حيـاة مزدوجـة
ان السر في هذه الازدواجية ، يكمن في وجود قدرة حقيقية لدى اي انسان للفصل بين دائرتين في حياته ، هما دائرة العمل وكسب الرزق في جانب ،  ودائرة الحياة الاسرية والاجتماعية في جانب آخر ، فهو في عمله يستعمل احدث مافي العالم من وسائل ، بينما يرتاح لكل ماهو قديم وموروث في حياته الاجتماعية.
 وفي تاريخ بلادنا ثمة امثلة غير  قليلة على امكانية هذا الفصل ، في الثلاثينات الميلادية ـ على سبيل المثال ـ استطاعت ارامكو ، شركة الزيت العربية الامريكية التي كانت قد حصلت للتو ، على امتياز التنقيب عن الزيت في شرق المملكة ، استطاعت استقطاب الالاف من العمال المحليين ، على الرغم من وجود تيار قوي يدعو لعدم العمل عند النصارى والخضوع لامرهم ، وفي الوقت الراهن تجتذب البنوك المحلية ، مئات من الموظفين الذين يتساءل بعضهم عن امكانية ابراء ذمته ، بالنظر لكونه يعمل في مؤسسة ربوية.
بكلمة أخرى فان الناس قادرين على ايجاد قدر من التوليف ، بين ادائهم للمتطلبات المادية ، للحياة الجديدة التي تترافق مع النمو الاقتصادي ، مع اغفال متطلباتها الثقافية ، بل ومحافظتهم الحازمة على انماط من العلاقات الاجتماعية ، تنتمي الى مراحل زمنية سابقة ، وهذا الحال مشاهد ومحسوس يوميا ، بحيث لايحتاح الى بحث عن ادلة نظرية.
الاقـتصـاد والمدنيـة
اما السؤال الثاني فهو لب القضية والاجابة عليه تعتمد كليا على تعريفنا لمعنى المدنية والتحضر ، ومستوى التناسب بينها وبين النمو الاقتصادي ، وثمة اتفاق على ان المدنية بمفهومها المتداول ، غير قابلة للتحقق دون تحديث مواز للحياة الاجتماعية ، بما فيها من انماط تفكير وشبكة علاقات وقيم ناظمة لشئون الحياة المختلفة.
ويظهر الفرق بين المجتمعات المتمدنة ونظيرتها المتخلفة ، متجسدا في اربع صفات:
1 ـ الاستثمار الامثل للطاقات والامكانات المادية والبشرية المتوفرة في البيئة .
2 ـ الكفاية المعيشية لعامة الناس .
3 ـ ارتفاع مكانة الفرد ، وقدرته على التعبير عن ذاته ، واستثمار كفاءاته الشخصية في الارتقاء الاجتماعي .
4 ـ  قدرة المجتمع على تطوير امكاناته القائمة بما يلبي حاجاته الجديدة بأقل قدر من الاعتماد على الخارج.
واضح ان تحقق هذه الصفات في المجتمع ، لايأتي اذا اقتصر النمو على الجانب الاقتصادي ، وهذا يقودنا الى السؤال الثالث ، فهل يمكن اعتبار النشاط الاقتصادي محركا للتغيرات الاخرى المطلوبة ، لاسيما على المستوى الثقافي والاجتماعي؟.
يختلف الباحثون من العالم الثالث عن نظرائهم الغربيين ، في الاجابة على هذا السؤال ، وهم اميل الى القول بان تحديث المجتمع هو ثمرة لوجود ارادة محددة وقرار بالتغيير ، بينما يعتقد اكثر الباحثين الغربيين ، ان وجود اقتصاد نشط من شأنه ان ينتج اعتبارات وقيم جديدة ، تحتل مكان الثقافة التقليدية السائدة ، ويبدو لي ان الاتجاه الاول صحيح في حالة الدولة المنفصلة عن السوق الدولية ، وقد كان هذا هو التوجه السائد في معظم البلدان النامية ، في الفترة بين نهاية الحرب الثانية الى منتصف السبعينات الميلادية ، اما في حالة الاقتصاد الوطني المتواصل والمفتوح على السوق الدولية ، فان للاقتصاد فاعلية ملحوظة في التغيير الثقافي والاجتماعي ، لاتقل عن فاعلية القرار والارادة الوطنية ، على الرغم من ان التغيير لاياتي على صورة منظمة وخلال وقت قصير.
تكلفـة النمــو
ويرد على هذا التوجه اشكالات رئيسية ، اهمها ان استثمار آلية الانفتاح الاقتصادي في التغيير ، قد يؤدي ـ جبرا ـ الى تهشيم المقومات الثقافية الخاصة بالمجتمع النامي ، ومن بينها هويته ومتبنياته التي تعبر في مجموعها عن شخصيته الوطنية.
وبالنسبة للباحثين الغربيين فان هذه النتيجة ليست مؤلمة ، نظرا لسيادة فكرة العالم الواحد ، الذي لاتفصل بين اجزائه حدود ثقافية ولاتعيق معاملاته حدود سياسية ، لكن بالنسبة للعالم النامي فان هذا الانفتاح لايعني في خلاصته ، سوى تبعية دول الاطراف النامية ، للحواضر الرئيسية في الغرب  الذي يحتل الان مكان المركز.
يبدو ـ اذن ـ ان هناك امكانية لتطور ذي مسارين في اطار واحد ، احدهما سريع للاقتصاد ، والآخر بطيء للانسان الذي يعيش في نفس الاطار ، لكن هل تؤدي هذه المسيرة الى المدنية؟.
فلنقل انها ربما تؤدي الى الرفاهية ، والفرق بينها وبين المدنية في غاية الوضوح.
نشر في (اليوم) 14نوفمبر1994

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...