26/12/2010

الوطن هو الناس وليس الجغرافيا


 نحن بحاجة الى معالجة مفهوم "الوطن" في المناهج الدراسية حتى يصبح جليا وواضحا مثل الشمس . هذا المفهوم ليس راسخا في ثقافتنا العامة لانه جديد وقد استوردناه مع الكثير من المفاهيم الاخرى التي صاحبت قيام الدولة الحديثة (التي تسمى أيضا الدولة القومية او دولة الامة). 
وقد تكرر مصطلح "الوطن" في التراث العربي القديم. لكن مضمونه اصغر كثيرا من الوطن الذي نتحدث عنه اليوم. فهو يرمز الى مرابع الصبا واهلها ، اي بعبارة اخرى : القرية او القبيلة ، كما يقول ابن الرومي :
وحبب أوطان الرجال إليهم
 مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
اما مفهوم الوطن المعاصر فيشير الى ما يعرف في علم السياسة بالدولة القومية ، اي مجموع السكان الذين يعيشون في بلد له سيادة ضمن حدود اقليمية معترف بها دوليا . ضمن هذا التعريف فان سكان هذا البلد يعتبرون امة بذاتها . وهم يتمايزون عن كل احد سواهم بانتمائهم الى هذا البلد المحدد وبالجنسية التي يحملونها. كل حامل للجنسية يعتبر عضوا في هذه الامة ومواطنا ، بغض النظر عن دينه او مذهبه او جنسه او اصوله الاثنية او ميوله الثقافية والسياسية . مفهوم المواطنة ضمن هذا التعريف يشير الى منظومة من الحقوق والواجبات المتبادلة بين المواطن ووطنه . منظومة يتساوى فيها الكبير والصغير ، الغني والفقير ، الابيض والاسود ، الرجل والمرأة . كل فرد يحمل جنسية البلد يسمى مواطنا ، يتمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها المواطن الاخر ، ويتحمل نفس الواجبات والمسؤوليات ، بلا زيادة ولا نقصان.
في كل بلد توجد تقسيمات اجتماعية طبيعية ، فهذا ينتمي الى قبيلة وذاك الى طائفة وثالث الى طبقة ، ورابع الى مجموعة اثنية خاصة الخ ..ولكل من هذه الانتماءات حصة في تشكيل هوية الشخص. ولذلك قد نجد فروقا بين ابناء القبائل او الطوائف او المناطق او المجموعات الاثنية . لكن جميع هذه الانتماءات تعتبر ثانوية بالقياس الى الهوية الوطنية الاعلى . الهوية الوطنية هي دائرة واسعة تسمح بالتنوع في داخلها ، مع بقائها جامعا لكل ابناء الوطن مهما اختلفت انتماءاتهم واصولهم وهوياتهم الثقافية.
نحن بحاجة الى تنسيج هذا المفهوم في ثقافتنا العامة وترسيخه كارضية للعلاقة بين ابناء وطننا . خلال السنوات القليلة الماضية اكتشفنا مدى التجاهل والتباعد القائم بين ابناء وطننا . وظهر ذلك في التجاذبات الطائفية والمناطقية والمذهبية والقبلية ، وفي الاسئلة الخاطئة التي تنتشر في المنتديات مثل سؤال : "هل انت مسلم اولا ام سعودي اولا؟". كما ظهر في القبول الواسع لفكرة التمايز بين المواطنين بناء على انتمائهم المذهبي او اصولهم القبلية . بل ورأينا مثل هذا التمايز مقبولا حتى في اجهزة مهمتها اقرار العدل ، مثل الحكم المشهور لاحد القضاة بالتفريق بين زوجين لان قبيلة الزوج ادنى كعبا من قبيلة الزوجة . ومثل فتوى احد المشايخ لموظف استفتاه بنبذ زملائه الذين ينتمون الى مذهب اخر ومقاطعتهم واحتقارهم والدعاء عليهم.
هذه الامثلة وغيرها دليل على ان المواطنة المتساوية لم تترسخ بالقدر الكافي في نفوسنا وفي ثقافتنا ، وان الهويات دون الوطنية ما زالت اكثر فاعلية في تشكيل مواقفنا وتصوراتنا حول وطننا وابناء وطننا. نحن بحاجة اذن ان نبدأ من الاساس ، من مرحلة الطفولة والصبا ، حيث يكون المواطن ثقافته الاولية ويصوغ شخصيته . اي من المدرسة التي تمثل المصدر الرئيس للثقافة ومعرفة العالم في مرحلة الطفولة والصبا.
ترسيخ فكرة المواطنة المتساوية يبدأ بالتعرف على الوطن الحقيقي ، الوطن الذي يتشكل من ابنائه جميعا ولا يقتصر على التضاريس الجغرافية . المملكة لا تتكون من جبال وصحارى ووديان وواحات ، بل تتكون اولا وقبل كل شيء من بشر يسكنون هذه التضاريس . يجب ان نعرف ابناءنا على هؤلاء البشر ، نظرائه في وطنه ، كيف يعيشون ، كيف يفكرون ، ما هي اسماؤهم وقبائلهم ، ثقافتهم المحلية ، همومهم واهتماماتهم .. الخ .

