ان
قلة المعلومات المتاحة لعامة الناس حول مهنة السياسة ، هي السبب الرئيسي لشعورهم
بغربتها وبعدها عن عالمهم ، وبالنظر الى الظروف المحيطة بالعمل السياسي في العالم
الثالث ، ولاسيما عدم الاستقرار ، وماينشأ عنه من مشاحنات يطال شرارها بعض الناس
احيانا ، فقد استقر العرف العام على تفضيل البعد عن السياسة ، باعتباره سبيلا
للسلامة .
وينطوي
تحت القرب من السياسة ممارستها ، كما ينطوي تحته مجرد الحديث فيها سلبا او ايجابا
، وفي بعض الازمنة ـ لاسيما في السنوات الماضية ـ كان الحديث في السياسة لايجري
الا بين المقربين وأهل الثقة ، حتى لو كان
مضمونه غير مثير او غير معاد لجهة محددة ، فالحديث كان تدخلا ، و (التدخل في
السياسة) كان تهمة خطيرة ، بغض النظر عن مضمون ومعاني ذلك التدخل .
الخوف
والجهل
ويبدو
لي ان الخوف من السياسة ـ وهو طبع تجده عند معظم العامة وكثير من المثففين في
العالم العربي ـ قد ادى بهم الى تجاهل متعمد لما يجري في اروقتها ، تجاهلا ادى
بالتدريج الى جهل حقيقي بها وبمضامينها واساليبها . وقد يبدو الجهل بالسياسة ،
مريحا لبعض من يعنيهم امرها ، لكنه ـ بالنسبة للحكومات على وجه الخصوص ـ سبب
للمتاعب ، ومعيق لمبادرات اصحاب القرار .
وفي
ظني ان الكثير من مشروعات الاصلاح التي لم يجر تنفيذها ، انما اعيقت بسبب القلق من
ردود الفعل السلبية ، من جانب الجمهور ، او على الاقل من جانب الاشخاص ، الذين
يتمتعون بقوة تاثير على الجمهور ، على الرغم من ان تلك المشروعات ، لم تات الا بعد
الدراسة والتمحيص ، وبعد ان دارت في اذهان الزعماء ورجال السياسة ، حتى اختمرت
وتأكد صلاحها .
ان
القلق من الاستقبال السلبي لمشروعات الاصلاح ، هو سبب مهم جدا لتعطيلها ، مع
مايترتب على ذلك التعطيل من تفويت للمصالح العامة ، اذكر على سبيل المثال ان
سياسات تحرير الاقتصاد التي اتجه اليها عدد من البلدان العربية منذ منتصف
السبعينات ، لم تنطلق بالقوة المطلوبة ولا بالعمق الكافي بسبب معارضة الناس لها ،
معارضة انطلقت من فهم غير دقيق لفوائد السياسات الجديدة وتاثيراتها على حياتهم
وسبل عيشهم .
نتاج
السنين
عدم
الفهم الدقيق هذا لم يات من فراغ ، بل هو نتاج لسنوات طويلة من الجهل بحقائق
مايجري في البلاد ، جهلا ادى بهم الى الريبة في كل مبادرة تقوم بها حكومتهم ،
لاسيما اذا بدا انها ستكلفهم بعض العبء في البدايات .
وقد
جرت عادة السياسيين العرب على اخفاء الحقائق عن جمهورهم ، او لنقل ـ على سبيل التحفظ
ـ انهم لم يعتادوا اعلام الناس بحقيقة مايدور في بلادهم ، من نجاحات ومن اخفاقات .
وتبعت الصحافة ووسائل الاعلام هذه السيرة
، فهي لاتقول للناس الا ماسبق ان قاله اصحاب الشأن ، او ما رغبوا في قوله ، وهو في
العادة قطر من بحر الحقيقة ، هذا اذا كان صحيحا .
وأذكر
ـ على سبيل المثال ـ جدلا دار بين اثنين من الزملاء ، حول ظروف الاستثمار في بلد
عربي كبير ، وكانت كبرى الصحف قد نشرت في ذلك اليوم ، تحقيقا على صفحة كاملة ، حول
مصنع للتلفزيون والالكترونيات ، تابع لشركة حكومية قابضة ، وتحدث رئيس الشركة التي
تنضوي تحتها مصانع اخرى حول طاقة المصنع ، والمستوى التقني الرفيع لعمله ، واعتماده على اليد العاملة الوطنية (من الباب
الى الباب) واعتبره مثالا ناجحا ، لجهود العرب في نقل التكنولوجيا وتوطينها . وأقسم
احد الزميلين ان المقال كاذب (من الباب الى الباب) وقرر الاخر انه لابد ان يشتمل
على شيء من الحقيقة ، اذا لم نقل كثيرا منها ، وفي النهاية فقد تحدثوا الى احد
مهندسي المشروع ، الذي اخبرهم بان الكلام الذي نشرته الصحيفة ، هو نص كتيب دعائي ،
كان المصنع قد وزعه لمناسبة افتتاحه قبل بضع سنوات ، اما رئيس الشركة الذي تحدث
للصحيفة ، فهو برتبة وكيل وزارة ، لم يسبق له ان زار المصنع منذ ان تولى منصبه ،
اما المصنع نفسه فهو مغلق منذ عامين ونصف ، بسبب نقص العملة الصعبة ، الضرورية
لاستيراد المواد الخام وقطع الغيار .
وقد
ضحكنا على انفسنا وعلى مجادلاتنا ، وعلى
تمنياتنا الساذجة .
مايقال
في العادة
ولو
تابعت تصريحات اهل السياسة أو الاعلام في بلد ، لظننت سكان الجنة يحسدون اهل هذا
البلد ، على ماهم فيه من نعيم ، فلا مشكلات ولاصعوبات ، بل انتصارات وانجازات
ومكاسب تتوالى كل يوم ، واذا وجدت مشاكل فهي تافهة ولاتستحق الذكر ، وهي معروفة
ومحددة ، وهناك من يقوم بحلها ، بحيث لايستحق الامر حتى مجرد الالتفات اليه ، فضلا
عن القلق لاجله .
اما
اذا اطلت الازمات برأسها فالتبرير موجود في الجيب الثاني ، فمن يتحدث عن ازمة كاذب
، ومن يشير الى مشكلة مغال ومبالغ ، وان مايقال مجرد اشاعات مسمومة يطلقها الاعداء
والاجانب ، الذين يتآمرون على البلاد ومكاسبها ، الى آخر قاموس التبرير المعروف .
لقد
مضى زمن كانت الاقطار العربية ، تتعرض بالفعل لحملات اعلامية ، تستهدف الضغط عليها
لابتزاز مواقف سياسية ، لكن يبدو ان احدا لايصدق الان ان كل مايقال هو اشاعات
مغرضة ، لان الناس اصبحوا غير قادرين على ابقاء عيونهم مغمضة واذانهم محشوة بالطين
، خاصة وان اصحاب الشأن من زعمائهم لايتكلمون ، واذا تكلموا فانهم يقيسون كلماتهم
بالمثاقيل .
لهذا
السبب نجد ان معظم العرب ، لايستمعون الى وسائل الاعلام الوطنية في بلادهم ، واذا
استمعوا اليها فانهم لايصدقون ماتقول ، حتى يجري تكراره من مصادر اعلامية اخرى ،
ولا أظنني مجافيا للحقيقة ، اذا قلت بان الاذاعة البريطانية ، هي الاذاعة التي
تحظى باكبر عدد من المستمعين في العالم العربي ، لاسيما في اوقات الازمة ، حينما
يشعر الناس بالحاجة الى المعلومات .
هذا التطلع العام الى مصادر المعلومات في الخارج
، يستبطن اتهاما لصدقية وسائل الاعلام الوطنية ، وجدوى ماتقدمه للجمهور .
طير
في السرب
والحقيقة
ان الاذاعة والصحافة لاتستطيع ان تغرد خارج سربها ، فاذا كانت السياسة مغلقة في
بلد ، فلابد ان تكون الصحافة والاذاعة كذلك ، واذا كانت مفتوحة وشفافة ، فان وسائل
الاعلام مجرد تعبير عن حقيقة تجري ، قد توسع اطارها قليلا أو قد تضيقه قليلا ،
لكنها لاتستطيع ان تكون غير ناقل لحقيقة تجري على ارض الواقع .
لو
كان الناس يعرفون حقيقة مايجري في بلدهم ، اذن لاستطاعوا توقع ماسيأتي من أزمات ،
واذن لبادروا في تقديم العذر لحكومتهم اذا واجهوا المشكلات ، بل ولعل بعضهم يبادر
الى شد ازر الحكومة ومساعدتها في البحث عن علاج ، ولاشك ان بعض الجمهور قادر على
تقديم العون اذا وجد الطريق مفتوحا وتلمس حرارة الترحيب .
والعمل
في السياسة في أي بلد من البلدان العربية ، زراعة للهموم ووجع القلب ، ويبدو لي ان معظم السياسيين العرب ، كثير منهم
على الاقل ، يرغب في ان يشاركه الناس همومه ، لكنه يجد صعوبة في الانتقال من
الانغلاق الكامل الى الانفتاح ، من الحجب الثقيلة الى الستائر الخفيفة الشفافة .
وثمة من السياسيين من لايزال مسكونا بهاجس
الانكشاف امام الاعداء ، او انكشاف العيوب امام الاصدقاء ، فهو بين اقدام واحجام ،
يدفعه الى الصراحة رغبته في تخفيف اعبائه ، ويعيده الى محله خوف العواقب .
لكن
من ناحية اخرى فان اغلاق الابواب لايحل المشاكل ، وان أخر انكشافها ، كما ان فتح
الابواب لاياتي بالحلول السحرية ، انه وسيلة للتواصل بين اللاعبين وجمهورهم ، لجعل
الميدان اكثر الفة واكثر دفئا .
وهو
الى ذلك الوسيلة الوحيدة لجعل الجمهور سندا وعونا في المشكلات ، فضلا عن كونه
سبيلا لتمكين السياسيين من انفاذ اراداتهم ، واطلاق ايديهم في طريق النجاح .
نشر
في (اليوم) 29 مايو 1995
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق