لقيت خلال حياتي المدرسية أساتذة من مشارب شتى. عرفني كل منهم بعالم غير العوالم التي عرفتها وألفتها. ولا زلت أذكر تلك النقاشات الساخنة التي أخذتنا بعيدا عن الكتاب والمنهج ، حين انفتحت أمامنا تجربة الأستاذ العلمية والحياتية ، والتي حوت – دائما – ما يفوق المنهج الدراسي قيمة وفائدة. أقول هذا كي أدعو اصدقائي العاملين في حقل التعليم والتدريب ، لفتح عقولهم وقلوبهم لتلاميذهم ، وتشجيعهم على الانخراط في النقاش الجاد حول مختلف قضايا الحياة ، في موضوع الدرس او غيره.
انا انتمي لمجتمع لا يوفر غير مساحة ضيقة للنقاش
الجاد والمنفتح ، النقاش الذي يأخذ الانسان الى حدود الخيال ، دون رهبة الخطوط الحمراء
والصفراء. وأظن هذا حال أكثر الناس من حولي. لهذا أرى دور المعلم وصاحب الثقافة
حيويا ، في تحريض الناس على التفكير والنقاش الذي يطرق الآفاق البعيدة وغير
المألوفة.
من بين الاساتذة الذين تركوا أثرا في نفسي ، أذكر
اثنين ، لا يقول أحدهما شيئا ، الا وقع على خلاف رأي الآخر. فمن ذلك مثلا ان الاول
اعتاد التشديد على ان الحكمة في الصمت ، وان سر المعرفة يكمن في التأمل الفردي
وتجنب الجدال. وغالبا ما ذكر روايات وأشعارا تؤكد هذا المعنى.
وبعكسه تماما كان الاستاذ الثاني ، الذي ما انفك يذكرنا
بأهمية النقاشات الثنائية والجماعية ، ويؤكد ان النقاش سبيل وحيد لشحذ قدرة التحليل
عند الانسان. وكان يقول مثلا ان الاثر
المروي عن علي بن ابي طالب "تكلموا تعرفوا ، فان المرء مخبوء تحت
لسانه" لا يعني مجرد النطق ، بل أراد التركيز على "الكلام" اي
الحديث المنظم الملتزم بقواعد المنطق ، الذي يقيم وسطا معرفيا يتواصل عبره مختلف
الناس ، نظير ما يسمى اليوم الميديا/الوسائط media
التي يصل دورها الى تكوين الرأي العام او الفهم المشترك للقضايا المطروحة في
المجال العام. ولطالما لفت هذا الاستاذ انظارنا الى بعض القواعد اللطيفة في الحديث
، سواء تعلقت بآداب النقاش او قواعد التفكير المنطقي والعقلاني ، وهي قواعد ، أظننا
في أمس الحاجة الى أمثالها ، في ظل التحولات المثيرة التي نشهدها اليوم ـ بل كل
يوم.
ويظهر لي ان ميول هذين الاستاذين ، تحاكي نمطا عاما.
فثمة مجتمعات تتقبل النقاش في اي مسألة ، وتقبل مختلف الطروحات مهما كانت غريبة عن
عاداتها ومألوفها. وثمة مجتمعات لديها ميول معاكسة تماما ، فهي تقصر النقاش في
القضايا العامة على الحد الأدنى ، في الموضوعات وفي عدد المشاركين وفي الحدود
المسموحة.
ومما أذكره انني كنت أزور بين حين وآخر ، شخصا من
علية القوم ، وكان يحضر مجلسه نخبة البلد من مختلف المجالات. لكني لا اذكر ابدا ان
النقاش قد تجاوز احوال الطقس ، وهل نزل المطر ام لا ، خفيفا كان ام ثقيلا ، ويطول
الحديث عن البلدان التي شهدت سيولا ، وماذا ترتب عليها.. الخ.
لقد ظننت – وربما اكون مخطئا – ان هذا النوع من
النقاش ليس عفويا ، بل مقصود للحيلولة دون انفتاح نقاشات قد لا ترضي جميع الحاضرين.
فهذا مثال على ذلك النوع من المجتمعات التي لا تحب النقاش في القضايا الحرجة او
المثيرة للاختلاف.
أما مبررات الذين يعارضون النقاش العام في القضايا
الساخنة ، فهي لا تتعدى الاشارة الى "حساسية" من نوع ما. فبعضهم يشير لحساسية
الموضوع ذاته ، وان هناك اشخاصا ربما تستفزهم الحقائق غير المألوفة ، فيرون فيها تحديا
لقيمهم وقناعاتهم. وثمة من يطلب قصر النقاش على الاشخاص الموثوق في اهليتهم
والتزامهم بالخط العام للمجتمع. لكن أكثر الحساسيات شيوعا هي المتعلقة بتوقيت
الكلام ، ولا يعدم المعارضون أزمة من هنا او هناك ، يقدمونها مبررا لتأجيل النقاش
في هذا الموضوع او ذاك.
الشرق الأوسط الجمعة - 03 جمادي الأول 1445 هـ - 17
نوفمبر 2023 م
https://aawsat.com/node/4673406