المعرفة هي الطريق الطبيعي للالفة والتآلف ، والمرء عدو ما جهل . ولذلك فان استئصال العداوة يبدأ بالمعرفة والتعارف. يمكن للتعليم العام ان يساهم بفاعلية في ترسيخ فكرة المواطنة اذا جرى توجيه الاهتمام الى المواطن ، واول خطوة هي تعريف كل مواطن الى نظيره ، وكشف حجاب الجهل الذي طالما ادى الى الاستغراب واحيانا الخوف او العداوة . 

 

مقالات ذات صلة

الاقتصاد كأداة لتعزيز الهوية الوطنية

حقوق الانسان في المدرسة

حول نظام حماية الوحدة الوطنية

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

طريق الاقلية في دولة الاكثرية

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

 من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

مناظرة تلفزيونية حول الدين والمواطنة

مواطنون فقط. لا ذميون ولا مستأمنون

الهوية المتأزمة

الوطن الرومانسي والوطن الواقعي

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

وطن الكتب القديمة

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

20/12/2010

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

؛؛ المدخلي: مهما تشدد السلفيون لا يبلغون عشر ما كان عليه السلف من شدة على أهل البدع لدرجة أنهم يأمرون بقتلهم ويطاردونهم ويذلونهم،،


اتاح لي رمضان المنصرم (1431ه) فرصة لقراءة الجدالات الداخلية المزمنة بين اجنحة التيار الديني في المملكة.من اقصى اليمين التقليدي الى اقصى اليسار الاصلاحي مرورا بالصحويين والمتشددين والمعتدلين والعصرانيين .. الى اخر الاوصاف التي يطلقها كل فريق على بقية الفرقاء ، او يطلقها الاخرون من خارج التيار على شخوصه وجماعاته.
الشيخ عبيد الله الجابري
وهذه بالطبع ليست اوصافا موضوعية ولا خالية من الغرض. لكنها على اي حال تقال من اجل التعريف ، لان تلك الاجنحة تابى تعريف نفسها باسم خاص، وتصر على انها هي الجماعة المقصودة في رواية "الفرقة الناجية" او "الفرقة المنصورة " ، وهذا المسمى الاخير تعريف جديد طرحه احد الدعاة ولم يقبله جميعهم.
تحفل تلك الجدالات بقضايا ومواضيع وتوصيفات وتفسيرات واستدلالات تصلح بذاتها موضوعا للدراسة والتدليل على البيئة الثقافية وانساق المعرفة التي يعبر عنها كل جناح. ولاحظت في هذه الايام رواجا لوصف جديد هو "التمييع". وأظن ان الشيخين سلمان العودة وعايض القرني هما اكثر من يرمى به الان. 

واظن ان هذا الوصف قد ظهر في ادبيات الجدل الديني للمرة الاولى في العام 2004 على يد حركيين جزائريين من اتباع التيار المسمى بسلفية المدينة (او الجامية كما يسميهم اعداؤهم) ، ثم تداوله نظراء لهم من ليبيا ، قبل ان ينتقل الى التداول بين الحركيين في المملكة. وكتب احدهم رسالة اسماها "المجموع البديع في الرد على شنشنة التمييع" وافتتح اخر مجموعة انترنتية عنوانها "الجمع البديع في بيان معنى التمييع". وتحدث عنه الشيخان ربيع المدخلي وعبيد الجابري وهما من ابرز رموز ذلك التيار. ورفض المدخلي اعتبار الوصف مصطلحا معياريا ، لكنه يصح ان يطلق على اولئك الدعاة الذين قال انهم "يميعون اصول الاسلام ويرققونها ويهونون من شأنها، بل يحاربونها". 

تمييع اصول الاسلام ومحاربتها يكمن – حسب راي الشيخ - في ميل بعض الدعاة الى اللين ورفضهم للتشدد والغلو. وهو يعيب على السلفيين المعاصرين تركهم لما كان عليه نظراؤهم السابقون من شدة بالغة على مخالفيهم. ويقسم بالله ان سلفيي هذا اليوم مساكين: "والله الذي لا إله إلا هو أنه لا يوجد شدة الآن في السلفيين المساكين . و إنه مهما تشدد السلفيون في مواجهة الباطل و البدع لا يبلغون عشر معشار ما كان عليه السلف من الشدة على أهل البدع لدرجة أنهم يأمرون بقتلهم ، ويطاردونهم ، ويهجرونهم ، و يضربونهم ، ويذلونهم".
لست مهتما بتحديد موارد الحق والباطل في تلك الجدالات ، بل بدلالاتها السوسيولوجية ثم السياسية. فيما يتعلق بالجانب السوسيولوجي ، فقد وجدت فيها تطبيقات عديدة لواحدة من النظريات التي اثارت كثيرا من الجدل ، اعني بها تلك التي تقول بان عامة الناس يشتركون في صياغة نموذج التدين السائد في عصرهم الخاص. التصور الغالب ينحو الى اعتبار "الفكرة الدينية" منتجا معياريا للنخبة العليا من علماء الدين ، الذين يجتهدون في فهم النص وقراءة قضايا الواقع المعاش ، ثم يصدرون اراءهم التي تعامل باعتبارها فتوى او رايا دينيا ، او "توقيعا عن رب العالمين" ، حسب تعبير الشيخ ابن القيم. بالنسبة للملتزمين بتلك الاراء والفتاوى ، فان تطبيقاتها تعتبر "ممارسة دينية" تنطوي ، مثل "الفكرة الدينية" ، على قدر من القداسة المستمدة من ارتباطها المباشر بالمصدر الاعلى للتشريع اي النص المقدس.
اذا تابعت تلك الجدالات وما ترتب عليها من فتاوى واراء ومواقف ، فسوف تجد ان كثيرا من الحالات شهدت مسارا معكوسا ، فالفكرة الدينية او الفتوى لم تنتج ممارسة دينية ، بل  العكس هو الصحيح: الممارسة الدينية ، اي هموم وانشغالات عامة المؤمنين او بعضهم ، ولا سيما الناشطين منهم ، هي التي حددت لعالم الدين او صاحب الفتوى نطاق الرأي الذي سيصدر لاحقا. 

بعبارة اخرى فان الفتوى او الراي الذي يلبس رداء التشريع او التوقيع عن رب العالمين لم يكن اجتهادا مستقلا في النص ، بل هو موقف مسبق تجاه موضوع صيغ على شكل مسألة. واذا وضعت السؤال والجواب في اطار الصراع بين الاجنحة المختلفة ، فسوف تجد ان الراي الذي يرتدي عباءة الدين ليس سوى صياغة لنفس الموقف السياسي او الاجتماعي الذي يتخذه صاحب الفتوى تجاه الطرف الذي هو موضوع للفتوى ، تاييدا له او تنديدا به. اما بقية الكلام فليس سوى تفاصيل جانبية.
عكاظ 20 ديسمبر 2010  https://www.okaz.com.sa/article/370121/


مقالات ذات علاقة



13/12/2010

فقه الواقع من منظور الايديولوجيا


اذا لم يستوعب الدعاة ان العالم قد تغير في العقد المنصرم فهذه مصيبة ، واذا فهموا ورفضوا التعامل مع هذه التغيير او البناء عليه في ارائهم وفتاواهم فهذه مصيبة اكبر من الاولى.

ناصر العمر
قبل عقدين من الزمن (1991م) كتب الشيخ ناصر العمر رسالة صغيرة اسماها "فقه الواقع" ، كرسها للتاكيد على ضرورة فهم الواقع السياسي والاجتماعي قبل اصدار الراي او الفتوى. وحملت الرسالة وما تلاها من خطابات وكتابات للشيخ ناصر العمر تنديدا باهمال العلماء وطلاب الشريعة لذلك الفن واعتبارهم اياه انشغالا بما لا يستحق. وقد اثارت الفكرة جدلا في وقتها ، ثم ذهب الامر برمته في الارشيف مثل سائر الجدالات. كان يمكن للفكرة ان تمثل اضافة هامة للتفكير الديني لو ان صاحبها التزم بالمعايير الموضوعية في فهم الواقع (او فقه الواقع بحسب اصطلاحه الخاص). لكنها بقيت – كما سلف – مجرد عنصر في سلسلة طويلة من الجدالات.
تنقسم المعرفة ، بحسب تقسيم الفيلسوف المعاصر كارل بوبر ، الى ثلاثة عوالم:

العالم الاول : هو الكون المادي الذي يتالف من حقائق واقعية. يعيش الناس في هذا العالم ويسعون الى فهمه وتصويره على شكل نظريات واوصاف ، فيفلحون احيانا ويفشلون احيانا اخرى . حقائق هذا العالم موجودة سواء احببتها او كرهتها ، فهمتها او عجزت عن ادراكها.

العالم الثاني : هو تصوراتنا الشخصية وتجاربنا وتاملاتنا في ذواتنا او في الكون المادي المحيط . وهي تشكل في مجموعها رؤيتنا للعالم وعلاقتنا به وموقفنا من عناصره ومكوناته. هذا العالم هو الذي تعمل فيه عقولنا حين نفكر في وجودنا وما يطرأ عليه من متغيرات. المعارف الشخصية والتاملات والذاكرة الشخصية هي بعض تمثيلات هذا العالم . وهي جميعا قائمة على ارضية الوعي الشخصي والرغبات والميول والهموم ومتفاعلة معها . هذه المعرفة قد تكون مطابقة للواقع وقد تختلف عنه. لكن صاحبها يؤمن بها ويحبها لانها مرتبطة بشخصه او ميوله.

العالم الثالث : هو مجموع منتجات العقل الانساني المجردة ، اي القائمة بذاتها كموضوع منفصل عن شخص المنتج او الاشخاص الاخرين.  ونراها عادة في اطار اعمال علمية او تطبيقات تقنية مثل الكتب ، الالات ، النظريات ، النماذج ، الحاسبات ، الشبكات .. الخ .

من المهم التمييز بين العالمين الاول والثاني في مرحلة التفكير والتحليل. لان الاسراف في استعمال المنظورات الشخصية والايديولوجية – حتى لو كانت صحيحة بذاتها – قد تعطي للمفكر صورة ملتبسة عن الواقع. ويقال عادة ان اهم اخطاء الماركسية هي هذا الفهم الايديولوجي للعالم. انها خطا جميع الذين ينظرون الى حركة التاريخ باعتباره سلسلة من الحتميات المتعاقبة. واظن ان صاحب "فقه الواقع" قد وقع في هذا المطب . التاريخ قد ينتهي الى نتيجة حتمية ، لكننا لا نعرف توقيتها ، ربما تكون نهاية العالم او مرحلة متاخرة من تاريخه. لكن من الخطا اعتبار الحوادث التي تجري كل يوم نوعا من الحتميات، سواء الحتميات التي نحبها او التي نخشى منها.

الجدالات الاخيرة التي شهدتها البلاد تشير الى غفلة مريعة من جانب بعض الدعاة والناشطين في التيار الديني عن التحولات الجارية في الواقع الاجتماعي والاقتصادي – ومن بين هؤلاء كاتب رسالة فقه الواقع نفسه-. وهي تحولات تنعكس ، شئنا ام ابينا ، على الثقافة العامة وانماط التدين ومعايير العلاقة بين القوى الاجتماعية. تنتمي هذه التحولات الى العالم الاول ، وهي تستوجب فهما وتفسيرا تبنى عليه المواقف والاراء (اي ما ينتمي الى العالم الثاني). اهمال هذه الوقائع او رفضها لا يلغيها ولا يزيل مفاعيلها ، بل يعزل الشخص المفكر عن عصره ويجعل الامور ملتبسة عليه ، فيقع في سلسلة اخطاء منهجية ومعرفية وعملية قد تصحبه لزمن طويل.
فقه الواقع لا يعني – في جوهره - قراءة الاخبار ومتابعة الحوادث والتعليق عليها وكتابة مقالات التنديد والتاييد حولها ، بل استيعاب نسق التحولات ومحركاتها وفهم اتجاهاتها ومآلاتها ، ثم اخذها بعين الاعتبار عند استنباط الموقف الديني والخطاب الديني. اذا اقحمنا قناعاتنا الايديولوجية على تفكيرنا في الحوادث ، فسوف نعود الى ما كنا نعرفه سلفا ، ولن نستفيد معرفة جديدة ، وسوف نعيد انتاج صورة ذهنية عن واقع افتراضي نؤمن به ، لكنه غير موجود خارج اذهاننا.

جريدة عكاظ 13 ديسمبر 2010

09/12/2010

جدالات تجاوزها الزمن


المجتمع مشغول هذه الايام بالجدل حول الاختلاط وعمل المرأة وحق العلماء في الفتوى العامة ، واشباهها من الموضوعات التي تجاوزها الزمن ، واصبحت - بالنسبة لمعظم المجتمعات الاخرى - ذكريات يهتم بها المؤرخون.

 المؤكد ان مثل هذه النقاشات الغريبة سوف تستمر ، وربما ستأتي موضوعات مختلفة لكنها تشرب من نفس المورد. الامر ليس جديدا تماما، فمثل هذا الجدل مستمر منذ العام 2002 وحتى اليوم ، لاننا لم نستطع الانتقال الى المرحلة التالية، اي الخروج بنتيجة والبدء بنقاش أعلى مرتبة او اكثر عمقًا.

ظاهر هذه النقاشات اجتماعي، فهي تدور حول الحريات الفردية. لكنها تنطوي على مضمون مكتوم لا يصرح به معظم المشاركين، ألا وهو الحقوق المدنية والسياسية والمشاركة في الشأن العام. السبب في اظهار الوجه الاول واخفاء الثاني هو التوازنات السياسية. يدور الجدل الراهن بين الصحافة ذات الميول الليبرالية ، وبين بعض رجال الدين ذوي الميول التقليدية ، سواء في المؤسسة الدينية او خارجها.

 ويبدو ان هؤلاء قد غفلوا عن الجوهر المستور للجدل وانشغلوا بظاهره، فانخرطوا في صراع عنيف ضد الداعين الى تمكين المرأة من حقوقها الاولية ، مثل التملك والعمل. المؤسف ان التيار الديني يقع في مثل هذا الفهم الملتبس تكرارا ، فيضع نفسه في موضع المدافع عن الظلم والتمييز، بدل ان يقدم بدائل وطروحات جديدة ، تستلهم روح الدين ، وتنسجم في الوقت نفسه مع معطيات العصر وضروراته.

يتحدث الداعون الى تمكين المرأة عن حقوق الانسان ، والمشاركة المتساوية في الشأن العام ومحاربة الفقر، بينما تقتصر جدالات الناشطين في التيار الديني التقليدي ، على التحذير من الفتنة والموجة التغريبية ، وتدعو الى المحافظة على الاعراف السائدة ، باعتبارها خط الدفاع عن الدين وسلامة المجتمع.

نحن مشغولون بهذه النقاشات ، لاننا عاجزون عن صوغ نظام قيمي جديد ، يرسي اجماعا وطنيا بديلا عن ذلك الذي اطاحت به رياح التحديث. صحيح ان مجتمعنا لم ينتقل تماما الى عصر الحداثة، وصحيح ان كثيرا منا لا يزال سجين التقاليد الموروثة ، التي لم تعد مفيدة في يومنا الحاضر، لكن الصحيح ايضا ان موجات التحديث ، التي جاءت في ركاب الاقتصاد والاعلام الجديد ونظم التواصل الجمعي العابرة للحدود ، قد شقت المجتمع الى قسمين: قسم يشعر بالخسارة ، لانه مرتبط بنظام مصالح قائم او موروث، وقسم يسعى لحجز مكانه ودوره في نظام مصالح جديد، وهو غير عابئ بما يترتب على اولئك من خسائر.

المثل العربي المشهور «لكل زمان دولة ورجال» هو وصف مكثف لانعكاس التحولات الاجتماعية ، على الناس وادوارهم ومصالحهم، وما يترتب عليها من روابط وعلائق بينهم. تلك التحولات قد تكون واسعة وعميقة واحيانا مدمرة ، اذا جرت في مجتمع ينكر التغيير ويقاومه، بينما تكون لينة وسلسة، بل وقليلة الخسائر اذا جرت في مجتمع منفتح ومستعد لتقبل التغيرات والتحولات.

 تنتمي مجتمعات الخليج الى الصنف الاول، ولهذا فهي تجد التحول مفاجئا ومدهشا، وتجد نفسها عاجزة عن استيعابه وتسكينه ضمن اطاراتها الاعتيادية، بل وتشعر بالعجز عن ابتكار اطارات جديدة. التغيير هو سمة التاريخ وهو سنة الله. من المستحيل تلافيه ومن المستحيل اتقاؤه او الخلاص من انعكاساته. في الماضي كان يأتي بطيئا وتدريجيا، اما اليوم فهو سريع وواسع وانقلابي، ولهذا السبب فانه يثير من الجدل والخلاف ، اضعاف ما اعتاد عليه المجتمع في عصوره السابقة.

حين تأتي الموجة فانها تكشف عن شيء وتخفي اشياء اخرى. العاقل من يتأمل في المضمر ولا ينشغل بالظاهر. العاقل من يفهم الاسباب التي تجعل التغيير قدرا ، فيسعى لاستيعابه وتوجيهه ، بدل ان ينفق جهده في محاربة الظواهر والتعبيرات ، مهما كانت مؤلمة او بغيضة. العاقل هو الذي ينظر الى التحولات الاجتماعية كفرص ، يمكن اغتنامها واستثمارها والبناء عليها، بدل ان ينظر اليها كتهديد او عدوان. حري بالمجتمع الديني ان يفكر في ركوب موجة التغيير ، واعادة انتاج عناصرها في خطاب جديد ، يستلهم روح الدين وشروط العصر وحاجات البيئة الاجتماعية ومتطلبات المستقبل، فهذا هو الآتي. اما الماضي فهو حياة افلة، ماتت فعليا او هي على وشك الموت.

  « صحيفة الأيام البحرينية » - 9 / 12 / 2010م 

06/12/2010

الاستدلال العقلي كاساس للفتوى


؛؛ وجود الفقر والبطالة عار على المجتمع كله ، لكن العار الاكبر هو منع الفقراء من حل مشكلتهم ؛؛

في مقاله المعنون "هل اخطأت اللجنة الدائمة – المدينة 3 ديسمبر 2010  استخدم الاستاذ الفاضل د. محمد السعيدي مقاربة جديدة نوعا ما لاثبات ان فتوى اللجنة حول عمل الفتيات ملزمة (او صحيحة حسب ما يظهر من سياق الكلام). 
صورة ذات صلة

فحوى هذه المقاربة هي ان عمل اولئك الفتيات فيه مفسدة اكبر من مفسدة البطالة. فالتحريم هنا من باب ترجيح الفساد الاقل على الفساد الاكثر ، او سد ذريعة الفساد الاكثر ولو ادى الى فساد اقل. بعبارة اخرى فان سياق كلامه يشير الى انه لا يرى عمل المرأة في الجملة ، ولا عمل الفتيات في هذا الموقع بالخصوص ، محرم في ذاته ، بل هو محرم لبعض الاعراض المظنونة فيه مثل الفتنة المؤدية الى الحرام. هذا بالطبع استدلال عقلي لا يسنده نص. والادلة العقلية – بحسب المنهج المتعارف عند الاخباريين – ادنى مرتبة من نظيرتها النصية.

ونعرف  ان الاستدلال العقلي ليس وقفا على الفقهاء ، والامر كذلك في تعريف الموضوعات وتحديد عناصر الصلاح والفساد فيها . فالمشهور ان تعريف الموضوعات والمصالح راجع الى العرف وليس الى الفقيه.  بل الارجح – في مثل هذا الزمان الذي تعقدت فيه العلوم والمصالح وتعددت وجوهها ، ان يعتمد الفقهاء على راي اهل الخبرة في كل موضوع  ، لان العلم العميق فيه لا يتيسر الا لمن تخصص فيه ، مثل علوم الشريعة التي نرجع فيها الى اهل الاختصاص وعلم الطب والهندسة والاقتصاد وكل علم اخر. فالحجة اذن في تحديد ما ينطوي عليه الموضوع من عناصر فساد او صلاح هو راي اهل الاختصاص فيه.

واظن ان هذا واضح لفضيلة الدكتور ، فقد خصص نصف مقاله لنقل معلومات منسوبة الى باحثين غربيين حول مفاسد الاختلاط في بلادهم . هذه المعلومات ليست دليلا في الشرع ، بل هي من نوع الامارات العقلائية التي تدعم الدعوى او تحدد مفهومها.

اذا صح هذا المبدأ ، اي الرجوع الى العرف واهل الاختصاص ، فان ما يعرضه هؤلاء اوسع بكثير مما عرضه الذين قالوا بتحريم عمل الفتيات. نفهم طبعا ان الدكتور السعيدي ومن اخذ براي التحريم ، لا يقولون ان الموضوع محل الجدل ، اي ما سمي بعمل الكاشيرات ، سوف يؤدي قطعا الى فسادهن او فساد اخرين. فمثل هذا نوع من الرجم بالغيب. لكنهم يقولون انه مظنة للفتنة التي ربما تؤدي الى الفساد.

اما معارضي القول بالتحريم فيرون فيه مظنة لفساد اكبر ، اوله تعطيل حقوق الناس: للمرأة كما الرجل حق التعلم والعمل والتملك والمشاركة في الشأن العام . هذا الحق فطري طبيعي ، اعطاه الخالق لعباده عند خلقهم ، فلا يجوز حجبه او تعطيله دون مبرر يفوق من حيث القوى والمرتبة قوة الحق وقيمته العليا. القول بان عمل المرأة مظنة للفتنة التي يمكن ان تؤدي الى الفساد ، ليس اقوى من القول بان المال والفراغ عند الشباب هو مظنة للفتنة التي يمكن ان تؤدي الى الفساد ، او القول بان السفر الى البلاد الاجنبية مظنة للوقوع في العديد من المحرمات ، فهل نحرم الشباب من حقهم في التملك ، او نحرم عامة الناس من حقهم في السفر والانتقال،  لسد ما نظنه سببا محتملا للفساد؟.

والثاني ان لدينا واقعا فعليا هو الفقر . الفتيات اللاتي يعملن هنا وهناك ليس همهن خوض تجارب جديدة ، بل تأمين كفاف عيشهن . ونعرف ان الفقر كفر كما انه طريق الى الكفر. وقد احسن احد الكتاب (لعله الدكتور السعيدي نفسه) حين نقل في وقت سابق عن باحث سعودي قوله بامكانية ايجاد اربعة ملايين وظيفة للنساء من دون اختلاط. نعلم طبعا ان هذا كلام افتراضي لا علاقة له بالاقتصاد ، لكنه يشير الى ان القائلين بتحريم عمل النساء مطلعون على حقيقة المشكلة التي تدفع بالمئات من الفتيات الى سوق العمل.

وجود الفقر والبطالة عار على المجتمع كله ، والعجز عن معالجة هذا المشكل عار على اهل الراي والعلم والقرار ، لكن العار الاكبر هو ان تمنع الفقراء من حل مشكلتهم ، وتهديهم بدل ذلك صورة ملونة عن المدينة الفاضلة التي تستطيع تدبير اربعة ملايين وظيفة من البيت.

خلاصة القول ان منع الفتيات من العمل بذريعة الاختلاط ، لا يستند الى دليل شرعي قاطع ، بل الى استدلال عقلي لم يؤخذ فيه برأي اهل الاختصاص ، كما انه ينطوي على حجب لحقوق اصلية دون دليل يساويها في  المكانة والقيمة. والله اعلم.

عكاظ 6-12-2010  
http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20101206/Con20101206386768.htm


مقالات ذات علاقة



اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...