النتيجة التي انتهى اليها مقال الاسبوع الماضي
، لم تلق هوى عند كثير من القراء الاعزاء ، بل اثارت بعض الجدل ، ولاسيما حول
الربط بين ازمة الهوية وتراثنا الثقافي. فقد ذكر هناك ان هذا التراث "يريد
للفرد ان يكون تابعا مطيعا ، لا مشاركا او صانعا للقيم التي تقود حياته". رأى الناقدون ان هذا ينطوي على تعريض بموقف الانسان من دينه. وتساءل أحد الاصدقاء:
لماذا نجد الدين في كل جدل حول تحولات المجتمع.. الا يمكن ان نغض الطرف أحيانا؟.
يهمني هنا ايضاح فكرة ، اظنها غائبة عن أذهان بعض
القراء الاعزاء. وخلاصتها ان التحولات الجارية في حياة المجتمع ، على مستوى
العلاقات الداخلية والثقافة والاقتصاد والسياسة ، تتأثر من حيث السعة والعمق ، بعوامل
عديدة ، سوف اركز على ابرزها في اعتقادي ، وهو الحدود الخاصة بالبنية الاجتماعية.
دعنا نتخيل النظام الاجتماعي شبيها بجسد الانسان ، الذي
يتلقى تأثيرات الطقس والمشكلات الحياتية الاخرى ، فيقاوم بعضها ، ويتكيف مع البعض
الاخر ، فيتعايش معه ، او يتفاعل فيؤثر فيه ويتأثر ، يزداد قوة او يضعف. ومثل هذه
الحالات تحصل للمجتمع حين يتعرض للمؤثرات الخارجية ، مثل التحولات الاقتصادية
والسياسية الكبرى او الحروب او الكوارث.
لا تأتي تلك المؤثرات على نسق واحد. كما ان المجتمع
لا يتعامل معها بنفس الطريقة في جميع الأوقات. وقد ذكرت في الأسبوع الماضي ان
التحولات العميقة في المجتمع السعودي ، ترجع للعقدين الأخيرين من القرن العشرين ،
نظرا لنضج التنمية الاقتصادية وتغلغل انعكاساتها في مختلف الأوساط. وللاطلاع على بحث
تفصيلي عن تأثير هذا العامل ، اقترح العودة الى كتاب د. سعيد الغامدي "البناء
القبلي والتحضر" الذي قدم صورة مفصلة عن الحراك
الاجتماعي ، لحظة استقبال أولى انعكاسات الاقتصاد الجديد ، في قرية زراعية جنوب
المملكة. ان التأمل في هذه الحادثة تعين على فهم العديد من الظواهر التي عرفناها
خلال السنوات التالية ، فيما يخص التكوين الاجتماعي وتوزيع مراكز القوة ، المعنى
الاجتماعي للمال والثروة ، موقع المرأة في المجتمع والاقتصاد ، والموقف من الاخر الديني
او المذهبي.
الذي حصل في سنوات التحول
الاقتصادي تلك ، عبارة عن عاصفة هائلة القوة ، تمثلت في برامج التنمية الاقتصادية
، هبت على مجتمع ساكن ومستقر. ازدهار الاقتصاد يؤدي – بطبعه – الى تعزيز الفردانية
على حساب الروابط الاجتماعية ، كما يحرك الطبقات ومواقع الافراد في سلم التراتب
الاجتماعي ، فيرفع بعض من كان في المراتب الدنيا ويهبط بمن في الاعلى ، ويأتي
بأفكار جديدة متعارضة – بالضرورة – مع الموروث والسائد. وتجري هذه كلها في وقت
قصير ، فلا يتسع المجال للنظام الاجتماعي كي يعيد ترتيب أوراقه او ينظر في القادم
الجديد. لهذا يعود المجتمع الى موقفه المفترض في الاصل ، اي الرفض والمقاومة. هذه
المقاومة تمهد – شئنا ام ابينا – لانقسام اجتماعي ، بين المستفيدين من الوافد
الجديد والمستفيدين من الوضع السابق.
المثال البسيط هو الاب
الذي استمد جانبا من سلطته من انفاقه على ابنائه وبناته ، وسوف يخسر هذه السلطة
اذا التحق الابناء بالوظائف ، وباتوا اغنى من والديهم. هؤلاء الابناء لن يحتاجوا أيضا
الى الواعظ ، فقد صار بوسعهم مراجعة الكتب التي توفر معرفة تشبه ما يقوله الواعظ.
ولن يحتاجوا شيخ القبيلة او كبير القرية للواسطة او الحماية ، فلديهم الشهادة
المدرسية التي تمكنهم من الالتحاق بسوق العمل دون واسطة.
اظن ان هذا الشرح الموجز
قد اوضح لماذا كان الدين في قلب جدالات التحول الاجتماعي. اما ما يخص مشاركة الناس
في صياغة حياتهم الدينية ، فيحتاج معالجة اوسع ، ربما اعود اليها في مقال قادم.
الخميس - 27 ربيع الأول 1445 هـ - 12 أكتوبر 2023 م
https://aawsat.com/node/4600181/
مقالات ذات صلة
استمعوا لصوت التغيير
اعادة بناء القرية .. وسط المدينة
سجالات الدين والتغيير في المجتمع
السعودي (كتاب)
صناعة الشخصية الملتبسة
طريق التقاليد
عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي
على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة
العولمة فرصة ام فخ ؟
غلو .. ام بحث عن هوية
ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء
التقليديين ومحبوبا للشباب
من جيل الى جيل
النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت
هكذا نتغير... مختارين او مرغمين
هوية سائلة؟
وعي المستقبل