في
ظرف الوفرة المالية الذي تعيشه دول الخليج اليوم ، يجب ان لا ننسى الظروف العسيرة
التي مررنا بها في النصف الثاني من الثمانينات ومعظم عقد التسعينات. لا نسمع اليوم
الشكاوى الكثيرة من البطالة التي كانت موضوعا يوميا للصحافة ومجالس المواطنين في
تلك الفترة ، كما اختفت اصوات التذمر من السياسات الحكومية والمحسوبيات وسوء
الادارة التي راجت يومئذ. ثبات المستويات العالية نسبيا لاسعار البترول وفر فرصة نادرة
لاختفاء الكثير من المشكلات الاقتصادية وغير الاقتصادية التي شهدناها قبل بضع
سنوات. يؤدي ارتفاع الدخل الوطني الى زيادة الاستثمار المحلي وتوفير فرص عمل جديدة
وتحسن مستوى المعيشة لعامة السكان .
ولعل كثيرا منا يتذكر ما حصل في منتصف
السبعينات حين شهدت المنطقة انقلابا اقتصاديا لم يسبق له مثيل في تاريخها كله.
وكان ذلك بفضل ارتفاع اسعار البترول بعد حرب رمضان 1973. في منتصف التسعينات اقترح
احد المحللين نموذجا دائريا لفهم الحراك الاقتصادي في المنطقة . ويربط هذا النموذج
بين الطلب على البترول والنشاط الاقتصادي في العالم ، لا سيما في الدول الصناعية ،
فانخفاض اسعار البترول يحفز النمو في هذه الدول ويؤدي الى رفع الطلب والاسعار ،
الامر الذي ينعكس ايجابيا على اقتصاديات الدول الخليجية المصدرة او المستفيدة .
لكن اذا تجاوزت الاسعار مستوى معينا فسوف يتراجع الطلب ومعه الدخل القومي للاقطار
المصدرة . اذا صح هذا النموذج ، فان على دول الخليج ان تستعد لهبوط في عائداتها
بعدما تتجاوز اسعار البترول حاجز الثمانين دولارا. اي ان تستعد في حقيقة الامر
لحقبة من العسر شبيهة بتلك التي عرفتها في السنوات الماضية. من المحتمل طبعا ان لا
يكون هذا التحليل صحيحا ، او لعل عوامل اضافية تدخل في السوق لم تكن متوقعة من قبل
، مثل النهوض الاقتصادي في الصين والهند الذي يرجع اليه جانب كبير من الانتعاش
الحالي في الاسواق.
لكن
ايا كان الامر ، فان تجربة العسر والانتعاش التي تكررت للمرة الثانية خلال اقل من
ثلاثة عقود توفر مبررا قويا لكل عاقل كي يتأمل ويخطط ويستعد لمختلف الاحتمالات. من
المحتمل ان تتكرر مرة اخرى نفس المشكلات التي عرفناها في السنوات الماضية ، ومن
المحتمل ان نواجه – بالاضافة اليها - مشكلات جديدة.
في سنوات العسر شهدنا بوادر
اولية لما يمكن وصفه بالاحباط ولا سيما بين الاجيال الجديدة ، وتجسدت هذه البوادر
في تأزم العلاقات الاسرية والاجتماعية وشيوع التطرف السياسي والديني ، وكان اخطر
تمظهراتها هو ارتفاع مؤشرات العنف. وعلى المستوى السياسي والاداري شهدنا شيوع
الفساد واستغلال النفوذ والمحسوبيات وظهور انواع من التحزبات والتحالفات التي تسعى
للاستئثار بالموارد العامة . وهذه كلها ظواهر يمكن ان توجد في ظرف الرخاء كما توجد
في ظرف العسر ، لكن اثرها اشد وقعا في ظروف العسر وندرة الموارد ، ولهذا فمن
الممكن ان تؤدي الى خلق احباطات ترتد على شكل تمرد فردي او جمعي .
ثمة
طرق كثيرة لاستثمار ظرف الوفرة في وضع اساس متين للوقاية من الانعكاسات السلبية
لظروف العسر. ويكفينا مراجعة الدراسات القيمة التي وضعها باحثون عرب واجانب خلال
العقود الثلاثة الماضية لمعرفة نقاط البداية ونقاط الاستهداف. ثمة اقتراحات اجمعت
عليها تلك الدراسات ، من بينها مثلا تنويع مصادر الدخل الوطني لتخفيف الاعتماد
المفرط على عائدات البترول الخام في تسيير معيشة الناس والدولة ، ومن بينها
التعجيل في التكامل الاقتصادي بين الدول العربية المتجاورة كي نضمن استفادة قصوى
من الاموال التي تنفق في كل بلد على حدة.
واريد الاشارة ايضا الى ضرورة التعريف
الدقيق للمرحلة الزمنية التي تمر بها المنطقة من الناحية التنموية ، واظن ان هذا
التعريف يجب ان يلحظ كون المنطقة في مرحلة انتقال بين التقاليد والحداثة ، اي بين
بداية النمو وبلوغ التنمية غاياتها. المقصود من تعريف كهذا هو تحديد قيمة السياسات
والبرامج التي تتبناها الحكومات ، وتحديد القيمة السياسية او الثقافية للتفاعل
الاجتماعي مع هذه السياسات . بديهي ان اعتبار الوضع انتقاليا يعني ان ما يجرى فيه
هو مجرد مرحلة وليس نهائيا ، وبالتالي فاننا ننظر الى قيمته من زاوية عملية بحتة.
وعندئذ فسوف ننظر الى المطالبات والنقد الموجه لهذه السياسات باعتباره تطلعا
مشروعا الى الافضل وليس مؤشرا على رفض قطعي لما هو قائم ، كما ننظر الى الاعتراضات
او حتى التمرد السياسي باعتباره ناتجا جانبيا للتغيير وليس موقفا نهائيا .
خلاصة
القول ان ظرف الرخاء هو فرصة للتوقي من الانعكاسات السلبية لظرف الشدة ، واظن ان
اي عاقل يستوعب حقيقة ان كلا الظرفين هو احتمال قائم لفترة قد تطول او تقصر وان
الاعداد لكل منهما ضرورة في جميع الاوقات.
الايام
12-9-2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق