فشلُ
الاسرائيليين في تحقيق
انتصار مدو على الجبهة اللبنانية ستكون له نتائج سياسية كبيرة الاهمية في
الجانب العربي، ابرزها
هو دخول القوى الشعبية كعامل فعال في الصراع
مع اسرائيل وفي اي
صراع قادم مع قوى اجنبية. صحيح
ان المقاومة الخلاقة التي جسدها
اللبنانيون لم تكن الاولى في تاريخ
العرب الحديث، لكنها تميزت على ما
سبقها بعوامل استثنائية، من
بينها مثلا: ان حزبا سياسيا اهليا
تحمل الجزء الاعظم من المسؤولية في هذا
الصراع واداره بكفاءة يحسده
عليها جنرالات الجيوش العربية.
في الثمانينات
وقبلها حذر باحثون عرب مما وصفوه بالانكشاف الاستراتيجي تجاه
الخارج. وتتلخص فكرة الانكشاف
في ان دولة أو امة ما
يجب ان تتمتع بقابلية لصد التدخلات الخارجية من خلال توفير
مجموعة من العوامل الضرورية للامن القومي، ويدخل
ضمنها كفاءة القوات المسلحة والاجماع الوطني وكفاءة
توفير مصادر العيش الضرورية في الاوقات
العادية واوقات الازمة. وأشار
معظم تلك البحوث الى ضرورة ردم الهوة التي تفصل
المجتمع عن الدولة كعامل حاسم في التعبئة
للحرب أو لمنع الحرب، لكن
ايا من اولئك الباحثين لم يتخيل
ان المجتمع يمكن ان
يقوم بالمهمة كاملة من دون الدولة. من
هذه الزاوية فان التجربة اللبنانية هي سابقة
في تاريخ العرب وثقافتهم
السياسية، واظن ان آثارها ستنعكس
ايضا على مجمل علاقات العرب الدولية.
من المرجح ان الولايات
المتحدة الامريكية او غيرها
سوف تتردد الان قبل اتخاذ قرار بفرض غاياتها
على العالم العربي، لا
سيما حين يتعلق الامر بفرض
الرؤية الاسرائيلية للسلام، خلافا
لما كان عليه الامر منذ منتصف العقد السابق، حين
جرت عادة السياسيين الامريكيين على لعب دور المراسل الدبلوماسي
لحكومة اسرائيل بدل دور الوسيط الذي
يملك اوراق الحل كما كان يقول
الرئيس السابق انور السادات.
من الناحية النظرية البحتة
فانه لا توجد دولة عربية مكشوفة بقدر لبنان، عدا
عن التركيبة الطائفية للنظام التي تحول
بذاتها دون تحقيق اجماع وطني على
الخيارات الاستراتيجية، فان
صراعات القوى المشاركة في المشهد
السياسي الداخلي
هي بصورة
أو باخرى انعكاسات لصراعات في الخارج،
الجيش اللبناني هو
اقرب ما يكون الى قوات احتياط
للشرطة منه الى شبيه لما عند الدول المحاذية، لكن
مع ذلك فان لبنان هزم اسرائيل مرتين، وجاءت
الهزيمة الثانية استثنائية بمقاييس عديدة.
لا شك ان الموقف العربي
اصبح اليوم اكثر قوة، فالمساهمة
الشعبية في اي
صراع مع الخارج تعطي للمفاوضين
والدبلوماسيين اوراقا اضافية مهمة. نتذكر
مثلا ما نقله الاستاذ هيكل عن لقاء رئيس الوزراء فؤاد السنيورة مع وزيرة الخارجية
الامريكية، فقد قال لها:
ببساطة انه سيستقيل اذا فرضت واشنطن تصورها للحل على لبنان.
ومعنى استقالة الحكومة، هو
تحول حزب الله الى شبه حكومة ومفاوض وحيد، وهذا
أسوأ كابوس يمكن ان تتخيله رايس
واصدقاؤها، الخوف من مواجهة هذا
الخيار هو الذي حمل واشنطن وباريس
وبالطبع تل ابيب على تليين موقفها واتخاذ قرار في مجلس
الامن يختلف جوهريا عن
المشروع الاصلي الذي
دعمته فرنسا والولايات المتحدة، وحتى
بعد وقف اطلاق النار، فمن
الواضح لاسرائيل وغيرها ان لبنان ليس بالارض الرخوة التي يمكن
لهم ان يفرضوا فيها ما شاؤوا،
وقد بدا هذا جليا في تراجع
فرنسا عن القيام بدور محوري في
القوات الدولية المنتظر نشرها في الجنوب،
اضافة الى تراجع الدعوات المتشددة التي
كانت تصر على تجريد سلاح المقاومة قبل انسحاب اسرائيل.
ما فعله حزب الله اذن كان بالنسبة
للدول العربية رمية من غير
رام، فقد اعطاها ما لم تحلم به
طوال العقدين الماضيين. وجدير
بالدول العربية جميعا ان تعزز اليوم هذا المكسب باطلاق حملة واسعة رسمية وشعبية
لاعادة بناء البيوت والمرافق العامة التي دمرت،
وعلاج الجرحى، والتعويض
عن مصادر الرزق التي خسرها
اصحابها، هذه بلاشك مهمة مكلفة،
لكنها ممكنة بتظافر الجهد الاهلي والرسمي.
اعلن حزب الله انه سيقوم من
جانبه بهذه المهمة، واذا
بدأ فيها بنفس الدرجة من التجرد والاخلاص والجدية التي رأيناها
خلال الحرب، فسيكون هذا اضافة
عظيمة الى دوره كلاعب محوري في
الساحة اللبنانية، وربما
يتحول الى انموذج للعمل الاهلي في
بقية الدول العربية، نعلم
ان هذا ليس من الاحتمالات المريحة للكثير من الحكومات العربية.
ومن الافضل لها اذن ان تبادر للمساهمة في
هذا الجهد كي تعوض
ما فات وكي تعزز موقفها السياسي
امام شعوبها وامام العالم.
اغلى الامنيات ان نرى قادة
الدولة وممثلي المجتمع الاهلي
يدا واحدة في الحرب
والسلم، فاذا فات الاول فلا
ينبغي ان
يفوت الثاني، خاصة
وانه خال من بواعث القلق الذي عبرت
عنه الحكومات العربية اثناء الحرب، ويجب
ان يشعر القادة العرب بقلق جدي
فيما لو واصلوا موقف المتفرج بينما
يعيد اللبنانيون بناء ما دمره اعداء العرب جميعا،
فمثل هذا الموقف سيوجد ارضية ذهنية وربما اجتماعية لتبلور
نماذج مثل نموذج حزب الله، اي
قوة اهلية تأخذ المبادرة ولا تنتظر رأي
الحاكم.
- 22 / 8 / 2006م -
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق