مع
الصعود المعاصر للاسلام السياسي ، ظهر الى السطح ما يمكن وصفه بنخبة سياسية جديدة
، تتشكل في الاساس من رجال دين او مثقفين حركيين نجحوا في صناعة نفوذ اجتماعي
يتجاوز نفوذ المجموعات المرجعية التقليدية مثل المؤسسة الدينية الرسمية او
السياسيين او وجهاء المجتمع التقليديين .
ان اكثر الزعماء تاثيرا في معظم المجتمعات المسلمة هم اليوم رجال تتراوح
اعمارهم بين الثلاثين والخامسة والاربعين.
ويتحمل
القادة الجدد مسؤوليات اوسع من تلك التي تحملها اسلافهم ، فهم يتعاملون مع مجموعات
نشطة من شباب متعلمين يتطلعون الى ادوار في المجتمع تحقق ذواتهم . لكن هذا ليس هو
المجال الوحيد المليء بالتحديات والمطالب ، فالشعارات الدينية التي يرفعها اولئك القادة
، تضفي عليهم ايضا صورة الزعيم الديني الذي يتوقع منه اتباعه تفسيرا دينيا لجوانب
حياتهم المختلفة .
والحقيقة
ان ظهور هذه الطبقة من الزعماء الدينيين قد عالج الى حد ما مشكلة الضعف المزمن
للمجتمع ، ولا سيما عجزه عن المشاركة في تطوير الحياة السياسية والمشاركة في الشأن
العام . لكنه من جهة اخرى اضعف الى حد كبير دور النخبة المثقفة ، التي يفترض ان
تلعب دور المرجع في النقاشات المتعلقة بتطور المجتمع . انحسار دور النخبة المثقفة
ساعد دون شك في منح الزعيم السياسي مكانة حاسمة في القضايا التي يدور حولها الجدل
في المجتمع . لكنه من جهة اخرى تركه فريسة للراي العام ، او ما نطلق عليه
"جبر العامة" .
"جبر
العامة" هو في الاساس مفهوم نخبوي بغيض ، وربما كان مرجعه هو ضيق النخبة
بالراي العام او ربما عجزها عن استقطاب تعاطف الجمهور مع تطلعاتها وارائها ، التي
تبدو في اول الامر غريبة او متعارضة مع ميول الراي العام . لكن من جهة اخرى ، فان
الخضوع لجبر العامة هو بالضرورة عقبة في طريق التطور الاجتماعي . فعامة الناس اميل
– عادة – الى الاستمرار في انماط التفكير واساليب الحياة التي تعارفت عليها ، وهي
اميل الى الاعراض عن اي فكرة جديدة او منهج مبتكر. بطبيعة الحال فان الكثير من
الزعماء يفضلون مسايرة التوجه العام كي يحافظوا على مكانتهم ، والقليل منهم فقط
يغامر باتخاذ مواقف او تبني اراء لا ترضي التيار العام من الجمهور . ولهذا السبب
ربما فاننا نجد قادة ذوي خلفيات اصلاحية يتحولون – بعد حصولهم على مكانة مؤثرة –
الى اشخاص محافظين يمالئون المجتمع ويسايرونه ولو على حساب القيم التي انطلقوا
منها في البداية .
اين
هي المشكلة في هذا ؟
ان
نقدنا لهذه الظاهرة يقوم على فرضية فحواها ان نجاح التيار الاسلامي الجديد في
تعبئة الجمهور ، قد ساهم بصورة مباشرة او غير مباشرة في فرض المشاركة الشعبية في
الحياة العامة . اي انه بكلمة اخرى ساهم في التخلص من تقليد مزمن يقوم على اعتبار
الشأن العام – والسياسي منه خاصة – نطاق عمل خاص بفئة صغيرة من النخبة العليا .
وفي اعتقادنا ان دخول عامة الناس على خط العمل السياسي هو تمهيد ضروري لاعادة
صياغة النظام الاجتماعي على نحو متفارق مع النمط الذي ساد العالم الاسلامي منذ
نهاية الحرب العالمية الثانية ، والذي سادت خلاله علاقة السيد - التابع ، وادت الى
تهميش الاغلبية الساحقة من الجمهور ، بمن فيهم المتعلمين واهل الراي . ضمن هذا
المفهوم فانه يمكن تصنيف الحركة الاسلامية المعاصرة كواحدة من قوى الحداثة . ان
استعادة الانسان السيطرة على مصيره ، واستعادة المجتمع لزمام امره ، ومشاركته
الفاعلة في صناعة نظامه السياسي ومستقبله ، هي بعض ابرز الاسس النظرية التي قامت
عليها فكرة الحداثة .
وهنا
تكمن اشكالية العلاقة بين الحركة الاسلامية وجمهورها . فهي من ناحية قوة تحديث
يرتبط قدرها بنضج المشاركة الشعبية ، وهذا بدوره مشروط بتغيير الثقافة السائدة وما
يقوم على ارضيتها من قيم ومنظومة علاقات . لكن من ناحية اخرى فان حاجة الحركة –
ولا سيما قياداتها السياسية – الى تامين دعم شعبي ثابت ، يفرض عليها مسايرة ميول
الجمهور . وكما سلفت الاشارة فان الجمهور في الاعم الاغلب ميال الى مقاومة التغيير
. وبالتالي فان مسايرته تعني بالضرورة اتخاذ مواقف محافظة او معارضة للتحديث
والتغيير . ومما يزيد الامر سوءا ان معظم القادة الحركيين يواجهون تحديا يوميا من
جانب رجال دين او مثقفين تقليديين يرفضون التدين الحركي ويرونه ابتداعا . وفي
العادة فان هؤلاء يستغلون اي تطور في مواقف الفريق الاول للتشنيع عليه واتهامه
بضعف الدين او قلة الفهم او المساومة على المباديء الراسخة .
من
المؤسف ان اخلاقيات العمل السياسي في المجتمعات العربية ضعيفة الى حد كبير وفي هذا
الجانب ، لا يختلف الاسلاميون عن غيرهم ، فمعظم النشطين في المجتمع ، سياسيين
وغيرهم ، لا يتورعون ابدا عن الحاق الاذى بخصومهم متى ما استطاعوا ، والسنتهم هي
اقل حدود الاستطاعة . ولهذا فان الحركيين يواجهون مشكلة عسيرة حين يضطروا الى
الاختيار بين قيم الاصلاح التي آمنوا بها في البداية ، ومتطلبات السياسة التي
اكتشفوها بعد ان انضموا الى نادي النخبة .
لا
يسعنا بطبيعة الحال ان نطالب زعيما بالتفريط في مكاسبه السياسية ، كما لا يسعنا –
في الوقت نفسه – السكوت عن سلوك يؤدي في نهاية المطاف الى اعادة المجتمع الى حظيرة
التقاليد بعد ان اوشك على التخلص من اغلالها . ويبدو ان الحل الوحيد لهذه المشكلة
هو دعم نوع من تقسيم العمل بين الزعماء السياسيين والمثقفين الاصلاحيين ، الناقدين
والمطالبين بالتغيير. مثل هذا التقسيم ينبغي ان يكون بديهيا ، اذ ان مهمات السياسي
لا تسمح له بمعالجة الامور التي تحتاج الى سعة من العلم او متابعة لتطورات الفكر .
مثلما ان المثقف الناقد ، عاجز عن تعبئة الجمهور الذي يحتاج الى رجال قادرين على
اعادة انتاج الافكار في صورة رموز قريبة من ذوات الناس وقلوبهم . نقول ان تقسيم
العمل ينبغي ان يكون بديهيا ، لكن التوصل الى بعض البديهيات يحتاج الى شجاعة .
واظن ان بعض الزعماء ربما يشعر بالقلق من المثقفين الناقدين ، لان بعض نقدهم قد
يتوجه اليه ، ولان تصاعد دورهم قد يفهم باعتباره منافسا لدور الزعيم . لكن على اي
حال ، فان من المهم لنا ان نستوعب حقيقة ان احدا لا يستطيع جمع المجد من اطرافه ،
وان بعض المجد في مجتمع متحرك ومتطور ، خير من كامله في مجتمع خامل يحاكي اجتماع
اهل القبور.
الايام - الثلاثاء 20 سبتمبر 2005 م
مقالات ذات
علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق