الغرض من هذه الكتابة هو تذكير القراء الأعزاء ، بأن عيد الميلاد المجيد الذي يصادف الاسبوع القادم ، يوفر فرصة للتأكيد على فضيلة من أعظم الفضائل الإنسانية ، وهي التسامح. في سنوات سابقة ، كان الأسبوع الأخير من العام الميلادي ، أشبه بسوق موسمي تعقده احدى الجماعات السياسية/الدينية للتعبئة وكسب الأنصار ، وتدريب الأعضاء والمحازبين على مقارعة الخصوم. وكانت مادة عملهم في هذا الموسم هي الخطب والكتابات التي تشكك في صحة الميلاد المجيد ، وصحة انتماء المسيحيين المعاصرين الى دعوة نبي الله عيسى. وتختتم بالتأكيد على حرمة تهنئة المسيحي بعيد الميلاد او السنة الجديدة ، والتنديد بالمسلمين الذين أحسنوا الى جيرانهم من أهل الأديان الاخرى او تلطفوا معهم.
الحمد لله ان تلك السوق ما عادت قائمة. ولم يعد ثمة حرج في دعوة القراء الاعزاء لاغتنام الفرصة ، ولو بأدنى ما يستطيعونه ، مثل تقديم التهاني بالمناسبة ، لكل من يفرح في عيد الميلاد او يحتفل به ، سواء كان باعثه دينيا او دنيويا.
اعلم طبعا ان الامر محرج لبعض الناس ،
نظرا لما يعرفون من فتاوى لفقهاء معاصرين
وقدامى تؤكد على ذلك التحريم. لكني أعلم أيضا انه لم يرد نص صريح في الكتاب او
السنة الشريفة ، يدعم ذلك التحريم على نحو ينفي الاختلاف والجدل فيه.
أستطيع القول – مع شيء من التحفظ – ان
غالبية المنادين بالتحريم ، يرجعون لاجتهاد فقهي يصنف الفعل المذكور ضمن التشبه
بغير المسلم ، او ابداء الرضى بالباطل ، او المساعدة على اشاعته ، وما
الى ذلك. وهذه الاستدلالات كلها تكلف بلا ضرورة ، فهي لا تنطبق على فعل التهنئة ،
وقياسها لا يستند الى تسلسل منطقي سليم ، ولا تدعمها تجربة واقعية قديمة او معاصرة.
بل الامر على عكس ما قيل. فقد ثبت بالتجربة الواقعية المتكررة في بلاد المسلمين
وغيرها ، ان الاحتفال بعيد الميلاد او التهنئة به لم يخلف اي ضرر ملموس ، بل لعله
لا يخلو من منفعة. وعلى أي حال فان مفاهيم مثل نصرة الباطل او التشبه بالكافر ، لا
تنطبق على أي فعل الا اذا عرف تعريفا جامعا مانعا ، اذا ان التحريم حكم عظيم لا
يصح التساهل في إصداره او تطبيقه الا على اضيق نطاق ، لا يترك عذرا لمن تجاوزه.
ويظهر لي ان الميل الفقهي للتشدد في
العلاقة مع غير المسلمين ، ليس ناتجا عن دراسة محايدة للنصوص المتعلقة بالموضوع ،
ولا بموازنات المصالح التي ينبغي للفقيه ان ينظر فيها قبل اصداره للفتوى ، بل هو
تعبير عما أسماه بعض المعاصرين "فقه المحنة" الذي يربط صفاء
العقيدة والسلوك باعتزال المخالفين والمختلفين.
هذه اذن فرصة للتاكيد على فضيلة
التسامح ، وتطبيقها فعليا. وقد أوضحت فيما سبق ان التسامح لا يعني اللين في
المعاملة ، كما يتكرر على السنة الناس ، بل الإقرار بان لكل انسان ، منا وممن
يخالفنا ، حقا أصيلا وغير قابل للمزاحمة ، في اختيار الدين الذي يرى فيه نجاته ،
وطريقة العيش التي تضمن سعادته. لقد اخترنا ديننا واختاروا دينهم. وليس لاحد منا
او منهم أن ينكر حق الآخر في اختيار طريقه للخلاص او السعادة. لا يجوز لك ان تزاحمهم
، كما لا يجوز لهم ان يزاحموك في خياراتك. هذا ببساطة معنى التسامح.
آمل ان نبادر جميعا لتهنئة شركائنا في
هذا الكوكب بعيد الميلاد المجيد ، تأكيدا
على احترامنا لحقوقهم وخياراتهم ، على أمل ان نكون ممن ينال فضل المبادرة بالقاء
السلام. ان اردت نشر الاحترام في عالمك ، فكن صانعه الأول.
الأربعاء - 27
جمادى الأولى 1444 هـ - 21 ديسمبر 2022 مـ رقم العدد [16094]
https://aawsat.com/home/article/4054571/
مقالات ذات
علاقة
بل
التقارب قائم ومتواصل بين السنة والشيعة
التسامح
وفتح المجال العام كعلاج للتطرف
التعايش
أو التقارب.. طريق واحد
تعزيز
التسامح من خلال التربية المدرسية
فرصة لتطبيق ما ندعو اليه: فوائد
التسامح
في التسامح الحر والتسامح المشروط
في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق