عرض المشاركات المصنفة بحسب مدى الصلة بالموضوع لطلب البحث ازمة الهوية. تصنيف بحسب التاريخ عرض كل المشاركات
عرض المشاركات المصنفة بحسب مدى الصلة بالموضوع لطلب البحث ازمة الهوية. تصنيف بحسب التاريخ عرض كل المشاركات

05/10/2023

أزمة هوية؟


كرس د. محمدالرميحي مقالته المنشورة بهذه الصحيفة ، يوم السبت الماضي ، للتعليق على جدل عنيف ، نتج عن موقفه من دعوة بعض البرلمانيين لالغاء الفصول المختلطة في التعليم الجامعي. اتسم هذا الجدل بعنف لفظي واضح من جانب الذين يدعون الدفاع عن الفضيلة. عنف لا يقف عند تسفيه الرأي المخالف ، بل يتعداه الى شتم صاحب الرأي ، واتهامه بالخيانة والجهل والمروق من الدين ، وما اشبه.

وقد سبق للرميحي وغيره من أهل الرأي ، ان تعرضوا لاتهامات من هذا القبيل. لكن المقال اثار نقطة جوهرية ، تستحق المزيد من المعالجة ، وهي إشارته الى ان هذا الجدل وأمثاله يعبر عن "أزمة هوية" ، تتجلى كلما برزت على سطح الحياة اليومية ، تحديات الانتقال من عصر التقاليد الى عصر الحداثة.


وفقا لتعريف أريك اريكسون ، عالم النفس الأمريكي ، فان ازمة الهوية تعبير عن اخفاق الشباب في الموازنة بين تطلعاتهم الشخصية ومتطلبات الحياة الاجتماعية ، خصوصا في المجتمعات التي تمر بتحولات متسارعة ، ثقافية واقتصادية ، تؤدي بالضرورة لتغيير مواقع الأشخاص ودوائر علاقاتهم ، والأعراف التي تنظم هذه العلاقات.

وقد لاحظت ان أهم تحولات الهوية الفردية في مجتمعنا ، نتج عن انفتاحه على مصادر تأثير ثقافي وانماط حياة جديدة ، تعارض ما ورثناه عن الاسلاف. وأميل للاعتقاد بأن بداية التحول العميق يرجع للعقدين الأخيرين من القرن العشرين ، وساهمت فيها بشكل متوائم برامج تحديث الاقتصاد وتغيير سياسات التعليم ، إضافة للتوسع في الحاق الطلاب بالجامعات الأجنبية. اما ذروة التحول فقد حدثت – وفق تقديري – في السنوات الخمس الماضية ، نتيجة لوصول الانترنت السريع الى كل قرية وبلدة في انحاء المملكة.

وفر الانترنت فرصة للشباب للانفتاح المباشر على عوالم جديدة. ولم يعد للعائلة والمدرسة والنظام الاجتماعي بمجمله ، الا القليل من التأثير على ذهنية الفرد ، اما المساهم الأعظم فقد بات هو الفرد نفسه ، الذي يختار بوعي ومن دون وعي ، من موائد لا أول لها ولا آخر ، موائد بعيدة تماما عن التجربة التاريخية لمجتمعنا.

كل من هذه التغيرات يواجه الذهنية التقليدية بتحد جديد ، يدعمه نمط حياتي اكثر تقدما واكثر يسرا وجاذبية ، الامر الذي يضع الفرد على المحك: إما التخلي عن عالمه القديم او الحرمان من ثمرات الحياة الجديدة.

وفقا لرؤية اريكسون ، فان التحول المشار اليه ، يؤدي لعسر في التفاهم بين جيل الشباب وآبائهم ، ليس لأنهما يرفضان التفاهم ، بل لأن اختلاف المشارب الثقافية يجعل كلا من الآباء والأبناء ينطلق من خلفية مختلفة ، بل عالم مفهومي ومعنوي مباين للآخر. ان حاجة الاب والابن للحفاظ على العلاقة القائمة ، يؤدي بالضرورة الى قدر من التكلف والعناء ، الذي ينعكس على شكل أزمة نفسية ، هي ما نسميه أزمة الهوية.

رؤية اريكسون تنطبق على الشباب. لكني وجدت أزمة الهوية عند شريحة واسعة من الآباء أيضا. وهي تتجلى في صورة رفض داخلي للقديم مع قبوله في الظاهر ، أو رفض داخلي للحديث مع رغبة قوية في التمتع بخيراته. ينتج هذا التنافر ازدواجية في القيم ، تمثل مظهرا آخر لازمة الهوية.

اظن ان مرجع التأزم عند كلا الطرفين: الشباب والآباء ، هو بطء التفاعل بين تراثنا الثقافي ، الديني وغير الديني ، وبين متغيرات العصر الثقافية ، ولا سيما منظومات القيم الجديدة ، وما يترتب عليها من علائق بين الناس وتموضعات اجتماعية مختلفة عما ساد في الماضي.

اعتقد ان شريحة واسعة من ابناء مجتمعنا ، من الآباء خصوصا ، يعانون من عسر شديد في التوفيق بين قناعاتهم القديمة وحياتهم الجديدة. ولو نظرنا للسبب العميق وراء كل هذا ، لرأيناه في حقيقة ان تراثنا الثقافي يريد للفرد ان يكون تابعا مطيعا ، لا مشاركا او صانعا للقيم التي تقود حياته. وهكذا يتوجب عليه البقاء منفعلا ومتأثرا ، ان أراد التمتع بفضائل النظام القديم.

الشرق الاوسط الخميس - 20 ربيع الأول 1445 هـ - 5 أكتوبر 2023 م https://aawsat.com/node/4585886/

مقالات ذات صلة

 اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم

بين هويتين

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

جدل الهوية الفردية وتأزماتها

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول أزمة الهوية

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

الدين والهوية ، خيار التواصل والافتراق

سجناء التاريخ

عن الهوية والمجتمع

فيديو : نادر كاظم وتوفيق السيف حول اشكالات الهوية

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

25/11/2020

حول أزمة الهوية


هذه تكملة لمقال الاسبوع الماضي ،  الذي تعرضت فيه لما ظننته هوية متأزمة ، يعانيها كثير من المسلمين المعاصرين ، لاسيما هؤلاء الذين استوطنوا في اوربا ، حيث الثقافة والأعراف غير ما عرفوه في بلدانهم ، او ما ظنوه أصدق تمثيلا لمرادات الدين الحنيف.

كتبت تكرارا عن مشكلة الهوية في السنوات الماضية. وظننت انها باتت مفهوما واضحا لغالبية الناس. لكن النقاشات التي أطلعت عليها هذه الأيام ، أوضحت لي ان الغموض المحيط بالفكرة لازال كما  تركته قبل بضع سنين. ليس هذا بالأمر الغريب ، فمفهوم "الهوية" جديد على الثقافة العربية ، ولو راجعت المعاجم القديمة  لما وجدت له عينا ولا أثرا.

انه مثال عن مئات التعابير التي نتداولها ونظنها عربية صميمة. لكنها ليست كذلك ، فهي مستوردة من إطار معرفي مختلف. ولهذا فان حمولتها المفهومية والقيمية متباينة بين شخص وآخر ، تبعا لقبوله بمغازيها.  وكنت قد التفت لهذه المشكلة ، حين وجدت من يدعو الناس لاختيار حرج بين الدين والوطنية والقومية ، ووجدت الناس مضطرين للقول بانهم مسلمون فقط او مسلمون أولا ، خشية ان يكون القول بالهويات الثلاث معا ، خادشا لصفاء الاعتقاد.

هذا الشعور المرتبك يكشف جانبا من مشكلة الهوية التي يعانيها المسلم اليوم. وهي قليلة الخطورة في ظني ، مع انها تثير التباسا غير محمود. انها مشكلة نظرية ،  فردية غالبا. اما الجانب الأصعب من المشكل ، فيتجسد في حالة المسلمين الذين استقروا في البلدان الصناعية. هؤلاء يعيشون أزمة مضاعفة ، دينية وثقافية. 

فالمجتمعات التي استوطنوها لا تقيم للدين اعتبارا خاصا ، كحال مجتمعاتهم الاصلية ، وبالتالي فان العرف والقانون لا يقف في صفهم. وهم يواجهون كل يوم تقريبا سلوكيات مزعجة ، وقد تنطوي على مضمون عدواني (هذا يظهر خصوصا في المظهر الشخصي والعلاقات بين الجنسين). 

ولعل بعض القراء قد تابع الجدالات الواسعة ، التي أعقبت منع النقاب في دول اوربية ، مثل الدانمارك وبلجيكا هولندا. ان عدد الذين يستعملون النقاب قليل جدا ، لكن منعه كان إشارة الى تغيير (قانوني) لعلاقة الآباء المسلمين مع نسائهم. وهو يولد ضغطا شديدا على نفوسهم ، وربما يودي بهم الى مزيد من الانكماش على الذات.

حسنا.. لماذا نذكر هذه الامثلة في سياق الحديث عن "أزمة هوية"؟.

يقودنا هذا السؤال الى جوهر المشكلة. لقد افترض بعض الناس ان الهوية الدينية متمثلة في النموذج الاجتماعي الذي يشمل خصوصا موقع الفرد في نظام العلاقات الاجتماعية ، مظهره الشخصي ، والتزامه بالاعراف السائدة. ويعج التراث العربي بنصوص وشروح حول كل من هذه العناصر ، وثمة تأكيد على علاقتها بالدين او حتى كونها جزء منه ، كحال النقاب الذي ذكرته آنفا.  

حين تكون في مجتمع يطلب هذه المظاهر او يتقبلها ، فلن يكون ثمة مشكلة. لكنها ستبرز حتما حينما تعيش في مجتمع يعارضها او يفضل غيرها ، كحال المجتمعات الاوروبية اليوم. اقول ان هذا يعيد طرح السؤال من جديد: هل الزي (بما فيه الشكل المسمى حجابا شرعيا) وبقية المظاهر ، وكذلك الاعراف الحياتية ، هل هذه جميعا من جوهر الدين ، وان الدين لا يقوم الا به ، ام انها من اعراض الحياة التي اكتسبت لونا  دينيا ، او احتملت لونا دينيا ، مع انها ليست من جوهر الدين؟.

اني اعلم بنوعية الاجوبة التي تقابل سؤالا كهذا. لكن الجواب الانطباعي او العاطفي المألوف ، لا يفيدنا كثيرا. مانحتاجه هو التأمل العميق في الاشكال الحقيقي ، اعني جدل العلاقة بين الاسلام والعصر ، وان تمظهر اليوم في اطار ما نسميه "ازمة الهوية".

الشرق الأوسط الأربعاء - 10 شهر ربيع الثاني 1442 هـ - 25 نوفمبر 2020 مـ رقم العدد [15338]

https://aawsat.com/node/2645236/

مقالات ذات صلة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

20/05/2015

الهوية المتأزمة



ازعم ان الميل العميق للتمثل بالتاريخ ، سيما عند مسلمي الشرق الاوسط ، يمثل انعكاسا لهوية متأزمة. تقديس رجالات التاريخ واعتبار مجرياته معيارا يقاس عليه الحاضر ، يؤدي بالضرورة الى انكار الحاضر واعتباره نكسة. رغم ان التحليل الواقعي يؤكد عكس هذا تماما. 
صحيح ان المسلمين لم يعودوا سادة العالم ، لكن انتشار الاسلام اليوم ، وما يملكه اتباعه من علم وثروة وقوة يفوق كثيرا ما كان لديهم في ذروة مجدهم الغابر. اعتبار الماضي نموذجا ، يصدق في شيء واحد فقط ، هو تفوقنا السابق على غيرنا.
تصوير الاسلاميين والقوميين للغرب كعدو مطلق او كسبب لفشلنا الحضاري ، يعبر في احد وجوهه عن تلك الهوية المتأزمة ، التي لا تتشكل في سياق وصف مستقل للذات ، بل في سياق التناقض المقصود او العفوي مع "الاخر" الغربي الذي يوصف ايضا بالكافر. اما السبب المباشر لتأزم الهوية فيكمن في عجزنا عن المنافسة ، وهو ليس عجزا عضويا او تكوينيا. ان سببه كما اظن هو عدم الرغبة في دفع الثمن الضروري للتمكن من المنافسة. هذا الثمن هو ببساطة التماثل الاولي والتعلم ثم اعادة انتاج القوة ، تمهيدا لمنافسة الآخر على قدم المساواة وربما تجاوزه.
معظم النزاعات الدائرة حولنا تحمل هوية تناقضية. هذه نزاعات يحركها او يعمقها تناقض هوياتي ، يجري تبريره بمبررات دينية او قومية. ولذا فهي تسهم في تعزيز المفاصلة بين الدين والعصر ، وتشدد على ربط الدين بالماضي بدل الحاضر ، وبالتالي فهي تعزز اغترابنا عن عالمنا الواقعي.
من ملامح الهوية المتأزمة ايضا انها تحمل في داخلها ازدواجية مدمرة. تؤكد بحوث ميدانية ان معظم عرب المشرق يعتبرون "الغرب" سيما امريكا والولايات المتحدة عدوا حضاريا ، او على الاقل ، مصدر تهديد. لكن ارقام المبتعثين السعوديين مثلا تشير الى ان 67 بالمائة منهم اختاروا الدراسة في هذه الدول ، وعلى الخصوص الدول التي شاركت في حرب الخليج (1991) التي اعتبرها بعض الدعاة ذروة الهجوم الغربي (النصراني) على قلب العالم الاسلامي. ومن الطريف ان كثيرا من اولئك الدعاة رحبوا باختيار ابنائهم لتلك الدول بالذات للدراسات العليا. هذه الازدواجية تعني اننا نكره الاخر (الغرب) ونعتبره عدوا ، بل ونرحب بمن يقاتله.  لكننا بموازاة ذلك نحتفي به ونحب ان نكون مثله.
هذا يوضح اننا لا نشكل هويتنا ، اي معرفتنا بذاتنا وتصورنا لذاتنا بطريقة ايجابية تنطلق من الرغبة في ان اكون كما احب او كما يليق بي ، او - على الاقل – ان اكون كما استطيع. على العكس من ذلك فاننا نشكل هويتنا من خلال مناظرة الاخر ، اي في سياق التعارض معه والتباعد عنه ، ولو على المستوى الشعوري ، مع رغبتنا في تقليده على المستوى المادي.
خط التأزم هذا يحيل نقد الغرب الى مجرد كلام للتسلية وتبرير المواقف ، لكنه على اي حال يبقى فعالا في تعطيل التفاعل الايجابي البناء مع الغرب المعرفي والحضاري ، تفاعلا يقود الى التعلم العميق المؤدي للقدرة على المنافسة فالاستقلال.
من الناحية الواقعية لسنا قادرين على مناوأة الغرب ، ولا يوجد بيننا من يعتقد  - جادا – انه قادر على التحرر من الحاجة اليه في المدى المنظور. ومثل هذا الشعور المتناقض يحول التصارع الى جدل مؤرق داخل النفس ، الامر الذي يتطلب تنفيسا من نوع ما. ولسوء حظنا فقد استبدلنا المنازعة الملكلفة مع الغرب بمنازعة تبدو سهلة مع اطراف اخرى في المجتمع ، نختلف معها سياسيا او فكريا. العجز عن مناوأة الغرب يدفع دعاة الصراع الى مناوأة من يصفونها بالنخبة المتغربة او المتاثرين بالغرب اي – بعبارة اخرى – تحويل الصراع الخارجي المكلف الى صراع داخلي يبدو قليل الكلفة.
زبدة القول ان الهوية المتأزمة تفسر العديد من الصراعات الاجتماعية والسياسية ، التي يستعمل فيها الدين اوالقومية كشعار او كمبرر. انها تعبير عن ارادة للتحرر من "آخر" تجاوزنا ، ونشعر بالعجز عن مجاراته. لكن عجزنا عن دفع الثمن الضروري للمنافسة جعلنا ننشغل قاصدين او غافلين ، بصراعات داخلية بديلة ، تشير الى العدو لكنها لا تصل اليه.
الشرق الاوسط -  1 شعبان 1436 هـ - 20 مايو 2015 مـ
http://bit.ly/1LlwrlI

05/08/2011

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني


يناقش هذا الفصل مسألة الهوية والعوامل التي تسهم في تشكيلها ، وتحولها من وضعها الطبيعي المحايد الى عامل مؤثر في الحياة السياسية. ويشرح في هذا السياق احد مسارات تحول الجماعة الثقافية او الاثنية الى اقلية بالمعنى السياسي. ويبدأ بعرض عن مسار تشكل الهوية الفردية ، ثم هوية الجماعة ، مركزا على دور المحيط في تحديد خطوط الانكسار في علاقة الجماعة بمحيطها. يستهدف النقاش لفت النظر الى ضرورة استيعاب تاثير عوامل التنوع وعمقها التاريخي في تشكيل الوضعية السياسية الحالية ، ولا سيما في فهم "الاقلية" لنفسها وفهم المحيط لها.
***
لسبب ما فان حكومات الشرق الاوسط وكثير من قوى المجتمع الاهلي لا ترغب في طرح مشكلة الهوية للنقاش العام. ولعل بعضهم يرى ان مجرد الاعلان عن وجود مشكلة من هذا النوع سوف يقود الى المزيد من الانقسام الاجتماعي ، وربما يهدد الوحدة الوطنية[1]. لكن التكتم على اي مرض لم يؤد ابدا الى علاجه . لا توجد تجربة واحدة في العالم تشهد بان مشكلات الهوية عولجت بالسكوت عنها . بل على العكس من ذلك فان الاقرار بالمشكلة وطرحها للنقاش كان على الدوام سببا في تحديد ابعادها وعقلنة النقاشات حولها ووضعها بالتالي على سكة العلاج ، سواء طال الزمن ام قصر.
اسعد حيدر
ربما لم يكن موضوع الاقليات شديد الاهمية في الماضي ، فقد كانت الشعوب جميعا ، اقلياتها واكثرياتها ، مهتضمة. وكانت ضعيفة لا حول لها ولا قوة ، ولا قدرة على النهوض والانشقاق على الحكم الظالم . اما في عصرنا الحاضر فقد توفرت للشعوب مصادر قوة ومعرفة مكنتها من معرفة ذاتها واكتشاف نقاط قوتها. بين بدايات القرن العشرين ونهاياته ، تغيّر مفهوم الدولة والسياسة. وفي نهايات القرن خصوصاً تغيّر فهم المجتمعات لنفسها وعلاقتها بالغير. من المفهوم أن هذه التغيرات كانت ثمرة لعوامل عديدة، تمتد من الحروب الأهلية والدولية إلى شيوع مفاهيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، مروراً بانفتاح الأسواق وتطور تقنيات الاتصال ، وغيرها. من أبرز ما تغيّر في هذا الإطار رؤية الجمهور لعلاقته بالدولة.
ثمة مجموعات متمايزة إثنيًّا اضطرت سنوات طويلة إلى كبت هويتها، أو خضعت لإدماج قسري في ثقافات أخرى مهيمنة، أو أنها لهذا السبب أو غيره كانت غافلة عن هذه الهوية ودورها في تشكيل رابطتها الاجتماعية وشخصيتها المتميزة. لكن مع زوال الهيمنة - بتفكك الدولة السوفيتية مثلاً-، أو بسبب انفجار ثورة المعلومات والاتصال (انتشار التلفزيون الفضائي، الإنترنت، التلفون المحمول) أو بسبب انتشار مفاهيم حقوق الإنسان والحريات الشخصية والمدنية والمشاركة، أو لهذه الأسباب مجتمعة، تولد مصدر قوة جديد ، هو "قوة التدفق=the power of flows" وهو تعبير نستعيره من مانويل كاستيلز[2]. حين يتمكن عامة الناس من الوصول الى مصادر  المعلومات من خلال الانترنت مثلا ، ثم يستطيعون اعادة انتاجها ونشرها عبر العالم ، فانهم يطلقون فعليا القوة الكامنة في داخلهم ، ويقود هذا بالضرورة الى تبعثر عناصر القوة التي كانت متمركزة ومحتكرة في جهات او مجموعات محددة ، وحصول المهمشين على فرصة لتكوين مصادر قوة خاصة او ادوات نفوذ وتاثير. مع سقوط الحجب المفروضة على المعلومات وتوزيع الموارد ، تكتشف المجتمعات المهمشة ذاتها الخاصة، أو تكتشف أنها تتعرض للتمييز أو قلة التقدير ، لأن الآخرين لا يعاملون أعضاءها بوصفهم مواطنين متساوين مع البقية في الحقوق والواجبات، بل بوصفهم جزءاً من جماعة مختلفة، كما هو حال المسيحيين واليهود في بعض البلاد المسلمة والأكراد في البلدان العربية، والشيعة في البلدان التي أغلبيتها سنية والسنة في الأقطار ذات الأكثرية الشيعية وهكذا.
وضع استراتيجية فعالة لمعالجة الانقسام وتحقيق الاجماع الوطني يتطلب فهم الديناميات السياسية للهوية ، اي كيفية تاثيرها في الحياة السياسية. نحتاج مثلا الى معرفة:
- لماذا تميل طائفة من الناس الى المشاركة النشطة في السياسة ، بينما تميل الاخرى الى اعتزالها؟ .
- ولماذا تستطيع فئة محددة من المواطنين استثمار العملية السياسية في ضمان مصالح اكثر ، بينما تفشل الفئة الاخرى في ضمان مصالحها اذا سلكت ذات الطريق ؟.
- ولماذا تشعر بعض الفئات بان القانون لا يستطيع ضمان حقوقها ومصالحها؟ .
- ولماذا يفضل بعض الناس الانكفاء الى انتماءاتهم الطبيعية ، ويبالغون في تعظيم هوياتهم الفرعية ، الدينية او المذهبية او القبلية او الاقليمية او العرقية ، ويعتبرونها مساوية او ربما متفوقة في الاهمية والحيوية على الانتماء الوطني والهوية الوطنية الجامعة؟.
نحن بحاجة الى معرفة عميقة بديناميات تشكل الهوية والعوامل التي تسهم في تطورها ، وكيفية تاثيرها في سلوك الفرد والجماعة ، وانعكاسها على السياسة والعلاقات الداخلية في المجتمع الوطني. هذه المعرفة ضرورية جدا لبناء سياسات افضل ، او على الاقل لاتقاء الانواع الاسوأ من السياسة. المعرفة المعمقة لمسألة الهوية وتحولاتها تمكننا من رؤية الفاعلية الداخلية لكل جزء من اجزاء النظام السياسي ، ولا سيما بعض صور الحركية الداخلية التي لا تظهر الى العلن ، او التي يصعب تفسيرها بادوات التفسير السياسي الاعتيادية.

توليف الهوية على المستوى الفردي:
يقول لي الاستاذ اسعد حيدر، الصحافي اللبناني المعروف:
نشأت في اسرة ترتبط بالجماعة المذهبية ارتباطا اخلاقيا فحسب، وتعلمت في مدارس تتبع لطوائف اخرى ، فلم اشعر بهويتي المذهبية حتى انتهيت من تعليمي الجامعي. حين تقدمت لوظيفة حكومية ، نظر الموظف في هويتي التي تحمل ايضا اسم طائفتي واعلن انني لا استطيع نيل الوظيفة المتوفرة ، فالنصاب المتفق عليه – عرفيا – يقضي بان يشغلها مواطن من طائفة اخرى. فهمت حينئذ ان صفة "مواطن" لا تكفي لنيل وظيفة عامة. وادركت انني غير قادر على التحرر من هويتي الطائفية ، لان المجتمع المنقسم طائفيا لا يسمح بحراك من هذا النوع. منذئذ فهمت ان العزل يولد الهوية.

طبقا لنظرية الهوية الاجتماعية Social Identity Theory فان الافراد يفهمون انفسهم على مستويين متوازيين : المستوى الفردي والجمعي. الهوية الفردية تشير الى تلك العناصر من الذات التي تميز فردا عن الاخرين ضمن اطار اجتماعي معين. اما الهوية الاجتماعية فتشيرالى تلك العناصر من الذات التي تتعلق بالعضوية في جماعة  او التي تعرف وتحدد ضمن مفاهيم او تعبيرات متعلقة بالجماعة التي ينتمي اليها الفرد[3]. الهوية الشخصية للفرد هي التكثيف الرمزي لتجربته الحياتية الخاصة ، اضافة الى مستخلصات التجربة التاريخية للجماعة التي هو جزء منها .
صورة الفرد في مرحلة الشباب هي تكثيف لعوامل مادية ومعنوية في غاية التعقيد والتنوع. فهي تحوي بين امور اخرى تاثيرات التربية العائلية ، المدرسة ، علاقة الفرد مع الجيران والاقارب ، الطبقة الاجتماعية ، مستوى المعيشة ونوعية النشاط الاقتصادي ، الثقافة المكتسبة .. الخ . اضافة بالطبع الى الثقافة التي ورثها الفرد من عائلته ومحيطه الاجتماعي ، اي القيم والمواقف والرؤى التي كونتها الجماعة خلال ازمان متطاولة . هذه كلها تشكل ما يمكن وصفه بالمكونات الايجابية للهوية.
اما الوجه الاخر ، الذي قد نستطيع وصفه بالمكونات السلبية ، فهو موقف الاخرين المختلفين ، اصدقاء او غير اصدقاء، من الفرد ومن الجماعة التي هو عضو فيها ، اي : كيف يصنف الاخرون هذه الجماعة ، كيف يصفونها ، كيف يعاملونها .. الخ.  حين تكون اسود اللون في مجتمع يعيش فيه البيض مثلا ، فان الكيفية التي تفهم بها موقف هؤلاء ووصفهم لك وتعاملهم معك يحدد جانبا فعالا من هويتك. انت هنا مصنف – بصورة عفوية او متعمدة - كشخص مختلف. وهو تصنيف اكثر تاثيرا وفاعلية حين تكون العلاقة مع (اولئك الاخرين) سلبية ، ولا سيما حين تكون انت في الجانب الضعيف الذي يتعرض للعدوان ، ذلك اننا ، كما راى امين معلوف ، "غالبا ما نتعرف الى انفسنا في الانتماء الاكثر عرضة للتهجم"[4].
 تبدأ هوية الفرد في التشكل منذ بواكير حياته. وتتواصل طوال السنوات اللاحقة حتى مرحلة النضج والاستواء. وتمثل الطفولة والشباب المرحلتين الاخصب والاكثر حرجا في هذا المسار. غالبا ما تتطور الهوية بشكل عفوي ، اي من دون احساس فعلي من جانب الانسان بان هويته تتغير . لكن بعض الافراد يشتركون فعليا في تكوين هويتهم وتعديلها ، او على اقل التقادير فان بعضهم يعي ان هويته تتغير بفعل عوامل قابلة للادراك.
هوية الفرد هي جواز مروره الى العالم . من دون هوية يشعر الفرد بانه وحيد ومنعزل ومنقطع عن العالم المحيط ، تماما مثل شخص غريب يحل على مجتمع مختلف تماما في اللون واللغة والثقافة والرؤى وتقاليد الحياة . في واقع الامر ، لا يعيش الفرد حياته كائنا ذريا منعزلا. ثمة دائمة رابطة عضوية تشده الى "الجماعة" التي يشارك اعضاءها الاخرين في عقائدهم ونظامهم القيمي ، في تقاليدهم ولغتهم ، في رؤيتهم للعالم وكيفية تعبيرهم الرمزي عن هذه الرؤية. هذا يعني ان الجماعات (او المجتمعات) وسماتها تمثل عناصر مؤسسة لكينونة الفرد وذاته[5].
الانسان كائن اجتماعي بطبعه. ولهذا السبب فانه يبدأ منذ ايامه الاولى في نسج خيوط علاقته مع المحيط القريب :  يحاول تقديم شيء يرضي المحيطين به ، او يحاول تقديم نفسه في صورة ترضي المحيطين به. هذا يستلزم بطبيعة الحال قبولا بتعريفات الجماعة للحسن والقبيح ، للمقبول والبغيض ، للمناسب وغير المناسب . هذه الاشياء تمثل عالم المعنى الخاص بالجماعة وهو الذي يقربها الى سائر الجماعات او يميزها عنها. افعال الناس ، والاشياء المادية التي يحوزونها او يستعملونها ، والمفاهيم التي يتبنونها ، والمعايير التي يرجعون اليها ، يحمل كل منها وصفا ثقافيا لمعناها وعلاقتها بالبشر الذين يستعملونها. وينطوي هذا الوصف على قيمة معنوية منفصلة عن قيمتها المادية المحددة. النظام الثقافي للجماعة هو مصدر ذلك الوصف وهذه القيمة التي تحملها الاشياء والافعال والافكار. اندماج الفرد في الجماعة يمر عبر قبوله وتعاطيه مع تلك القيم وتنظيم حياته وفق متطلباتها .
كنتيجة لهذا سيحمل الفرد وافعاله ومواقفه صفات خاصة تماثل تلك التي يحملها بقية افراد الجماعة . هذا يعني انه انتمى الى هذه الجماعة ، اصبح عضوا فيها وحمل هويتها[6]. حين يسألك احد : من انت او ما انت؟ ، فانت لا تجيب بانك انسان ، لان هذا الوصف لا يميزك عن اي احد اخر وهو ليس موضوع السؤال لانه واضح امام السائل . لكنك تجيبه في العادة بشيء يتعارف الناس على كونه عامل تمييز ، فتقول مثلا بانك مهندس او طبيب او موظف ، وهي اشارة الى المهنة والمكانة ، وانت تختار هذه الاوصاف لانها وسائل تعريف تتوقع كونها مقبولة عند الاخرين. وحين تفهم ان السؤال يشير الى الانتماء ، فانك تجيب بوصف من الاوصاف التي تحدد الانتماء فتقول انك عربي او مسلم او سعودي الخ . كل جواب يستبطن رغبة في تحديد العلاقة مع السائل ورغبة في تحديد عالم المعنى الذي انت فيه او الذي ترغب في ان تكون ضمنه. نحن نفهم انفسنا كجزء من فضاء اجتماعي محدد : كمؤمنين بدين ، كمتبنين لايديولوجيا ، كابناء لمنطقة محددة ، كاعضاء في طبقة او جماعة اثنية او سياسية .. الخ. هذه الانتماءات تشير الى حدود العالم الذي نندمج فيه.
رأى اريك اريكسون الذي قدم مساهمات اساسية في هذا الحقل، ان هوية الفرد تتشكل في سياق تفاعل متواصل بين عاملين: كفاءة الفرد للانتاج الذي يعتبره المجتمع ذا قيمة، والاحساس بالاندماج في عالم ذي معنى. يسعى الفرد لنيل الكفاءة بجهده الخاص، لكن تحديد نوعية الانتاج يعتمد على تعريف المجتمع لما هو قيم او غير ذي قيمة. ثمة طرق لا تحصى لتوليد وتنمية الكفاءة والاعتراف بها في كل مجتمع، منها انظمة التعليم، العمل، مكانة العائلة، الطبقة، القوانين، التقاليد.. الخ. يتبع الفرد احد هذه الطرق كي ينال الاعتراف الاجتماعي بكفاءته. وهو يفعل ذلك سعيا وراء التحول الى عضو في الجماعة، شريك في شبكة التعارف والتضامن التي تميز الجماعة عن الاحتشاد الجغرافي للافراد. الجماعة هي العالم الذي يظهر فيه تاثير انظمة المعنى مثل الدين، الايديولوجيا، الولاءات الاجتماعية.. الخ. وحين يسعى الفرد للاندماج في هذا العالم فانه يشعر فعليا بمقدار تقدمه في هذا الطريق، لانه مسار تحول يحدث في وعي الانسان رغم انه قد لا يهتم بتتبع تفاصيله او ربما لا يلتفت الى جميع التفاصيل.
حين يريد الفرد شيئا وحين يتطلع الى شيء، فانه يواجه على الفور الحدود الخاصة بالهوية: اذا كان امرأة في مجتمع تسيطر عليه الثقافة الذكورية، او كان مسيحيا في مجتمع المسلمين، او كان اسودا في مجتمع البيض ، فسيضطر لوضع ارادته وتطلعاته ضمن سقف ادنى من ذلك المتاح للاخرين. في بعض الاحيان تصل هذه الاعتبارات الى نقاط تثير الدهشة والغضب. في احدى الحوادث نجح ثلاثة اشقاء في انتـزاع حكم قضائي بتطليق اختهم المتزوجة من رجل ينتمي الى قبيلة ادنى شأنا من قبيلتهم، رغم المحبة التي جمعت الزوجين اللذين رفضا ذلك الحكم، ورغم مرور سنوات على زواجهما. وكشفت القضية عن حالات عديدة مماثلة جرت دون ان تصل الى الاعلام[7]. في قضايا مماثلة جرى تطليق زوجين لان عائلتيهما تنتميان الى مذهبين مختلفين.  بالنسبة للزوجين البائسين فان مكانة القبيلة او المذهب كانت حدا للتطلع والعمل . لهذا السبب فان الناس يحددون افعالهم وربما تطلعاتهم في نطاق يتناسب مع منظومة الاعراف والقيم السائدة في ثقافة الجماعة ، حتى لو لم يكن هذا النطاق وتلك الحدود ذات قيمة عندهم كافراد.
هذا يوضح في الحقيقة اهمية العامل السلبي او ما وصفناه سابقا بالمكون السلبي للهوية ، اي تصنيف الاخرين للجماعة التي ينتمي اليها الفرد ، وتبعا لها تصنيف الفرد نفسه . قد يكون الفرد متعلما او يكون ثريا او يكون نافذا ، لكن معرفته لنفسه وربما حدود فعله وتطلعاته ستبقى متاثرة بكيفية تصنيف الاخرين. هذا التصنيف لا يقتصر وجوده على المجتمعات التقليدية. في اواخر 2009 شهدت الولايات المتحدة حادثا ينطوي على اشارة قوية الى هذا المعنى. فقد قاطع السناتور الجمهوري جو ويلسون الرئيس اوباما الذي كان يتحدث لاعضاء الكونغرس بصورة غير معهودة في التعامل مع رئيس الدولة. الرئيس الامريكي الاسبق جيمي كارتر كان صريحا حين صرح بان بعض النخبة السياسية لازال غير مقتنع بان رجلا اسود يمكن ان يحتل كرسي الرئاسة في الولايات المتحدة الامريكية حتى لو صوت له اغلبية الشعب الامريكي[8]. من المؤكد ان اوباما نفسه يعرف هذه الحقيقة ، اي موقف هذه الشريحة على الاقل من الرجل الاسود ، وهو مضطر الى التصرف احيانا تحت تاثيرها حتى لو كان اقوى رجل في هذا العالم.
تتشكل الهوية اذن من منظومة العوامل الايجابية ، اي تلك القيم التي يقرها المجتمع ، الى جوار العوامل السلبية التي تمثل انعكاس موقف الاخرين عليه كفرد او كعضو في جماعة، والتي تضم خصوصا ما يعاب على الفرد وما يعاقب بسببه، وما يشعر بالاثم ازاءه ، اي تلك العناصر التي تعني فشلا نسبيا في الكفاءة المتوقعة من الفرد. من هنا ذهب اريكسون الى ان مسار تشكل الهوية الفردية ليس خطا مستقيما بل هو تفاعل بين تازمات وتعارضات داخلية ، بين هويات سلبية وايجابية ، وان تعريف الهوية يجب ان ياخذ بعين الاعتبار تكامل واندماج جميع الصور السابقة السلبية والايجابية ، فضلا عن الصورة التي يسعى الفرد لتكوينها لذاته[9]. ومن الملاحظات الجديرة بالاهتمام ان المكون السلبي للهوية قد يكون اقوى تاثيرا وفاعلية في تشكيل شخصية الفرد ورؤيته لذاته وللعالم حين يكون هذا الفرد او الجماعة التي ينتمي اليها في ازمة او صراع مع الاطراف الاخرى. ويكون الامر على هذا النحو بشكل اكثر تركيزا حين يكون الفرد او الجماعة في الجانب الضعيف الذي يتعرض للعدوان.

توليف الهوية على المستوى الجمعي : مجتمع الاقلية

الجماعة التي تحمل هوية خاصة هي بالضرورة منظومة مصالح تتمايز عن المنظومات الاخرى، اي الجماعات التي تحمل هويات مختلفة. درجة تمايز المصالح هو الذي يعطي للتنوع لونا سياسيا او يجعله مؤثرا في الحياة السياسية. هذا يقودنا طبعا الى ما وصفناه انفا بالمكون السلبي للهوية. مثلما يحمل الفرد هوية الجماعة التي هو عضو فيها، فانه ايضا يتحمل اعباء هذه الهوية ، اي الانعكاسات السلبية لعلاقة الجماعة مع الجماعات الاخرى. هذه الانعكاسات تسهم بدورها في تشكيل الهوية الفردية. تصنيف الاخرين للفرد او لجماعته تتحول – مع تطور الوعي بالمحيط – الى جزء من هويته. قد يحمل الفرد جميع المؤهلات اللازمة للوصول الى غاياته، لكن معرفته لنفسه وحدود فعله وتطلعاته ستبقى متاثرة بكيفية تصنيف الاخرين لجماعته او له باعتباره عضوا في هذه الجماعة.
هذا يقودنا الى السؤال المحوري : كيف تصبح الهويات الفرعية عاملا مؤثرا في السياسة؟
سواء كنا نتحدث عن "اقلية" او كنا نتحدث عن "مجموعة اثنية" ، فاننا نشير في حقيقة الامر الى مجموعة تحمل هوية متمايزة عن بقية المجموعات والافراد الذين يتالف منهم المجتمع الوطني في صورته الكاملة. الفارق بين الوصفين يشير – اصطلاحيا على الاقل – الى ظرف سياسي. وصف جماعة ما بانها اقلية يشير ضمنيا الى علاقة ذات طبيعة استثنائية بينها وبين الاكثرية او بينها وبين الدولة ، اما وصفها كمجموعة اثنية فهو تعبير محايد الى حد كبير ، يشير الى تمايزها دون تحديد موقفها او وضعها السياسي.
يمكن القول – مع بعض التحفظ - بان تظاهر الاقليات بكينونتها الثقافية الخاصة ، وتركيزها على ذلك الجانب من هويتها الذي يؤكد تمايزها ، قد يعكس موقفا سياسيا تجاه المحيط  الاجتماعي او تجاه النظام السياسي . بعبارة اخرى فان عناصر التمايز قد تكون حقائق موضوعية ، مثل اللون والجنس والعرق والمذهب ، لكن التعبير السياسي عنها ليس كذلك ، بل هو اقرب الى الوظائف السياسية المتغيرة. ولذا فان عناصر التمايز تلك قد تحمل مضمونا سياسيا في بلد ولا تحمل هذا المضمون في بلد آخر. او ربما تحمله في زمن ولا تحمله في الازمان الاخرى.
من المهم اذن الالتفات الى الفارق بين امتلاك الفرد او الجماعة لهوية متمايزة عن البقية، وبين اعتبار هذا التمايز اساسا لخطاب سياسي خاص، او استعمال عناصر التمايز في الصراع السياسي. كما ينبغي الالتفات الى الفارق بين الهوية التي يرثها الفرد بالولادة وتلك التي يصطنعها عن وعي وقصد. لتوضيح الفكرة من المناسب ان نشير الى حالتين من الانقسام الاجتماعي:
                                  أ‌-          انقسام افقي يتولد من اختلافات ثقافية او اقتصادية او سياسية، يشعر بها الفرد ويتفاعل معها بعدما يتجاوز سن الرشد. ويظهر هذا الانقسام على شكل جماعات سياسية او طبقات اجتماعية او مذاهب فكرية وايديولوجية. تعكس هذه الانقسامات نموا في وعي افراد المجتمع بذواتهم وميلهم الى جمع طاقاتهم الشخصية مع طاقات الافراد الاخرين لانجاز اهداف محددة.
                                ب‌-        انقسام عمودي يظهر على شكل تصنيف للافراد طبقا للهوية التي يحملونها بالولادة ، وتتمظهر على شكل انحيازات او تجمعات متمايزة عن بقية المجتمع. يصبح الافراد جزءا من هذه الانقسامات بمجرد ولادتهم.
الانقسام الافقي هو الاقرب الى طبيعة المجتمعات الحديثة ، حيث يختار الناس دوائر  انتمائهم بوعي تام وقناعة بالتناسب بينهم وبين شريحة محددة من الافراد الاخرين تحمل رايا موحدا او صفة اجتماعية او استهدافات او رسالة. التعاقد والتوافق هو الارضية التي يقوم عليها هذا الانتماء . فالفرد يقرر الدخول في جماعة او الخروج منها بمحض ارادته. بخلاف الانقسام العمودي الذي يورث الفرد هوية ابويه من دون ان يكون له الخيار في قبولها او رفضها ، كما انه يتعرض لموقف او توصيف نمطي من جانب الاخرين يماثل ما يتعرض له بقية افراد الجماعة التي تحمل هويته ذاتها ، بغض النظر عن الفوارق الفردية التي ربما تميزه عن الجماعة .
معظم الاقليات تجسد النوع الثاني من الانقسامات ، وهي تتألف غالبا من افراد ولدوا لابوين ينتميان الى عرق خاص او لون مختلف عن البقية او جماعة دينية متمايزة او مصنفة من قبل بقية الاطياف الاجتماعية باعتبارها "فريقا مختلفا".
ليس هناك ما يوجب - من الناحية النظرية على الاقل – ان يكون وجود الاقلية مشكلة للبلد او ان تكون علاقتها غير طبيعية مع الاكثرية او مع الاطياف الاخرى التي يتشكل من مجموعها المجتمع الوطني العام. اما من الناحية الواقعية فان المسألة تتأثر سلبا او ايجابا بفلسفة النظام الاجتماعي/السياسي ، الثقافة السياسية السائدة ، ونظام توزيع الموارد العامة والاعباء بين اعضاء المجتمع السياسي. تصنيف مجموعة من المواطنين باعتبارهم "فريقا آخر" يؤدي بالضرورة الى تفاوت بينهم وبين البقية في توزيع المنافع العامة والاعباء. وهذا يقود غالبا الى تعميق الفوارق وترسيخ الانفصال الشعوري والثقافي عند اعضاء الاقلية ، بحيث تتحول عناصرالتمايز الخاصة بالاقلية الى مبررات لهوية بديلة عن الهوية الوطنية ، وتاسيس ارضية للصراع مع الدولة او مع  الشرائح الاجتماعية المختلفة[10].
لا يعتبر الانقسام الافقي خطيرا ، وهو اقرب الى التنوع الاجتماعي منه الى الانقسام الاجتماعي ، كما انه قابل للمعالجة من خلال السياسات الاعتيادية للدولة بتغييرها او تعديلها او اتاحة فرص اضافية ، دون حاجة – في معظم الحالات – الى اصلاحات هيكلية او عميقة . كذلك فان الانقسام العمودي لا يشكل مصدر خطر داهم اذا لم يجر تحويل عناصر التفارق (العوامل التي تشكل هوية متمايزة) الى حقائق سياسية او مبررات للتمرد السياسي.
للاسف فان الوضع في الشرق الاوسط ليس على هذا النحو. بسبب الاهمال او التهميش المزمن للاقليات ، فقد تحول التمايز الى مبرر لعلاقة متوترة بين مجتمع الاقلية من جهة وبين الدولة من جهة اخرى . في ظل هذا التوتر تحولت مكونات الهوية الخاصة بالاقلية الى عوامل تحشيد وتعبئة لمشاعر الاقلية ضد الدولة من جهة ، والى مبررات لاجراءات استثنائية وغير عادلة من جانب الدولة ضد مجتمع الاقلية[11]. اذا لم يعالج هذا التعارض فانه سوف يتحول – مع مرور الزمن –  الى مصدر تازيم مستمر في المجتمع الوطني يهدد السلام والاستقرار كما يهدد الوحدة الوطنية.  ومن هنا تاتي اهمية الدراسة العلمية لمسالة الاقليات وكيفية التعامل معها.

المقاربات النظرية  لمسألة الاقلية

مشكلة الاقليات وانعكاسها السياسي وكيفية معالجتها في اطار الدولة الوطنية هو احد الموضوعات الاكثر اثارة للجدل في بحوث الاجتماع السياسي. ويرجع الفضل في تعميق تلك المناقشات الى  الاعمال النظرية في حقلي الاثنيات ethnology والانثروبولوجيا ، كما استفادت كثيرا من بحوث علماء النفس ولا سيما في موضوع الهوية، ونشير هنا بالخصوص الى اعمال اريك اريكسون الذي تنسب اليه ابرز التطورات في هذا المجال. هذه الابحاث وتلك ساهمت في اثراء النقاش حول قضايا التنمية السياسية وبناء الدولة القومية. وهي في معظمها تستهدف الاجابة على السؤال المحوري الذي اشرنا اليه آنفا ، اي : كيف تتحول العناصر المشتركة في هوية مجموعة معينة من البشر الى اساس لرابطة اجتماعية جديدة تجعل هذه المجموعة متمايزة عن غيرها ، وكيف ولماذا تصبح هذه الرابطة حقيقة ثابتة ومؤثرة في الحياة السياسية؟
ثمة مقاربات عديدة استهدفت الاجابة على هذه الاسئلة[12]، تنطوي جميعا في اتجاهين عريضين او في المنطقة الوسطى بينهما:

1- الهوية قدر:

يرى اصحاب هذا الاتجاه – وهو الاقدم في بحوث الاثنيات والقومية – ان العوامل التي تشكل الهوية الخاصة للجماعة مثل اللغة والدين والنسب والعرق واللون ، هي حقائق موضوعية موجودة في الواقع او في التاريخ. وان كل جيل يرث تلك العوامل ومفاعيلها ، ولا سيما التمايز عن الاخرين. سواء قبل بها الفرد او انكرها ، وسواء استعملت في الصراع السياسي ام بقيت محايدة ، فانها تظل مرتبطة بشخص حاملها ومؤثرة عليه. يستطيع الافراد من طبقة اجتماعية معينة تجاوزها الى طبقة اخرى ، لكن الروابط الاثنية تبقى ثابتة . اذا ولد شخص في مجموعة اثنية محددة فسوف تبقى انعكاساتها معها طوال حياته.
هناك جدل كبير حول ما يترتب على هذه النظرية ، سيما وانها تستثني بصورة حادة الوعي الفردي بالذات المستقلة والقائمة بذاتها ، وتستثني ارادة الانسان لان يكون كما يشاء. كما تستثني بصورة من الصور احتمال ان يكون موقف الاخرين من هذا الفرد او المجموعة التي ينتمي اليها موقفا منصفا ، ينظر اليهم كبشر متساوين لا كمجموعة متمايزة او مصنفة. ربما لهذا السبب راى بعض المنظرين في هذا الاتجاه ان الاثنية – كهوية متمايزة – هي في الحقيقة مفهوم مقارن ، اي ان المجموعة الاثنية تعرف وتتحدد من خلال علاقتها مع الاخرين اكثر مما تعرف من خلال مواصفات موضوعية تحملها او تشكل هويتها.

2- مجتمعات متخيلة

يرى اصحاب هذا الاتجاه ان الجماعة ، سواء كانت شعبا كاملا او مجموعة عرقية او دينية ، هي كينونة رمزية متخيلة. كل مجموعة من البشر ترسم صورة ذهنية عن عنصر تاريخي او مجموعة عناصر تشكل رابطة افتراضية تجمع بين افرادها وتميزهم عن الاخرين. هذه الرابطة الافتراضية ليس لها وجود موضوعي مستقل بذاته ، او ليست موجودة في الاصل ، بل هي قيمة صناعية يستحدثها بعض الناس ويستخدمون – في سبيل اضفاء المصداقية عليها- عناصر مشتركة بين الافراد مثل النسب او لون البشرة او الدين او اللغة او التاريخ المشترك او الانتماء الى ارض معينة. ربما لا تنحصر تلك العناصر في هذه الجماعة خصوصا ، او ربما لا يرتقي اي منها او حتى مجموعها لمستوى الرابط الطبيعي بين شريحة محددة من الاشخاص كما هو الحال بالنسبة لرابطة النسب بين افراد العائلة الواحدة مثلا ، او لعلها لا تبرر الشعور بالخصوصية التي يشعر بها عادة افراد الجماعة الواحدة . رغم كل ذلك فهناك من يستطيع اقناع الاخرين بخصوصية من نوع ما لعناصر محددة في هويتهم تستحق – تبعا لذلك – ان تحظى باولوية على غيرها من العناصر، اولوية قد تصل الى تهميش او ربما نفي العناصر المزاحمة.
يعتبر ارنست غلنر بين ابرز الذين تبنوا هذه المقاربة وقد حملها الى اقصى اليسار ، فقرر ان بروز الهويات القومية المتمايزة ليس سوى نتيجة لفعل سياسي تقوم به النخبة وتستخدمه لضمان شريحة مصالح خاصة . بعبارة اخرى فان تحول العناصر الاصلية التي عوامل تمايز ، وظهور الكيان السياسي للجماعة الاثنية ، ليس حالة طبيعية ولا هو تطور عفوي او ضروري ، بل هو نتيجة لعمل مقصود وواع تقوم به نخبة محددة ، تسعى لخلق دائرة مصالح محصنة وسهلة التعبئة والحشد. يحاول القادة السياسيون احياء مشاعر الفخر والتضامن بين اعضاء الجماعة ، وصولا الى اقامة احزاب قبلية او قومية او طائفية تواجه التاثير الايديولوجي للمنافسين من خارج الجماعة[13].
اتخذ عدد من المنظرين موقفا وسطيا يجمع عناصر من المقاربة الاولى واخرى من الثانية. وبين ابرز هولاء بينيديكت اندرسون الذي يعد – كتابه "مجتمعات متخيلة" من المراجع الاساسية في بحوث الاثنيات والقومية. يعتقد اندرسون ان بروز الهوية القومية ، سواء كانت ترتبط بامة كاملة او باقلية صغيرة ، في المجال السياسي ، هو عمل تقوم به النخبة لنفس الاغراض المذكورة اعلاه. لكن النخبة لا تخلق هوية من لا شيء ، بل تعيد احياء عناصر تمايز موجودة فعلا في ماضي الجماعة او حاضرها ، وقد تكون نشطة او خامدة ، فتركز عليها وتستعملها كوسيلة لتعبئة الجمهور وراء اهداف سياسية. كما يشير الى عوامل موضوعية ترتبط بالتقدم العلمي يعتقد انها ساهمت في احياء واغناء الشعور بالذات الجمعية بين اعضاء المجموعات التي تنتمي الى اصول مشتركة . بين ابرز هذه العومل ظهور الطباعة التجارية - الراسمالية الطباعية print-capitalism كما اسماها اندرسون- التي اقامت نطاقات تواصل جمعي جديدة ، ساهمت في لفت انظار الناس الى العوامل المشتركة التي تجمعهم مع بعضهم وتميزهم عن الاخرين ، كما وحدت تعبيراتهم ولغتهم وثقافتهم ، واعادت صياغة وعيهم بتاريخهم وذاتهم. تلك العوامل المشتركة قد لا تكون بالضرورة حقيقية ، لكنها على اي حال قدمت الى الناس وترسخت مع مرور الزمن كمسلمات عند اصحابها ، اي كصورة حقيقية عن ذاتهم[14]. على وجه الدقة فان تلك العوامل اعادت انتاج فكرة "الشعب" القائم بذاته او "القومية" المتمايزة التي لها حدود معروفة ، وتتمتع بحق السيادة – الفعلي او المفترض - ضمن هذه الحدود. ويعتقد اندرسون ان القومية (التعبير السياسي عن التمايز الاثني) هي ظاهرة حديثة عرفها العالم قبيل نهاية القرن الثامن عشر[15]. لكني اجد هذا التقدير مبالغا فيه الى حد كبير.
بناء على ما سبق ، يميل معظم المنظرين الى اعتبار التمايز الاثني حالة مرنة ومتغيرة[16]. ثمة مجموعات او اقليات ظهرت حديثا ، وبينها من تلاشى وخرج من المجال السياسي. ونشير هنا خصوصا الى وعي المنحدرين من مجموعة معينة بانتمائهم الاثني ، وشعور الاخرين بهم على هذا النحو. فالمشاهد فعليا ان كثيرا من اولئك لا يشعرون بتلك الرابطة الخاصة التي يشعر بها عادة اعضاء الاقليات تجاه بعضهم وتجاه مجموعهم ، او على الاقل لا يشعرون بان هذا الانتماء ينطوي على قيمة استثنائية في المجال السياسي او الحياة اليومية. كذلك الامر بالنسبة لموقف الاخرين . ثمة تجارب عن مواطنين ينتمون الى مجموعات دينية او عرقية مختلفة ، لكن هذا التمايز لا يؤثر  ابدا في تعاملهم اليومي مع بعضهم . انه بعبارة اخرى جانب مغفل في العلاقة بين هؤلاء المواطنين. حين يكون الامر كذلك فان تمايز فرد او جماعة بهوية خاصة او تاريخ خاص لا يعني شيئا ، او على الاقل لا يصنع فرقا. 
اعتقد ان تبلور وعي المجموعة الاثنية بذاتها ، اي تحول العوامل المشتركة الى اساس لرابطة فعالة في الحياة السياسية ، وبالتالي بروز تلك المجموعة كشعب او كأقلية تناضل من اجل حقوق محددة ، ليس مجرد تكتيك ذكي تنفذه النخبة. دور النخبة سيكون مؤثرا اذا كان الظرف الحياتي لهذه المجموعة ضيقا وعسيرا ، بحيث يولد شعورا قويا بالتضامن بين اعضاء المجموعة محوره هو الدفاع عن انفسهم او الحصول على ما يعتبرونه حقا لهم ، او على الاقل  الاحتماء من قهر لا يمكن لكل شخص بمفرده اتقاءه او الرد عليه. يتولد شعور التضامن هذا بين اعضاء الاقلية او بين اعضاء الاكثرية اذا واجهوا نفس الظرف. يحصل هذا في جميع الامم التي تواجه تحديات جسيمة او كوراث او قهرا او عدوانا من قبل اخرين. في جميع التجارب المعروفة ، ادت تلك التحديات الى تعزيز التضامن الداخلي وترسيخ الهوية. ولعل اقرب التجارب هو ما حصل في الولايات المتحدة الامريكية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، حيث شهدت هذه البلاد تعبيرات عن التضامن بين افراد الجمهور غير مسبوقة . ومثل ذلك ما نسمعه اليوم من جدل حول فكرة الهجوم العسكري على ايران لتدمير برنامجها النووي ، حيث يتفق عدد من المحللين والسياسيين على ان عملية مثل هذه سوف تؤدي الى التفاف الشعب الايراني كله حول حكومته ، وبالتالي تعزيز قوتها ، خلافا لما يسعى اليه الامريكيون الذين يجاهرون برغبتهم في اضعاف النظام الايراني[17]. هذه امثلة على رد فعل الاكثرية على التحديات ، وتجد نظائر لها في الاقليات ايضا. فالاجماع الواسع بين سكان جنوب السودان على الانفصال هو ثمرة لما يشعرون به من تهميش مزمن من جانب الحكومة التي يسيطر عليها الشماليون[18]. وتجذر الهوية القومية لاكراد العراق وتركيا هو ثمرة لما واجهه الكرد في العقود الماضية من تعامل مهين على يد الحكومة او برضاها في هذين البلدين. وثمة امثلة كثيرة اخرى على اقليات واكثريات واجهت نفس التحدي فردت عليه بترسيخ هويتها وتضامنها الداخلي وخطوط التمايز بينها وبين الاخرين[19]. من هنا جادل عدد ملحوظ من الباحثين بان اشكالية الهوية الاقلاوية تتعلق في الغالب بعملية واعية احيانا وعفوية احيانا اخرى ، تتمحور حول "اعادة اكتشاف" ثم "صيانة حدود الجماعة" او العناصر التي تميزها عن الاخرين[20].
اهتم باحثون كثيرون بتحليل العوامل الاقتصادية والسياسية التي تولد في الجماعات مشاعر القلق او الحاجة الى التضامن الداخلي ، وتخلق – تبعا لذلك – الظرف الطبيعي لتحول العوامل المشتركة بين اعضاء الجماعة الى عوامل تمايز او مبررات تمايز فعالة في المجال السياسي. من بين المقاربات التي اتخذت هذا المنحى نشير الى نظريات التنمية والتحديث ولا سيما نسخها الجديدة ، حيث يقال في هذا الاطار ان عمليات التحديث تولد او تحيي تعارضات ثقافية او اثنية كامنة. التنمية والتحديث تنطوي بالضرورة على الغاء او تهميش لقيم ومسلمات واعراف توفر قدرا من الشرعية للنظام الاجتماعي ، وبعض الاسس الضرورية للاستقرار والتواصل. كما تخلق ادوارا ومصادر اقتصادية وغير اقتصادية توسع فرص التنافس السياسي. هذه التحولات تنعكس على شكل حالة ارتياب عند شرائح من الجمهور ، كما تولد تعارضات ومسارات تغيير متعددة الاحتمالات والنتائج[21].
كما يحصل في معظم الحالات ، ينقسم المجتمع حين يواجه تحدي الحداثة الى قسمين : الاشخاص الاكثر جرأة ، او الاكثر وعيا بالامكانات التي تاتي في سياق تحولات المجتمع والاقتصاد ، يميلون الى ركوب موجة التحديث واستثمار ما تاتي به من فرص جديدة . هذا يؤدي بالضرورة الى صعود هؤلاء او بعضهم واكتسابهم مصادر قوة وادوارا بحيث يشكلون ما يعرف بالنخبة الحديثة ، التي تنافس النخب التقليدية او ربما تستولي على نطاقات نفوذها .
وفي المقابل تتخذ بعض شرائح المجتمع ، لا سيما الاكثر انغماسا في التقاليد او الاكثر استفادة منها ، تتخذ موقفا سلبيا تجاه تحدي التحديث وما ياتي به من تحولات. يتولد عن تضعضع النظام الاجتماعي القديم حالة من الاضطراب الثقافي وعدم اليقين. ويتولد لدى الكثير من الناس ، لا سيما الاشد ارتباطا بالتقاليد شعور بالعجز عن مسايرة التغيير وينتابهم القلق على مستقبلهم ومستقبل عائلاتهم او بلدهم ، فيبدأ بعضهم مقاومة نشطة ضد التحديث بينما يميل آخرون الى الانسحاب من المواجهة. وفي كلا الحالين ، الرفض النشط او الهروبي ، يجري احياء السمات الثقافية الاصيلة للجماعة (التي تساوي عندهم الذات الاكثر صفاء) كشكل من اشكال التامين او طلب الامان وتوكيد الذات ضد مخاطر الحداثة وتحدياتها المقلقة.
ضمن هذا المسار تقوم النخبة التقليدية بالتاكيد على خصوصيات الجماعة ، والتاكيد عليها كعوامل تمايز وارضية وحيدة للتضامن والتكافل بين اعضائها. فاذا نجحت في هذا المسعى فان الهوية الفرعية الخاصة بالجماعة تصبح عاملا سياسيا. لكن لا ينبغي الظن بان النخب التقليدية هي الوحيدة التي تلعب هذا الدور، فالنخب الحديثة تفعل الشيء نفسه ، لكنها – خلافا للنخب التقليدية – لا تؤكد على التصوير الخام لعوامل التمايز ، بل تعيد تفسيرها ، وتقدمها في ثوب جديد يتناسب مع تطلعاتها وخطابها السياسي او الاجتماعي. واظن ان هذه القراءة الانتقائية للاصول من جانب النخبة ، وتقديمها للجمهور على نحو يخدم توجهاتها ، هو الذي دفع بعض الباحثين الى الجزم بان الهوية الاثنية ليست سوى وجود متخيل ابتكرته النخبة لاغراض سياسية بحتة.

خلاصة

يتضح من خلال النقاش السابق ان عناصر التمايز الموروثة (اللغة ، الصفات البدنية ، العرق ، الدين ..الخ) ليست مجرد اضافات تكميلية على هوية الفرد ، بل هي عامل ثابت واساسي في تكوين شخصية الفرد وفي وجوده كانسان. من هنا فان تشكل الهوية ليس على الدوام عملا مقصودا . وليس ، على وجه التحديد ، عملا يستهدف التمايز ، فضلا عن العدوان . بل هو تعبير عن تحول داخلي في نفس الفرد وفي قلب الثقافة المجتمعية على حد سواء . عملية تؤسس صورة ومضمونا للهويتين الفردية والجمعية. الهوية تنمو او تتضاءل من خلال روابط معقدة بين الذات والجماعة ، فهي ليست ببساطة امر يمكن تقريره او منحه[22].
يترتب على تشكل هوية فرعية اثار في موقف الفرد والجماعة. اذ يمكن لها ان تلعب دورين متعارضين : ربما تنضوي في اطار الهويات الاعلى كالهوية الوطنية مثلا ، وقد تتحول الى مصدر للمواقف المتعارضة مع الهوية الوطنية. على ان تحول الهوية الفرعية الى عنصر سياسي نشط ، اي تحول الجماعة الاثنية الى اقلية بالمعنى السياسي ، مشروط  بعامل متغير هو الظرف السياسي/الاقتصادي للجماعة. في كل الاوقات تلعب النخبة دورا مؤثرا ، لكنه يبقى مشروطا بالظرف الواقعي للجماعة وليس مستقلا.  دور النخبة – في هذا المعنى - طبيعي ومتصل بالجماعة التي هي جزء منها . لا يوجد مجتمع من دون نخبة تعبر عنه. تتجه الجماعة الى التفكير في ذاتها اذا واجهت ظروف عسر تولد حاجة للتضامن الداخلي. هذه الحاجة تنشط – بالضرورة - الشعور بالذات وتحيي العناصر التي تشير الى مشتركات تختص بها الجماعة دون غيرها. اذا فهمت ظروف العسر كحالة سياسية طويلة الامد ، فان الجماعة ستعيد تصوير عناصر التمايز الاثني والثقافي كمبررات للتمايز السياسي. في هذه المرحلة بالذات سيكون للنخبة دور فاعل ، يتركز على منح تلك العناصر وصفا معياريا يتناسب مع الظرف السياسي القائم ومع المطالب المحددة للجماعة. كما تلعب النخبة دورا هاما في التعبير العلني عن التحول المذكور. وفي هذا المجال فانه لا يوجد فارق جوهري بين دور النخب الحديثة  ونظيرتها التقليدية . تجربة مجتمعات الشرق الاوسط تشير في الحقيقة  الى ان النخب الحديثة وليس التقليدية هي التي نجحت في استثمار التحول المشار اليه. التنظيمات السياسية الاسلامية ، والتنظيمات القومية التي تدافع عن حقوق الاقليات هي مثال على ما ذكرناه. رغم ان هذه التنظيمات تحمل شعارات وعناوين تشير الى هويات اعلى من الهويات الفرعية ، الا انها – من حيث التكوين البشري والاستهدافات المباشرة – غالبا ما تكون ذراعا سياسيا لجماعات صغرى.
المعالجة الفاعلة لقضايا الاقليات المذهبية والقومية يتوقف على ادراك عميق لخطوط التواصل وخطوط الانكسار في علاقة الاقليات بالمحيط.




[1]  Ofra Bengio & Gabriel Ben-Dor (eds.), Minorities and the State in the Arab World, Lynne Rienner Publishers, (Boulder, CO. 1999), p. 197
[2] Manuel Castells, in  Jérôme Bindé (ed.), Keys to the 21st Century,  UNESCO & Berghahn Books 2001, p. 217
[3] Ramesh Chandra, Minority: Social and Political Conflict, Isha Books, (Delhi 2004), p. 102
[4]  امين معلوف : الهويات القاتلة ، (بيروت 2004) ، ص 29
[5] Victor Segesvary, Essays, Articles and Lectures 1957 — 2005,  Mikes International, (Hague 2005), p. 213
[6] للمزيد حول العلاقة التفاعلية بين الفرد والجماعة ودورها في تكوين الهوية ، انظر ايان كريب: النظرية الاجتماعية من بارسونز الى هابرماس ، ولا سيما الفصل الخامس ص 121 ، ترجمة محمد حسين غلوم ، عالم المعرفة ، (الكويت 1999).
[7] لبعض التفاصيل عن هذه القضية، انظر موقع قناة العربية 2 نوفمبر 2006- www.alarabiya.net/articles/2006/11/02/28760.html .
 وكشفت صحيفة عكاظ عن 10 دعاوى جديدة للطلاق لعدم تكافؤ قبيلتي الزوجين ، رفعت في اعقاب القضية الشهيرة بين منصور وفاطمة بالمنطقة الشرقية، ونسبت للمحامي ابراهيم البحري الذي يترافع في اربع من هذه القضايا قوله ان حكم التفريق بين منصور وفاطمة هو السبب وراء زيادة قضايا طلاق النسب عكاظ 15 فبراير2007 . www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070215/Con2007021587747.htm
[8]  Guardian.co.uk, Sep., 16, 2009. www.guardian.co.uk/world/2009/sep/16/jimmy-carter-racism-barack-obama
[9] K. Hoover, J. Marcia, K. Parris, The Power of Identity, Chatham House Publishers, (London1997) p. 36
[10] برهان غليون : نظام الطائفية ، ص 53
[11] Ofra Bengio & Gabriel Ben-Dor, Minorities and the State in the Arab World, Lynne Rienner Publishers,(Boulder, CO. 1999), p. 197
[12]  For a comparative account on the topic, see: Ben Fowkes, Ethnicity and Ethnic Conflict in the Post-Communist World, Palgrave,  (New York. 2002), the Introduction.
[13] For a brief review of Gellner’s concept of nationalism, see: Brendan O'Leary,  On the Nature of Nationalism: An Appraisal of Ernest Gellner's Writings on Nationalism, British Journal of Political Science , V. 27, Issue: 2 (1997), pp 191-222
[14] Benedict Anderson, Imagined Communities, Verso, (London 1991), p. 37
[15]  Anderson, ibid, p. 12
[16] Ben Fowkes, op. cit, p. 69
[17] Stephen Walt, ‘Be careful what you wish for: Would ‘regime change’ help Iran?’, Foreign Policy, 14-12-2009, http://walt.foreignpolicy.com/posts/2009/12/14/be_careful_what_you_wish_for_would_regime_change_help_Iran
[18] صوت 98,6% من الجنوبيين بمختلف اعراقهم وقبائلهم واديانهم لصالح الانفصال عن الشمال في استفتاء جرى في يناير 2011 باشراف الامم المتحدة. الاتحاد 22-1-2011 . www.alittihad.ae/details.php?id=7943&y=2011&article=full
[19] See for example: Susanne Schwalgin, ‘Why locality matters: Diaspora consciousness and sedentariness in the Armenian diaspora in Greece’, in W. Kokot, K. Tölölyan & C. Alfonso (eds.), Diaspora, Identity and Religion, Routledge. ( New York  2003), pp72-71
[20] Astrid Wonneberger, ‘The invention of history in the Irish-American diaspora Myths of the Great Famine’ in W. Kokot, K. Tölölyan & C. Alfonso (eds.),ibid  , p. 119
[21] Lawrence Woocher, Preventing Violent Conflict, (Special Report 231, Sep. 2009) the United States Institute of Peace, Washington D.C. www.usip.org/files/preventing_violent_conflict.pdf
[22] Hoover, Marcia, & Parris, op. cit. p. 21

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...