01/03/2023

عودة لمبدأ الضرر

<<تقييد حرية التعبير يؤدي الى إشاعة النفاق والتملق ، والقضاء على التلقائية التي هي سمة المجتمعات النشطة والناهضة >> 

هذه عودة مختصرة الى مسألة يكثر الكلام حولها. وهي دعوى ان حرية التعبير التي ينادي بها بعض دعاة الحداثة ، ربما تؤدي لضرر شديد بالتقاليد السارية والقيم الفاضلة ، بل لعلها تطيح بالاستقرار والسلم الاجتماعي. اعلم ان بعض القراء سوف يستنكر هذه المبالغة ، لهذا يقتضي الانصاف بيان ان الخائفين من عواقب الحرية ، أي حرية التفكير والتعبير والاعتقاد ، لا ينادون بقمع الأفكار ، ولا يعتبرون الحرية - في حد ذاتها – من الرذائل. لكنهم يقولون ان كل ما يحتمل الحسن والقبح ، يوجب الاحتياط في التعامل معه ، مثل النار التي تستعملها لطبخ طعامك ، لكنها قد تحرق البيت أيضا.

ومقتضى هذا الكلام انه يتوجب علينا – قبل منح الحرية لعامة الناس – أن نضع القوانين والسياسات التي تعالج ما سوف يترتب عليها من مشكلات. والمقصود بالقوانين هنا هو تحديد المجالات التي يسمح او لا يسمح بممارسة الحرية ضمن حدودها.

بعبارة أخرى فان الخائفين من الحرية ، وهم في العادة الفريق التقليدي في المجتمع ، يتفقون مع دعاتها في ان حرية التعبير خصوصا ، يجب ان لا تقود الى الاضرار بشخص آخر او أشخاص آخرين. بعبارة أخرى فانهم يعطونك الحق في ممارسة حريتك في التعبير ، لكن ليس الى حد الاضرار بغيرك ، كما ان لغيرك نفس الحق مشروطا بأن لا يضرك.

كنت قد اشرت في كتابة سابقة الى ان هذي المسألة تحديدا كانت محل جدل في اوربا في منتصف القرن التاسع عشر. وعلى خلفية هذا الجدل نشر الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل رسالته الشهيرة "حول الحرية =  On Liberty" في 1859. وقد أدى نشرها الى توسيع الجدل وتعميقه ، لكنها في نهاية المطاف ساهمت في إرساء نقاط استناد او محددات للنقاش في الموضوع. ومن أبرز تلك النقاط أولوية الحرية على غيرها من القيم ، واعتبارها حقا شخصيا لكل فرد ، لا يجوز للمجتمع تقييده الا إذا أدت ممارستها للاضرار بالآخرين ، ضررا موصوفا ومعرفا في اطار القانون.

وقد أثارت هذه القاعدة نقاشا كثيرا. وأطلق عليها اسم "مبدأ ميل" او "مبدأ الضرر  Harm Principle". في اطار هذا المبدأ ، صنف ميل الأفعال/التعبيرات المضرة الى قسمين: فعل تقتصر أضراره على نفس الفاعل ، مثل التدين او الالحاد ، العمل او البطالة ، التدخين او عدمه.  فهذه التعبيرات/الافعال وامثالها ، قد تزعج الناس ، لكن ضررها المادي لا يطال أحدا سوى فاعلها. اما القسم الثاني فهو ضار بالآخرين ضررا ملحوظا ، مثل الكلام المؤدي لاثارة الكراهية ضد الملونين او اتباع الاديان الأخرى ، او مثل الإشارات النابية التي تنطوي على إيذاء نفسي او اقصاء اجتماعي ، مما يصنف تحت عنوان التنمر او التحرش. وقد قرر ميل ان القسم الأول من الأفعال لا يبرر للمجتمع ردع الفاعل أو تقييد حريته ، حتى لو كان فعله متعارضا مع اعراف الجماعة او تقاليدها. أما النوع الثاني فينبغي تحديده في قواعد قانونية ، تسمح بتقييده ، لكن دون ان يصل التقييد الى حد التضحية بحق الفرد في أن يفكر بحرية او يختار نمط العيش الذي يناسبه.

يخشى ميل بشكل جدي ، من ان يؤدي التوسع في تقييد حرية التعبير الى إشاعة النفاق والتملق ، والقضاء على التلقائية التي هي سمة المجتمعات النشطة والناهضة. كلما كثرت القيود في المجتمع تقلصت سوق الأفكار ، وتباطأت الحركة ، وضعفت – تبعا لذلك – الرغبة في التقدم. الحرية ليست قيمة بسيطة كي نتساهل في تقييدها لأي سبب ، فهي أول القيم واعلاها وهي اكثرها ضرورة لحياة الانسان.

الشرق الأوسط الأربعاء - 8 شعبان 1444 هـ - 01 مارس 2023 مـ رقم العدد [16164]

https://aawsat.com/node/4185661

مقالات ذات صلة

 

ان تكون عبدا لغيرك

تحكيم القانون وليس التعويل على الاخلاق

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية

حدود الحرية .. حدود القانون

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات -دراسة موسعة 

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها القانون

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي...

الحرية بوصفها مشكلة

الحرية بين مفهومين

الحرية عند أهل الفقه

الحرية والانفلات

الحرية والشر

 الحرية والنظام العام

الحرية وحدودها القانونية

حزب الملاقيف

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم

الخبز الحافي والحرية المستحيلة

دعاة الحرية وأعداء الحرية

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

العلاقة الجدلية بين الحرية ورضا العامة

عن الحرية والاغـتراب

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟

مجتمع الاحرار

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية

مجتمع الخاطئين

مجتمع العبيد

معنى ان تكون حرا ، اراء قديمة وجديدة

من يتحدث حول الحرية.. وماذا يقول ؟

منهجان في فهم الحرية

15/02/2023

درس الكارثة: نظام عربي للاستحابة العاجلة


غرضي في هذه الكتابة هو لفت الانظار الى حاجتنا لاتخاذ كارثة الزلزال في سوريا وتركيا ، باعثا لانشاء نظام عربي مشترك ، للتعامل مع الكوارث الطبيعية والمآسي العامة. هذه تجربة يجدر بنا ان نتعلم فيها كيف نتفادى الخسائر وكيف نحولها الى فرص. لقد خسرنا في هذا الزلزال ما يزيد عن 30 الفا من اخوتنا. فياويلنا ان مررنا بمصيبة كهذه فلم نتوقف ولم نعتبر.

أهم ما أثار انتباهي في هذا الحادث هو الاداء الضعيف للحكومة السورية ، التي ظهر انها ما كانت مستعدة للتعامل مع كارثة بهذا الحجم ، بل ولا حتى اقل من هذه. أعلم ان سوريا لم تتعرض لزلزال من قبل ، ولهذا فقد لا تهتم بالاستعداد له. لكن الم تفكر في "احتمال" ان يقع شيء مماثل: زلزال او عواصف عاتية او حرائق واسعة او حتى انفجارات شبيهة بما جرى في ميناء بيروت في 2020؟.

دعنا ننظر ما حدث على الجانب الآخر من الحدود: الفعالية الملفتة للحكومة التركية ليست فقط ثمرة الامكانات المادية المتوفرة ، بل ايضا انفتاحها على العالم ، وتواضع ادارتها التي بادرت بالاتصال مع كافة الحكومات والمنظمات الدولية لطلب العون ، ولهذا وصلتها فرق بحث وانقاذ من 70 دولة كما صرح رسميا ، بينما انصرفت سوريا الى العزاء على الضحايا ، فهل يعيد العزاء ميتا او يعالج مشكلة؟. الم يكن الخيار الصحيح هو المبادرة بالاتصال بكافة الدول العربية ودول العالم - حتى التي تقاطعها - لطلب العون ، بل الم تكن هذ فرصة لاعادة ما انقطع من حبال الوصل؟. كيف يمكن لحكومة ان تحافظ على حياة شعبها وهي بهذا القدر من الفتور والتردد؟.

يقال عادة – في سياق التبرير للاخفاق – ان القوى الكبرى والاعلام العالمي احتشد وراء الحكومة التركية واهمل دمشق. وهذا صحيح ، لكنه نتيجة وليس سببا. هل كانت دمشق تدرك أهمية الاعلام ومع ذلك لم تبادر بدعوة وسائل الاعلام العربية والدولية كي تدعم جهودها. بيروت على بعد ساعة من دمشق ، وفيها مئات من مراسلي الاعلام الدولي ، فهل كان صعبا عليها ان تقنعهم بالمجيء في ساعات الحدث الأولى؟.

الغرض من هذا الكلام هو التأكيد على ما ذكرته في اول المقال ، أي أهمية ان تكون هذه الكارثة درسا وعبرة ، للسوريين وللعرب كافة ، بل لكل ذي عقل فالسعيد "من اتعظ بتجارب غيره" كما ورد في الأثر الشريف.

اول الدروس التي تستفاد من هذه الكارثة هو ان العالم العربي في امس الحاجة الى إنشاء نظام مشترك للاستجابة السريعة في حالات الكوارث ، نظام يتضمن قوة بشرية مدربة على التعامل مع الطواريء المختلفة ، طواقم طبية مدربة خصيصا على احتواء التحديات الميدانية ، سيما في ظروف ندرة الامدادات الطبية ، خطط للتعبئة والانتشار السريع ، إضافة الى مخزون للامدادات او نظام فعال لسحب الامدادات من السوق فور وقوع الكارثة.

اعلم ان الكوارث لا تقع كل يوم ، لكن وضع النظام المذكور سيمكن العالم العربي من دعم الشعوب الأخرى التي تواجه الكوارث. هذا سيمثل تمرينا فعليا ، فوق انه يشكل أداة مهمة لتحسين العلاقة مع شعوب العالم ، ويسهم بالتالي في تعزيز الأمن القومي.

يهمني في ختام هذه الكتابة دعوة الأمين العام للجامعة العربية ، وجمعيات الهلال الأحمر العربية لاخذ المبادرة ، بالدعوة الى انشاء النظام الذي ذكرته ، ووضع الخطط اللازمة لجعله قوة فعالة وقادرة على احتواء التحديات والتعامل مع الكوارث ، مع الدعاء بان يكون الله في عون المكلومين واهل الضحايا وان يعوضهم خيرا عما فاتهم وأن يصون اوطاننا من الشرور والاخطار صغيرها وكبيرها.

الأربعاء - 24 رجب 1444 هـ - 15 فبراير 2023 مـ رقم العدد [16150]

https://aawsat.com/home/article/4158776/

مقالات ذات صلة

هذه خرافة وليست عقاب الله

حرب تلد حلاً

عالم يتداعى ، لكننا بحاجة اليه

التجديد السياسي في الخليج : الفرص والصعوبات

اجتياح الحدود

 

01/02/2023

العلاج الجذري لفتن العنصريين


حرق وتمزيق المصحف الشريف على يد بضعة متعصبين في هولندا والسويد ، أثار غضب المسلمين وربما غيرهم أيضا.

هذا موضوع مثير للمشاعر بطبعه. وقراءته من أي زاوية سوى التنديد الصريح ، ستكون – على الأرجح – مثار ارتياب او غضب ، يحركه البعد العاطفي للموضوع. مع علمي بهذا ، فاني اجد لزاما علينا ان نتوقف للتأمل في جوانب المسألة ، التي ربما لم يلتفت اليها بعضنا ، او لعله لم يعتبرها ذات قيمة حين طرحت.

على سطح الحدث حجتان واضحتان: يقول المسلمون ان حرق المصحف مهين لمشاعر المسلمين ، وهو بمثابة العدوان الشخصي على كل فرد. بينما يقول الطرف الآخر (الهولندي والسويدي) ان هذا الفعل يصنف في اطار ممارسة الحق الشخصي في التعبير الحر عن الرأي ، وهو لا يخرق قانونا معلنا ، رغم ان كثيرا من الناس – وفيهم بعض قادة الدولة طبعا – قد نددوا به. ولابد انهم يخشون من اختلالات أمنية ربما تترتب عليه ، نظير ما حصل في فرنسا بعد نشر رسوم مسيئة للنبي محمد (ص) في 2006.

بعبارة أخرى فان حجة المسلمين تقوم على دليل معياري ، فحواه أن إهانة المقدسات ضرر يبرر تقييد الحرية. ويقر الطرف الآخر بهذه الحجة ، لكنه لا يراها قوية بما يكفي لوضع قانون استباقي يجرم المحاولات المماثلة.

بيان ذلك: ان تمزيق المصحف أو أي كتاب مقدس ، على النحو الذي جرى في الأسبوع الماضي ، ليس حادثا يقع باستمرار او بشكل واحد ، ولا هو ممارسة يقوم بها كثير من الناس. انه اقرب الى مبادرات فردية نادرة ، غرضها على وجه الخصوص هو تحريك المشاعر المضادة عند المهاجرين ، ثم صنع زوبعة إعلامية ، تخدم أغراضا سياسية للشخص او الجماعة التي قامت بالفعل.  ومن هنا فانها لا تعالج بإصدار المزيد من القوانين ، التي ستؤدي – شئنا ام ابينا – الى توسيع القيود ، بل بالمبادرات السياسية والثقافية.

المبادرات السياسية تتضمن التزام كافة اطراف المشهد السياسي وجمعيات المجتمع المدني ، بإدانة هذا الفعل ، والتنديد باستخدام المقدسات في الصراع السياسي والانتخابي. اما المبادرات الثقافية فتتضمن تعزيز اندماج المهاجرين (وخاصة المسلمين) في النظام الاجتماعي ، والتزامهم بالمشاركة القوية في الانتخابات العامة ، كي يكون لهم صوت مؤثر ينتفع به الصديق ويخشاه العدو.

ان تجربة المهاجرين الآسيويين والافارقة في بريطانيا ، جديرة بالتأمل. نعلم ان ريشي سوناك رئيس الحكومة الحالي ينتمي لعائلة هندية مهاجرة. وخلال السنوات العشر الماضية ، تولى مهاجرون عديدون مناصب سياسية ، وبينهم نسبة بارزة من المسلمين. ولم يكن هذا ممكنا لولا الاندماج المتزايد للمهاجرين في النظام الاجتماعي-السياسي للمملكة المتحدة.

يمكن بالتأكيد تكرار هذه التجربة في السويد وهولندا. وقد حدث بالفعل في وقت سابق ، حين تولى وزارتي العدل والعمل في هولندا سياسيان مسلمان ، كما تولت سيدة مسلمة وزارة التعليم في السويد. فضلا عن مناصب أخرى.

زبدة القول ان حرق المصحف او تمزيقه ، فتنة أريد بها تأجيج الصراع بين المهاجرين المسلمين والمجتمعات التي تستضيفهم. وهو صراع يستثمره بأكمله تقريبا التيار العنصري المعادي للمهاجرين. فاذا انزلق المسلمون في نزاع عنيف فسيخدمون اهداف هذا التيار. لكن لو أرادوا اجتثاث هذه الفتنة وقتلها الى الأبد ، فان الطريق هو الاندماج السياسي والاجتماعي ، وتكوين كتلة سياسية مؤثرة في الحياة العامة. عندئذ سوف يسعى كل طرف للتقرب منهم والدفاع عن مطالبهم. لن يستفيد المسلمون من اعتزال المجتمع الأوروبي ، ومن يدعوهم الى هذا ، فانما يدفعهم الى الزوال والفناء. تجربة بريطانيا جديرة بالتأمل والاحتذاء ، والسعيد من اتعظ بتجارب غيره.

الأربعاء - 10 رجب 1444 هـ - 01 فبراير 2023 مـ رقم العدد [16136]

 https://aawsat.com/home/article/

مقالات ذات صلة

 

 

25/01/2023

كيف تعمل الثقافة الكسولة


تعرضت في مقال الأسبوع الماضي لما ظننته دورا محوريا للثقافة العامة في تحفيز النهوض الاقتصادي او تثبيطه. وأشرت باختصار لرؤية اثنين من الاقتصاديين المعروفين على المستوى العالمي. لكن بدا لي في الأيام التالية لنشر المقال ان بعض القراء صرفوا هذه الرؤية الى معنى معاكس ، مع انه يبدو – في الظاهر - موافقا لها. وقد ذكرني استاذنا د. محمد الرميحي بمقالة سابقة له ، عالجت ذات المسألة من زاوية أوسع. والدكتور الرميحي مفكر سياسي معروف ، واعتبره أبرز الخبراء في قضايا السياسة والتنمية في الخليج العربي.

تحدث الرميحي عن السمات البارزة للبيئة الاجتماعية المثبطة للنهضة ، والعوامل التي تسببت في التعثر او النكوص مرة بعد أخرى ، وهي جميعا ذات صلة بالثقافة السائدة. ويهمني في هذه الكتابة العامل المذكور أعلاه ، أي التصريف الأيديولوجي للمشكلات ، على النحو الذي ظهر في نقاشات الأسبوع الماضي.

والمقصود بالتصريف الأيديولوجي هو تفسير ظواهر اجتماعية او تاريخية بناء على قربها او بعدها عن مقولات أيديولوجية معينة ، او ارجاعها الى التفسيرات الخاصة بتلك الأيديولوجيا. هذا يتضمن – بالضرورة – اغفال العوامل المساهمة فعليا في تكوين تلك الظواهر وتفسيرها العلمي.

من ذلك مثلا ما وصفه د. الرميحي بالغلو الاقتصادي ، أي التفسير الماركسي الذي يرجع كل حراك حيوي الى عوامل اقتصادية ، بما فيها الثقافة السائدة ومنظومات القيم والعلاقات الداخلية ، بل حتى الفكر المدرسي والآداب والفنون ، التي اعتبرها الماركسيون واجهة خارجية للبنية التحتية للنظام الاجتماعي ، أي الاقتصاد السياسي وأنماط الإنتاج. يقول الرميحي ان هذا التصريف قد حول الفكر الى نوع من ميكانيكية اقتصادية ، بدل ان يعرف كنشاط حيوي قادر على ان يكون مستقلا ، وبالتالي ناقدا للوضع الراهن ومشيرا الى المستقبل.

وشبيه للغلو الاقتصادي ، لاحظ الرميحي ما وصفه بالغلو السياسي في التيار القومي ، الذي اعتبر الوحدة العربية شرطا وحيدا او أساسيا لنجاح التنمية الاقتصادية ، ثم اغفل أي عامل لتحقيق الوحدة غير التغيير في النخب السياسية ، أي انه اعتبر هذا التغيير تمهيدا ضمنيا لتحقيق التنمية. وقد رأينا في التجارب العربية كثرة التحولات في النخب ، بشكل طبيعي او قسري ، وكيف ان هذه التحولات افضت الى المزيد من الشقاق والفشل ، بدل الوحدة او النمو. نعلم بطبيعة الحال ان المدافعين عن الرؤية القومية سيشترطون نوعا خاصا من التغيير ، لكن هذا اقرب الى "شرط يوتوبي" منه الى مطالعة واقعية في التحولات الاجتماعية والسياسية التي يعرفها عالم اليوم.

ويقال الشيء نفسه عن تفسير التيار الديني لمشكلات التخلف السياسي والاجتماعي ، التي اعتبرها انعكاسا للبعد عن الدين الحنيف. وبناء عليه اعتبر تحكيم للشريعة حلا حاسما وفوريا لتلك المشكلات. ونذكر جميعا شعار "الإسلام هو الحل" الذي رفعه التيار الديني في مصر والسودان. ثم راينا مصائر الحل السوداني في الفترة بين 1989 -2019 ، فضلا عما جرى في أفغانستان وايران ، مما لا يخفى على اللبيب.

حشر الحياة في عباءة الاقتصاد عند الماركسيين ، مثل ربط القوميين للتنمية بالوحدة العربية ، وربط الإسلاميين للنهضة بالعودة الى الدين الحنيف ، كلها تصريفات أيديولوجية ، بمعنى انها تنطوي على اغفال للوقائع القائمة وإلغاء لدور العلم الوصفي والتفسيري ، واحالة الواقع بقضه وقضيضه الى صندوق المحفوظات. في هذا الصندوق لا توجد حلول بل قوالب وعباءات ، قادرة على تأطير كل شيء وتغطية كل شيء ، لكنها ليست قادرة على علاج شيء.

علاج المشكلات كلها ، صغيرها وكبيرها ، يبدأ بفهم الواقع واستعمال العلم في تفسيره والبحث عن علاجاته. وقد رأينا ان أولى مشكلاتنا ، بل ربما اخطرها هو هذه الثقافة الكسيحة ، التي تميل بشدة للتفسيرات الجاهزة والمعلبة ، بدل التفكير المتأني واستعمال مناهج العلم في فهم الواقع ومآلاته وعلاجاته. 

الأربعاء - 3 رجب 1444 هـ - 25 يناير 2023 مـ رقم العدد [16129]

https://aawsat.com/node/4117641/

مقالات ذات صلة

ابعد من فيلم الجني ومن لبسه
اختيار التقدم
الجـن سيــد العالم
الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟
حين تكره الدنيا: طريق البشر من الخرافة الى العلم
السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا
شرطة من دون شهوات
المدينة الفاضلة
هذه خرافة وليست عقاب الله
هيروهيتو ام عصا موسى؟
الوحدة الاوربية "آية" من آيات الله
 

18/01/2023

الثقافة المعوقة للنهضة


" نجم الثاقب خان" اسم معروف في حقل اقتصاديات الدول النامية. وهو ينتمي لتيار صغير من الباحثين الذين اختاروا منهجا مغايرا لنظرية التنمية الكلاسيكية ، السائدة في الاكاديميا وقطاع الاعمال. يركز هذا التيار على فهم العوامل التي أعاقت التنمية في العالم الثالث ، رغم توفر العوامل المصنفة كمقدمات ضرورية للنجاح. بين الأسماء الأخرى ضمن هذا التيار ، نعرف مثلا امارتيا سن ، الفيلسوف والاقتصادي الهندي الذي حاز جائزة نوبل ، والمفكر البيروفي هيرناندو دي سوتو ، الذي بات واحدا من أكثر الكتاب الاقتصاديين تأثيرا في السنوات الأخيرة.

يشترك العلماء الثلاثة في دعوى محورية ، خلاصتها ان الموارد المادية التي تركز عليها نظرية التنمية الكلاسيكية ، متوفرة في كل بلد تقريبا. لكن المتغير المهم هو تعريف هذه الموارد ، ثم موضعتها في المكان الصحيح ، إضافة - بالطبع – الى العلاقة الصحيحة بينها وبين البشر ، الذين يشكلون أداة التنمية وهدفها. وهم يرون ان هذا المتغير متصل بالثقافة العامة السائدة في المجتمع ، ما اذا كانت ثقافة محفزة للنهضة او معيقا.

هيرناندو دي سوتو

في كتابه الشهير "سر راس المال: لماذا تنتصر الراسمالية في الغرب وتفشل في كل مكان آخر" شرح دي سوتو ابرز الأسباب التي تفسر اخفاق النموذج الراسمالي في البلدان النامية. ولايضاح الأرضية المادية لرؤيته ، قدم مراجعة لحالة الملكية الفردية في خمس دول ، بينها الفلبين ومصر وبيرو ، كي يبرهن على استنتاجه المحوري ، وهو ان معظم السكان في هذه البلدان وامثالها ، لديهم حيازات عقارية ، لكنهم لا يملكونها بشكل قانوني ، ولهذا فان استثمارها على المدى البعيد غير آمن ، كما انهم – في غالب الأحيان – لا يستطيعون توريثها. وبالتالي فان ابناءهم لا يعملون معهم ولا يسعون لتطوير هذه الملكية. اما السبب فيعود في رايه الى الثقافة البائسة التي لا تثق في الفرد ولا تسهل عليه امتلاك ما يقوم باحيائه. وجد دي سوتو ، ان الدولة - في البلدان التي درسها - تنظر لنفسها كمالك خاص ، لا كموزع للثروة العامة ومشرف على احياء الميت منها. ومن هنا فان الحيازات الفردية غير المثبتة قانونيا ، لا تمسي أساسا لاستثمار طويل الأمد ، كما ان البنوك لا تقبلها ضمانا للتمويل الضروري للاستثمار ، انها – وفق تعبير دي سوتو – راسمال ميت. راس المال الميت لا يساهم في نهضة اقتصادية. واذا توفرت أموال سائلة فسوف تذهب لقنوات الربح السريع وليس للزراعة او الصناعة او الحرف اليدوية.

يقول نجم الثاقب خان ، في سياق استعراضه لكتاب دي سوتو ان المال ليس قليل الأهمية ، ولا يمكن للثقافة ان تكون بديلا مطلقا عنه ، هذا وجه للقصة. اما الوجه الآخر ، فهو ان المال ليس حلا مطلقا ونهائيا لمشكلة التخلف والفقر. ثمة حاجة للربط بين الموارد المادية وبين الانسان الذي يستعملها. وهذا الرابط ثقافي. المجتمعات التي تنظر للافراد كقوة انتاج رئيسية وموثوقة ، ستميل الى تسهيل تملك الأراضي ، باعتبارها مصدرا لصناعة الثروة.  المجتمعات الفاشلة هي تلك التي تسودها ثقافة تشجع التواكل ، أو تسمح بتضخم الذات وترفض التعلم من الاخر المختلف.

ثم يستنتج بان من خطل الرأي ان نسعى لتكرار التجارب الفاشلة ، التي اختبرتها مجتمعات أخرى قبلنا ، او اغفال الدروس الواضحة لتلك التجارب. وأولها توهم أن مقاومة التغيير سوف تنجح ، او انها ستعود علينا بأي فائدة. كما لن نستفيد أبدا من تلبس دور الضحية ، والانشغال بالبحث عن مؤامرات الأقوياء ، إضافة الى توهم العثور على دواء بسيط يشفي كل الامراض. الصحيح هو ان نبدأ بما عندنا ، وان نتجنب تكرار التجارب الفاشلة ، ثم ان الرهان المطلق ينبغي ان يكون على بناء الانسان المنتج المتفائل ، الانسان الواثق من المستقبل.

الأربعاء - 25 جمادى الآخرة 1444 هـ - 18 يناير 2023 مـ رقم العدد [16122]

https://aawsat.com/home/article/4104026/

  مقالات ذات علاقة

 "عجلة التنمية" المتعثرة 

ارامكو واخواتها : الشفافية الضرورية في قطاع الاعمال

التنمية على الطريقة الصينية : حريات اجتماعية من دون سياسة

حول برنامج التحول الوطني

خطباء وعلماء وحدادون

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

ظرف الرفاهية واختصار الكلفة السياسية للاصلاح

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

 العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العلاقة الاشكالية بين السوق والسياسة

العولمة فرصة ام فخ ؟

قرش الخليج الابيض

كي نتحول الى دولة صناعية

كي نتخلص من البطالة

متى تملك بيتك؟

المجتمع السري

معالجة الفقر على الطريقة الصينية

من دولة الغلبة الىمجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

نحو نماذج محلية للتنمية

النموذج الصيني في التنمية

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟

11/01/2023

نقاشات بلا فائدة


لا أرى فرصة للنقاش المفيد بين المدافعين عن النسخة التقليدية من الدين وبين دعاة التنوير/الحداثة. ينتمي كل من الفريقين الى نظام معرفي وقيمي ، مختلف تماما عن الآخر. يتمثل دعاة التنوير روح العصر وفلسفته ، وينفتحون على مصادر المعرفة فيه ، بل ربما وضعها بعضهم في مرتبة مساوية لمرتبة الوحي ، لأن العقل عندهم مصدر مستقل للقيم والتشريع. يعتقد هؤلاء ان المهمة الكبرى للاسلام المعاصر ، هي تقديم نموذج ايماني قادر على استيعاب حاجات الزمان وتحدياته ، نموذج قابل للحوار والتفاهم مع التيارات الروحية والايديولوجيات السائدة في عالم اليوم.

خلافا لهذا فان الفريق التقليدي يرفض كليا فكرة المساواة بين العقل والقرآن في التشريع وإنتاج القيم ، ويعطي المكانة الثانية للسنة النبوية. مكان العقل – عندهم - هو خدمة الكتاب والسنة ، ليس موازيا لهما ولا مستقلا عنهما. أما المهمة الكبرى للمجتمع الإسلامي المعاصر ، فهي حماية أبنائه من تأثير الحضارة الغربية الغالبة. هذا المنظور الدفاعي انعكس على شريحة واسعة جدا من النتاج الفكري والفقهي لهذا الفريق ، فبات ميالا بشدة الى التبرير والدفاع ، بدل النقد الذاتي الضروري للتطور.

هذه المنطلقات تعني ان كلا من الفريقين يفكر بطريقة مختلفة ، ويتحدث بلغة لا يمكن للفريق الآخر ان يتقبلها ، لأنها تعارض ما يعتبره بديهيا من بديهيات منهجه. الحقيقة ان الطرفين لا يديران نقاشا معمقا في المباديء الرئيسية والارضية الفلسفية التي يقف عليها كل منهما ، نقاش ربما أثمر عن تعديل في رؤيتهما العامة. تبدأ النقاشات دائما في التفاصيل والفروع ، وقد تصل الى المباديء العامة ، لكنها في الغالب تواصل الدوران حول الفروع.

تجري الأمور عادة على النحو التالي: يطرح التنويريون/الحداثيون فكرة صادمة للعرف السائد ، مثل تشكيك المرحوم د. محمد شحرور في مشروعية تعدد الزوجات وتفسيره الجديد لآيات الإرث. وكلا الفكرتين تعارض حديا الموروث الديني ، بما فيه أحاديث تنسب للنبي ، واجتهادات كبار الفقهاء ، من قدامى ومحدثين.

ردا على هذا ، يقدم المدافعون عن الموروث الديني مرافعات تعيد التذكير بأصول فكرتهم ، وتنفي سلامة الاجتهادات المذكورة ، كما تشكك في أهلية صاحب الفكرة للاستدلال والتوصل الى احكام أو حقائق شرعية.

لا تناقش هذه الردود أدلة التنويريين ، بل تستعين بنفس الأدلة التي سبق استعمالها في دعم الرؤية الموروثة. لكن التنويريين يعرفون هذه الرؤية وقد رفضوها سلفا. وهكذا نجد أنفسنا امام الحالة التي تسمى أحيانا حوار الطرشان: كلا الطرفين يطرح أدلة يرفضها الثاني من حيث المبدأ ، فلا يناقشها. فكان الطرفين يتحدثان في عالمين مختلفين ، لا احد منهما يسمع قول الآخر.

الواقع اننا نتحدث فعلا عن عالمين فكريين متمايزين ، لكل منهما ارضيته ومبرراته الفلسفية ومنطلقاته وفرضياته وأدوات نقده ، وهو مختلف تماما عن العالم الآخر. ولهذا لا توجد قاعدة معيارية واحدة او ميزان علمي مشترك ، يمكن الاعتماد عليه في الموازنة بين الرأيين أو أدلتهما. هذه يشبه المقارنة بين قصيدة عربية وأخرى انجليزية... هل تراه ممكنا؟. بالطبع لا ، لأن القصيدتين تنتميان الى عالمين مختلفين في الصور والتعبيرات والسياق ، بحيث لا نستطيع القول ان هذه افضل من تلك او اجمل او اصح.

-         هل ينبغي ان نأسف لاستحالة اطلاق حوار  يؤدي الى توحيد التيارين ، او تقليل الخلافات بينهما؟.

في رأيي ان الأمر لا يستدعي الأسف. من المفيد ان ننظر للجانب الحسن في الجدالات الساخنة. ان محاولة كل من الطرفين فرض رأيه ، سوف تدفع الطرف الآخر الى تقوية استدلالاته وتعميق الأفكار المطروحة للنقاش. لو سكت الجميع حفظا لوحدة الموقف ، فسوف لن يستفيد أحد. المناقشة هي التي تولد رؤى جديدة ، تعلم الناس وتوسع آفاق المعرفة.

الأربعاء - 18 جمادى الآخرة 1444 هـ - 11 يناير 2023 مـ رقم العدد [16115]

https://aawsat.com/home/article/4091671/

مقالات ذات علاقة

 

 الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

جدالات ما بعد شحرور

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

الحداثة تجديد الحياة

الحداثة كحاجة دينية

 الحداثة كحاجة دينية (النص الكامل للكتاب)

حول الفصل بين الدين والعلم

حول المسافة بين الدين والمؤمنين

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دور الراي العام في التشريع

سؤال الى البابا

في ذكرى محمد شحرور- اسئلة اليوم غير اسئلة الامس

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

كيف نتقدم.. سؤال المليون

ما الذي يجعل محمد شحرور مختلفا وبغيضا أيضا

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

المعنوية ، حيث تلتقي جميع الرسالات

المكنسة وما بعدها

من المناكفة الى النهضة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

النقد الأخلاقي للتراث: مجادلة أولى

هكذا تحدث محمد شحرور

هيروهيتو ام عصا موسى؟

الوحدة الاوربية "آية" من آيات الله

 


اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...