اينما ذكر الخليج العربي تواردت الى الاذهان
صورة البترول ، البترول وهو مكائن تنبش
الارض بحثا عنه ، والبترول وقد تحول من زيت اسود كريه الرائحة كما وصفه المكتشفون
الى ثروة تصنع جمال الحياة وناعم العيش ، فالبترول هو سر الخليج الاعظم ، وهو صانع
حاضره.
لكن هذا الزيت الاسود الثمين ، هو ـ من
الناحية الاخرى ـ المصدر الرئيسي للتحدي البيئي في المنطقة ، ثمة اسباب كثيرة
يحتمل ان تؤدي الى افساد البيئة النظيفة ، التي نمني النفس ببقائها والتمتع
بنعيمها ، لكن البترول يبقى هو التحدي الكبير .
شهدت حرب الخليج الثانية تبلور المخاطر التي
يمثلها البترول على البيئة المحلية في الخليج ، فقد ادى القصف المتبادل الى اصابة
عدد من منشآت البترول اصابات مباشرة او غير مباشرة ، وشعر الناس لاول مرة بحقيقة
مايتهدد حياتهم من وراء هذا العملاق ، الذي كان في زمن السلم مصدرا للرفاهية ونعيم
العيش .
البيئة كسلاح
ويعتبر التخريب المتعمد الذي قام به الجيش
العراقي خلال المراحل الاخيرة للحرب ، السبب الرئيسي للمخاطر البيئية التي شهدتها
هذه الحرب ، فقد قام الجنود قبيل انسحابهم من جنوب الكويت ، بتدمير الصمامات وخطوط
النقل المتصلة بالابار ، وجعل الزيت الخام يتدفق باتجاه شاطيء الخليج ، في الوقت
الذي كانت المنطقة تتعرض للقصف المدفعي والصاروخي ، الامر الذي ادى الى اشتعال
الزيت المتدفق وحول المنطقة المحيطة بالحقول الى بركان ، يقذف بالادخنة السوداء ،
والغازات الضارة الى أجواز الفضاء .
وقيل في تفسير هذا العمل التخريبي ، ان العراقيين
كانوا يريدون تغطية انسحابهم السريع من المنطقة ، باشغال المقاتلين على الجبهة
الاخرى ، او لمنع انزال محتمل للمشاة والمعدات على الشواطيء ، لكن كثيرا من
المحللين اعتبروا غرض القيادة العراقية أوضح من هذه التفسيرات ، وهو يتلخص في
اشعار الطرف الآخر ، بقدرتها على جعل الحرب مكلفة وفادحة الاضرار ، فالتخريب
المتعمد لمنشآت مدنية ، لايؤدي في حقيقة الامرالى اضعاف الجهد العسكري ، قدر
مايؤدي الى بلبلة الراي العام .
لبضعة اشهر بعد التحرير بقيت اراضي الكويت
مغطاة بسحب من الدخان الاسود ، كانت ـ لكثافتها ـ تحجب الشمس في الاسابيع الاولى ،
ثم تلاشت حتى انتهت بمرور الزمن ، وقد ادت كما قالت الصحف الكويتية الى مضاعفة
معدلات الاصابة بامراض الجهاز التنفسي ، فضلا عن الامراض الناتجة عن القلق والتوتر
النفسي ، وكنت اظن ان من المهم للمنطقة ، ايلاء الموضوع القدر الكافي من الاهتمام
على المستوى العلمي ، لكن لم يتسن لي الاطلاع على دراسات متكاملة ، حول مخاطر
التلوث البترولى في المنطقة ككل ، ولعلها لاتكون موجودة او متداولة ، ماخلا
الدراسات التي وضعتها الهيئة الاقليمية لحماية البيئة البحرية ، التي كانت نشطة
قبل الحرب ، وركزت على مشكلات التلوث البترولي في السواحل .
نماذج وطنية
وبالنظر لهذا النقص الملحوظ ، فقد قامت وزارة
الدفاع بتاسيس المشروع السعودي للتوعية البيئية ، الذي يأخذ بعين الاعتبار موضوع
نظافة البيئة كتحد راهن ومستقبلي ، وحسب علمي فان هذا المشروع هو الاول على
المستوى الخليجي ، الذي ينظر للقضية من وجوهها المختلفة ، ولاسيما المحافظة على
التنوع البيئي ، وهو الجانب غير المثير للاهتمام كثيرا ، على رغم جوهريته واهميته
.وعلى المستوى الرسمي ايضا فان الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس ، بذلت جهدا
طيبا في وضع ضوابط ملزمة ، على المعدات والاجهزة التي تنتج غازات او نواتج ملوثة ،
وبين ابرزها السيارات ومعدات النقل ، اضافة الى المكائن المستخدمة في الصناعة ،
فضلا عن الموصفات الخاصة بالاغذية المستوردة .
لكن
لايزال جهد الهيئة مركزا على السلع المستوردة ، وهذا امر قابل للتفهم اذ انها ليست
هيئة بيئية بالمعنى الفني ، بل هيئة رقابة على المواصفات ، تنشط اساسا في نقاط
الاتصال بين المملكة والاسواق الدولية . لذا فالذي نتطلع اليه هو تطوير مشروع
التوعية البيئية ، ليأخذ على عاتقه مجموع العناصر التي تتعلق بالبيئة ، وذلك يقتضي
ان تتحول الى هيئة وطنية ، قادرة على وضع المواصفات او اقتراح الانظمة .
نشير ايضا الى جهد تقوم به هيئة اخرى غير
بيئية ، لكنها تقدم خدمة جليلة على هذا الصعيد ، وهو مشروع هيئة الاغاثة الاسلامية
للاستفادة من علب الالمونيوم المستعملة ، اننا نستهلك كل يوم عشرات الالاف من هذه
العلب ، التي تباع فيها المرطبات ، وقد وزعت الهيئة حاويات في بعض المدن لتلقى
فيها العلب الفارغة ، حيث يجري صهرها واعادة انتاجها ، فتوفر الهيئة من بيع
الالمونيوم الخام تمويلا لبعض مشروعاتها الخيرية .
البيئة .. اقتصاد ايضا
ان
المخلفات المعدنية هي واحدة من مسببات التلوث الرئيسية ، لكنها من الناحية الاخرى
تمثل مصدرا للثروة لو اعيد تدويرها واستخدامها كخامات صناعية ، وفي بعض الدول
الاوربية تضع البلديات حاويات لكل شيئ قابل للتدوير، من الصحف المستهلكة الى
القناني الزجاجية الى علب الالمونيوم والاخشاب ، ويلعب الاعلام والتعليم دوره ، في
اقناع الناس وتعويدهم علىان يحملوا مخلفاتهم من هذه المواد الى تلك الحاويات ،
التي تتحول من عبء يكلف التخلص منه اموالا كثيرة الى مصدر للمال .
وعلى اي حال فان اعادة تدوير المواد المستهلكة
هو بحد ذاته باب واسع ، نحتاج للدخول فيه لاعتبارات عديدة ...
اولها التخلص من المواد المستهلكة التي تسبب
اضرارا للبيئة ، اوعلى اقل التقادير خفض كميتها الى الحد الادنى .
وثانيها المحافظة على مواردنا الطبيعية
غيرالقابلة للتجدد ، او البطيئة التجدد .
وثالثها اضافة نشاط جديد الى الحياة الاقتصادية
يوفر مزيدا من الدخل ومزيدا من فرص العمل ، فضلا عن انه يوفر بعض المال العام ،
الذي ينفق على نقل النفايات والتخلص منها .
لقد ادى التحسن السريع في مستوى المعيشة ، الى
ايجاد نمط حياتي طابعه العام الاستهلاك المفرط ، وليس من المقدر ان ينخفض هذا
المستوى من العيش ، خلال السنوات القليلة القادمة ، الى حدود مقلقة ، لكن الشيء
الذي يبدو مؤكدا ، هو انه لن يتطور الى مراحل اعلى خلال الفترة
نفسها ، بالنظر الى الاوضاع الاقتصادية العامة ، التي تمر بها المنطقة والعالم ،
ولهذا فمن الضروري ان نفكر جديا في الحفاظ على الحد الاقصى الممكن من الموارد
المحلية ، التي سيكون استبدالها مكلفا لو فرطنا فيها بلا حكمة ، ويبدو لي ان سياسة
شاملة تعتمد على دراسة موسعة لكل مايمكن اعادة تدويره والاستفادة منه تكرارا ،
اصبحت اليوم شديدة الاهمية ، وستزداد اهمية مع مرور الزمن .
اليوم 17 ابريل
1995
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق