17/01/2007

عن طقوس الطائفية وحماسة الاتباع


يقول لي كثير من الناس ان الفتنة المذهبية في العراق سوف تؤدي الى كثير من النتائج الوخيمة. لكني لا اشك ان اسوأ تلك النتائج سوف يكون تراجع الايمان الديني في نفوس الناس. بل قد لا يكون من ضروب المبالغة القول بان هذا التراجع قد بدأ فعلا، رغم ما يظهر على السطح من تضخم في التيار الديني– السياسي وتضخم في ممارسة الطقوس ذات اللون الديني من جانب الجمهور. كثير من الدعاة غافل عن هذه المفارقة، أي تضخم التيار وممارسة الطقوس من جهة وتراجع الايمان من جهة أخرى. وسبب الغفلة هو التباس الايمان الديني بالتدين الطائفي، وتحول الانتماء الديني الى انتماء طائفي.
 ثمة علامات واضحة تسهل التمييز بين الايمان الديني والتدين الطائفي، فالايمان قرين التواضع والمسالمة والمحبة والصبر والايثار، بينما الطائفية قرين الترفع والكبر والكراهية والوجل والاستئثار. المؤمن محب لخير الناس متعاطف معهم في مصابهم ولو كانوا بعيدين عنه او مخالفين له. اما المتدين الطائفي فهو محب لنفسه منحاز لقومه حين يصيبون وحين يخطئون. والمؤمن منشغل بحياة الروح وصيانة جمالها، اما الطائفي فهو منشغل بحسابات الربح والخسارة المادية الدنيوية. من كل هذه الصفات نستطيع التمييز اذن بين دعاة الطائفية ودعاة الإيمان ، فدعوة الطائفيين محورها الصراع مع الغير، وهم لا يرون الدين الا منابذا للغير، اما دعاة الايمان فمحور اهتمامهم هو المسالمة والتقارب والمحبة والحوار.

 في تسعينات القرن المنصرم، اهرق الكتاب والخطباء المسلمون انهارا من الحبر وساعات طويلة من الكلام في تفنيد نظرية المفكر الامريكي صمويل هنتينجتون عن صدام الحضارات، وهاهم اليوم يتفرجون على انهار من دماء المسلمين تراق في سبيل مقعد اضافي في الحكومة، او مكسب هنا او هناك. والغريب في هذه المقارنة ان متفرجي اليوم لا يسألون انفسهم عما اذا كان الدين الذي خافوا عليه عندما نشر هينتنجتون نظريته المشهورة هو دين الله الذي يجمع المسلمين كافة، وهو رسالة الرحمة والمحبة لجميع البشر – كما هو المفهوم في العموم-، ام هو الدين الشخصي (او المدني حسب وصف جان جاك روسو) الذي لا يتجاوز حدود الفرد والجماعة الخاصة التي ينتمي اليها.

 يتبارى دعاة الطائفية في تحليل مكاسب وخسائر الصراع الطائفي في العراق وغير العراق، ويستدلون بكل منها على وجوب تشديد النكير على الغريم (أي المسلم من الطائفة الاخرى) والتنكيل به والمبالغة في النيل منه، ويكيلون الشتائم ضد الداعين الى السلام ونبذ العداوة والكف عن العدوان. جميع هؤلاء يعرفون تجاوز اصحابهم لحدود الله بقتل الآمنين وتدمير دورهم ومصادر رزقهم ونيلهم من الضعيف والمسكين، لكنهم يغضون الطرف عن هذا وذاك بينما يضخمون ما فعل الغريم ولو كان تافها او صغيرا، ويصحّ عندهم قول من قال «قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر».

 حين يسيطر الطائفيون على ساحة الفعل يتوارى دعاة الفضيلة والايمان. فاذا سمعت قعقعة السلاح، واذا سمعت الاصوات العالية المنادية بالويل والثبور وعظائم الامور، فاعلم ان الايمان قد انحسر. يُروى في الاثر ان الله عز اسمه قد اوحى الى احد انبيائه عليهم وعلى نبينا افضل الصلاة والسلام «تجدني عند المنكسرة قلوبهم»، فأين انكسار القلب عند من يدعو الى القتل والتدمير او يبرر القتل والتدمير؟.

 الايمان مثل النسيم يهب على النفوس فينعش فيها الامل و الرغبة في البناء والكمال. والطائفية مثل النار تشعل القلوب والنفوس اينما حلت. وفي مثل هذا العصر الذي تجاور اهله واتصلت اطرافهم وتواصلت احوالهم، فان اندلاع النار الطائفية في أي بلد حري بان يوقظ مخاوف الاباعد فضلا عن اهل الجوار. وحري بنا نحن جيران العراق ان نتبادر الى اطفاء هذه النار قبل امتدادها. ثمة من قومنا من ترك هموم العالم كله وفرغ نفسه كي يستثمر ما يجري في العراق وغير العراق في شحن النفوس بالعداوة والبغضاء لهذه الطائفة او تلك.

اولا يخشى هذا وامثاله من امتداد تلك النار، ام انه لا يفرق بين صراع من اجل الدين وصراع من اجل الطائفة؟، او لعله نسي ما يمتاز به الدين الحنيف من دعوة الى المسالمة والرحمة والحوار والاخوة، مع الابعدين فضلا عن الاقارب. لقد كنا نقارع الذين اتهموا ديننا بالارهاب وتبرير الارهاب بحجج من مثل ان الاسلام الحنيف يحض على السلام وانه دين السلام، فاين هذا الكلام من الخطب النارية التي نسمعها اليوم في بعض المساجد او نقرأها في بعض الصحف ومواقع الانترنت والمجالس من تهجم على بعض طوائف المسلمين وسخرية بمعتقداتهم ونيل من اشخاصهم وتحريض للاتباع والجهال عليهم ؟.

 اول العقل هو التمييز، والعاقل هو من يميز بين الاشياء المختلفة فيضع كلا منها في موضعه، خلافا للجاهل الذي يخلط بين الشيء ونقيضه. بدأ الخصام في العراق بين احزاب وجماعات سياسية يسعى كل منها للحصول على حصة الاسد من الغنيمة وهذا طبع السياسة، واستثمر كل منها بيئته الاجتماعية للوصول الى اغرضه. وقد اثمر هذا عما نعرفه اليوم من اصطفاف طائفي وقبلي يوشك ان يقود الى تقسيم العراق.

وسط هذا الموج المظلم نسي الكثير من الناس ضرورات الايمان وحلت في انفسهم ضرورات القبيلة والطائفة. يفهم العاقل ان هذا شأن يخص العراقيين، وليس له من علاقة ضرورية بمعتقدات او قناعات. انه بعبارة اخرى حراك اجتماعي مرتبط بالشروط الاجتماعية الخاصة بالعراق لا بعقائد اهله. 
ومن العقل حينئذ ان لا نخلط بين هذا وذاك، فضلا عن ان نتلبس بأوصاف لا تخصنا ولا مبرر لها في بلدنا، وهي ليست من الطيبات كي نتشبه بأهلها، وليس اهلها قدوة لنا كي نفعل ما فعلوا.

 بدل نقل النار الى ثيابنا، دعونا نسعى في اطفائها، فهذا خير واقرب لرضا الله من ذاك. واذا لم نسع في اصلاح ذات البين فان الدين سيكون الخاسر الاكبر. ربما يزيد الاتباع ويشتد حماسهم، وربما تتضخم الممارسات الطقوسية، لكن ايا منها لا يدل على ارتقاء الايمان بل هيمنة الطائفية، والفارق بين الطائفية والايمان مثل الفارق بين النار والنسيم.

عكاظ 17 يناير 2007     

27/12/2006

سلطة المدير


كتب الزميل د. حمود ابو طالب (الوطن 24-12-2006) شاكيا من تخلف اساليب التعليم وقلة اهتمام المعلمين والاداريين بجوانب التربية وتطوير شخصية الطالب. واستشهد بثلاثة حوادث عومل فيها اطفال في المرحلة الابتدائية بطريقة بعيدة تماما عن المعايير التربوية. واظن ان لدى الدكتور ابو طالب ولدى غيره من الكتاب والآباء الكثير من الامثلة التي تجاري ما ذكره او تزيد. 
د. حمود ابو طالب
وذكرتني القصة المنشورة بما حدث لي شخصيا في سنوات الدراسة المبكرة حين عرضت على معلم لي ورقة كتبت عليها ابيات شعر هي اولى محاولاتي الجادة، فقد نظر الاستاذ فيها مبديا اعجابه، لكن سحنته تغيرت فجأة، فمزق الورقة ورمى بها في وجهي قائلا: «هذه موهبة لا يستحقها الا مهذب».
ومنذ ذلك اليوم هجرت دواوين الشعر وتأدبت فعلا فلم اقرأه ولا حاولت نظمه. ويبدو ان قصة تمزيق الاوراق تأبى مفارقتي، فقبل بضعة ايام عاد ولدي من المدرسة باكيا لان استاذ الرياضيات مزق ورقته امام زملائه وقال له انه ولد كسول، فلما اتصلت بالاستاذ اخبرني ان خط الولد سيئ لا يمكن قراءته وانه فعل ذلك كي يجبره على تحسين خطه. لكن هذا خلق لي مشكلة جديدة، فهذا الولد الذي كان حتى ايام قليلة مضت عاشقا للرياضيات مبرزا فيها، اصبح فجأة كارها لها معرضا عن مذاكرتها متعللا بكل علة لتجنب حضور درسها.
أقول ان هذه الامثلة واشباهها اكثر من ان تحصى، واظن ان كل اب قد شهد واحدة منها او سمع عن بعضها. ونسمع من بعض المعلمين والمعلمات قصصا اخرى عما يتعرضون له من معاملة مهينة على ايدي مديريهم وكيف تنعكس على تعاملهم مع تلاميذهم، وهي  أيضا غير قليلة.
اقترح الدكتور ابو طالب على وزارة التربية «تنظيف مرافقها من بؤر الجهل والترهل والتكلس والعقليات التي تدمر الطلاب والطالبات». وفي هذا دعوة الى فصل المعلمين والاداريين الذين اتهموا في تلك الممارسات. لكن ليسمح لي الاستاذ الفاضل فهذا الاقتراح لا يحل أية مشكلة، لانه ببساطة يقتصر على علاج العيوب التي تتحول الى مشكلات مثيرة. ونعلم ان فصل موظف حكومي ليس سهلا او متعارفا، كما نعلم ان البيروقراطية لا تحاكم نفسها فضلا عن الادانة والعقاب.
الحل الامثل في ظني يكمن في وضع وتطبيق معايير صحيحة للعملية التعليمية، واريد الاشارة خصوصا الى اربعة من تلك المعايير.
الاول هو سيادة القانون، والغرض منه منع الاداريين والمعلمين من ايقاع عقوبات او اختراع الزامات ما لم يكن لها مرجع قانوني مقبول. فالمشاهد سواء في قطاع التعليم او غيره ان كثيرا من رؤساء الدوائر يصدرون تعليمات ملزمة وتنطوي على عقوبات من دون ان تكون لهم الصلاحية التي تخولهم بذلك. هذا التصرف هو بذاته جناية تستوجب العقاب للمدير او الموظف الذي يخول نفسه ما ليس حقا له، ويجبر الاخرين على الانصياع لما اراد من دون سند قانوني.
المعيار الثاني هو ربط تطبيق القانون بحقوق الانسان، ويتضح هذا خصوصا في العقوبات التي تنطوي على حط من الكرامة الشخصية للتلميذ او تعسف في العقاب او التصرف بدافع الغضب الخ. حقوق الانسان هي قيم حاكمة على كل قانون، وهي مصونة وجارية بمقتضى النظام الاساسي للحكم الذي تصدر عنه جميع قوانين البلاد.
المعيار الثالث هو الربط بين الصلاحيات والمسؤولية. يجب ان يكون واضحا للموظفين الحكوميين بانهم يتحملون مسؤولية كاملة عن اعمالهم، بمعنى ان كل تصرف سواء استند الى قانون او استند الى تقدير شخصي، قد يستدعي تقديم تبريرات مقبولة للغير اذا تسبب في مشكلة، وان عدم قبول الاخرين لهذا التبرير يحمل الموظف تبعات تصرفه. شعور الموظف بانه مسؤول امام آباء التلاميذ فضلا عن مرجعه الوظيفي سوف يحمله على التفكير مليا قبل الاقدام على فعل يستوجب المحاسبة والعتاب او العقاب.
اخيرا فاني ادعو وزارة التربية إلى تفعيل الفكرة التي طالما طرحت وطبقت احيانا، وهي تشكيل مجالس الآباء في كل مدرسة. هذه الفكرة التي اضعها كمعيار رابع، مطروحة منذ زمن بعيد ونفذت في بعض المدارس. لكن المشكلة تكمن في افتقار هذه المجالس إلى أية صلاحية واضحة وعدم وضوح العلاقة التي تربطها بادارة المدرسة، وقد شهدت بعض هذه المجالس فوجدت مدير المدرسة مُستثقلاً منها، منشغلا بتبرير كل خطأ يذكر، معارضا أي اقتراح او فكرة جديدة، فاذا اعيته الحيلة رمى الكرة في مرمى وزارة التربية بالقول ان الميزانية لا تسمح او ان هذه تعليمات الوزارة.. الخ.
لا اريد المبالغة بمثل المطالبة بتحويل مجلس الآباء الى مجلس امناء للمدرسة، او مجلس حكام كما يسمى في أوروبا، كما لا اريد المطالبة بجعل تعيين مدير المدرسة والاشراف على ميزانيتها ضمن اختصاصات المجلس، لكن الحد الادنى هو جعل صوت المجلس مسموعا في ادارة التعليم وايجاد طريقة قانونية لجعل النقد والاقتراحات موضع اهتمام في دوائر الاشراف التربوي.
خلاصة القول ان تطوير التعليم يحتاج فعلا الى المال لكنه يحتاج ايضا الى معايير للعمل والنقد والمحاسبة من خارج المنظومة البيروقراطية، واظن ان ادخال الآباء كطرف اساسي في مراقبة العمل التعليمي سيكون خطوة هامة في هذا السبيل.
https://www.okaz.com.sa/article/70221
 عكاظ 27/ ديسمبر/2006  العدد : 2019

13/12/2006

معالجة الفقر على الطريقة الصينية

 

||النموذج الصيني» يماثل نظيره الغربي في استقلال السوق (نسبيا) وحاكمية القانون والمساواة بين الناس ومنع استغلال السلطة||

نهضت الصين ولم يهتز العالم كما توقع الان بيرفيت في منتصف السبعينات. لكن التجربة الصينية في التنمية تتحول بالتدريج الى نموذج معياري في الاصلاح الاقتصادي والتحديث منافس للنموذج الكلاسيكي الذي تتبناه الولايات المتحدة الامريكية والمؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي. يتفق النموذجان في معظم المفاهيم القاعدية لفكرة التنمية، ولا سيما المعايير والمؤشرات الدالة على درجة التطور الاقتصادي، وكذلك العوامل المؤثرة في الانتقال من عصر التقاليد الى الحداثة، والأهداف الكمية لعملية التنمية.
الطبعة الاولى الفرنسية للكتاب
 لكنهما يختلفان في الاسلوب ويختلفان في المعايير غير الاقتصادية للنمو. الاسلوب الرئيسي لتحديث الاقتصاد في النموذج الكلاسيكي الغربي هو «العلاج بالصدمة»، الذي يقول ببساطة: دع آليات السوق تقرر مساره حتى لو تضرر البعض. يقوم هذا النموذج على مبدأ عميق الجذور في الفلسفة السياسية الحديثة فحواه ان عامة الناس اقدر من الحكومات على تحسين مستوى معيشتهم. الانسان بطبعه ميال الى توسيع مصالحه واملاكه وارباحه، ومن الافضل للحكومة ان تبتعد قليلا عن السوق وتفسح المجال للناس كي يتنافسوا من اجل الربح.
عندئذ سيبتكر هؤلاء الناس طرقا افضل للعمل والانتاج. لا يحتاج السوق الى قرارات حكومية لتحديد ما هو مطلوب وما هو متوفر، السوق نفسه يوازن بين العرض والطلب ويقرر مستوياته ونوعيته.
طبقا لهذه النظرية فان النجاح بالمعنى الاقتصادي مرتبط بالربحية.
 وقد اكتشف العالم سلامة هذا المفهوم الى حد كبير. ثمة قطاعات كانت تعتبر في الماضي موضوعا لسيادة الدولة وسلطانها، مثل التعليم والصحة العامة والامن والصناعات العسكرية والمواصلات.. الخ. لكن ظهر اليوم ان هذه القطاعات ستكون اقدر على النجاح والتطور اذا تركت للناس يديرونها في سبيل الربح. لا ينحصر تاثير السوق في زيادة الثروة والاستثمار، بل يتعداه الى تغيير هيكل العلاقات الاجتماعية، ولا سيما اعادة صياغة التراتب بين الناس وفق معايير الكفاءة والجهد الشخصي بدلا من الانساب والانتماءات السابقة للولادة.
 من هنا فان المجتمع الحديث، أي المجتمع الذي يدير معيشته على اساس مفاهيم السوق الحرة، سيكون اقدر من المجتمع التقليدي على ابتكار الاطارات اللازمة لاستيعاب الاجيال الجديدة من الافراد الاكفاء والطامحين سيما الذين يأتون من خلفيات اجتماعية متواضعة.
ابتعاد أية حكومة عن السوق لا يعني بالضرورة تخليها عن سلطاتها، بل اقتصارها على دور الحكم المحايد، او مدير اللعبة الذي يشرف على حسن تطبيق قوانينها ومنع العدوان. وعلى هذا الاساس فان تنمية الاقتصاد تتطلب – حسب هذا النموذج – التزاما قويا من جانب الحكومة بفرض قانون واحد يتسع للجميع ويتساوى امامه الجميع، ويتطلب مساواة مطلقة بين الناس في عرض الفرص والموارد والامكانات، خاصة تلك التي تعتمد على المالية العامة، كما يتطلب التزام السياسيين ورجال الدولة بالترفع عن ممارسة التجارة او استخدام نفوذهم للحصول على مكاسب تجارية.
يقوم «النموذج الصيني» على نفس هذه المفاهيم، ولا سيما ابتعاد الحكومة عن السوق وحاكمية القانون والمساواة بين الناس ومنع استغلال السلطة. لكنه يدعو في الوقت نفسه الى دور اكبر للحكومة في توزيع النمو من خلال توجيه الموارد المالية الحكومية الى المناطق الاكثر فقرا، وتحملها عبء الدراسات الضرورية لاستنباط موارد جديدة في هذه المناطق. بعبارة اخرى فانه يفصل بين المناطق الجاذبة للاستثمار التي ستنمو اوتوماتيكيا اذا افسحت الحكومة المجال امام القطاع الخاص المحلي والاجنبي، والمناطق النائية التي تفتقر الى عناصر الجذب الاستثماري، ويعطي للحكومة دورا اكبر في هذه المناطق، سواء على مستوى التخطيط او التمويل.
في الحقيقة: النجاح الاعظم الذي حققته الصين يرجع الى هذا التقسيم العقلاني الذي ركز على استئصال الفقر من دون التدخل المفرط في السوق. طبقا لتقرير اصدره صندوق النقد الدولي في العام الماضي فان الصين حققت ما يشبه المعجزة على صعيد مكافحة الفقر في عصر خلا تقريبا من المعجزات. عند انطلاق برنامج الاصلاح في 1978 كان 53 بالمائة من الصينيين في خط الفقر او دونه. لكن هذا الرقم انخفض الى 8 بالمائة فقط في العام 2003.
 ولم يتحقق هذا النجاح من خلال الدعم المباشر للفقراء او تحول الحكومة الى جمعية خيرية، بل من خلال التنظيم العقلاني للاقتصاد والتوزيع العادل للموارد، وهذا ما نفهمه من الارتفاع الاستثنائي للناتج الوطني الصيني الاجمالي خلال الفترة المذكورة من 44 بليون دولار الى 1425 بليون دولار، بمعدل سنوي يفوق 9 بالمائة، وهو ما يزيد عن أي معدل تحقق في أي بلد آخر في العالم.
الكتاب المشار اليه في المقدمة: آلان بيرفيت: يوم تنهض الصين يهتز العالم ، ترجمة هنري زغيب ، منشورات عويدات (بيروت 1974)

عكاظ 13 ديسمبر   2006  https://www.okaz.com.sa/article/66512

14/11/2006

الآراء الجديدة للشيخ العودة


  لابد ان كثيرا من الناس يشاركونني الاعجاب بالاراء الجديدة والمثيرة للاهتمام التي عبر عنها الشيخ سلمان العودة في برنامجه الاسبوعي الذي يبث ظهر الجمعة على قناة «ام. بي. سي.». هناك بالطبع من يرفض هذه الاراء وربما يشتم الشيخ بسببها، وهذه فئة لا تقدر على استيعاب أي جديد او التعامل مع أي تطور في الافكار او في الواقع، فهي ملتصقة بقديمها ولو تخلى عنه كافة العقلاء واهل العلم. هناك ايضا من يرفضها لانها في نظره، «اقل من المطلوب»، لكننا نقدرها كآراء في غاية الاهمية، بالنظر الى موقع المتحدث والطبيعة الاشكالية للموضوع، فضلا عن التوجهات السائدة في الاطار الاجتماعي الذي يمثله الشيخ ويخاطبه في المقام الاول.
  والعودة فقيه ذو شعبية معتبرة في المملكة العربية السعودية، وقد ظهر تطور واضح في منهجه خلال السنوات الاخيرة. حافظ الرجل على المقولات الاساسية المتعارفة في اطار التدين التقليدي، لكنه عدل كثيرا من تطبيقاتها، ولا سيما تلك التي لها علاقة مباشرة بالموقف من منظومات القيم الحديثة والعلاقة بين الدين والسياسة. وهذه التعديلات تكفي لاعتبار آرائه متميزة، وان لم تصل الى مستوى التبني الكامل لفكر الاصلاح الديني المعاصر.
اريد الاشارة خاصة الى آرائه الجديدة حول «الشيعة» والتي تعد استثنائية في اهميتها، سواء بالقياس الى ارائه السابقة المتحفظة او بالقياس الى الاراء المتشددة لبقية المشايخ الذين يشتركون معه في المنهج والبيئة الاجتماعية. ما يهمني في حقيقة الامر نقطتان تشكلان كما اظن ارضية للتفاهم بين التكوينات المذهبية والاجتماعية المختلفة في المجتمع السعودي.
تتعلق النقطة الاولى بدعوة الشيخ العودة الى جعل الوطن والمواطنة وليس الانتماء المذهبي - اساسا للعلاقة بين السعوديين.
هذه الفكرة وان بدت بديهية للكثير من الناس، لكنها ليست كذلك بالنسبة للفقهاء والتيار الديني «ولا سيما التقليدي منه».
فباستثناء الاقلية التي قبلت بالعقل مصدرا مستقلا للتشريع، واعتبرت المصلحة العامة «العرفية» لجمهور المسلمين معيارا للمفاضلة بين الاحكام، فان الاغلبية الساحقة من الفقهاء، من السنة والشيعة، لا ترى في المواطنة قيمة مستقلة او حاكمة على العلاقة بين ابناء البلد الواحد، فالناس عندهم يتفاضلون بحسب ايمانهم، وكل منهم يفسر التقوى في معنى الالتزام بالمذهب الفقهي او الكلامي الذي ينتمي اليه «باعتباره حقا والحق احق ان يتبع».
 وثمة تنظيرات فقهية مطولة تستهدف في مجموعها التأكيد على فكرة عدم المساواة بين الناس. وقبل بضعة اشهر اثار احد القضاة جدلا لم ينته حتى اليوم، حين مدد هذا المفهوم الى النسب وقرر ان التكافؤ فيه شرط للمساواة بين الناس، وحكم بالتفريق بين زوجين بالرغم منهما لان الزوجة تنتمي الى قبيلة اعلى نسبا وارفع شأنا من قبيلة زوجها. نفهم بطبيعة الحال ان هذه التنظيرات تنطوي على تعسف شديد في استعمال النصوص والقواعد الفقهية، وهي لا تصلح كأساس للعلاقة بين الناس في المجتمعات السياسية الحديثة.
تقوم الدول الحديثة على قاعدة المساواة الكاملة بين ابناء الوطن الواحد بغض النظر عن دينهم او مذهبهم او التزاماتهم الاخلاقية. وارضية هذه المساواة هي الشراكة في التراب الوطني وليس الاشتراك في الدين او المذهب او الولاء السياسي.
تحدث الشيخ العودة ايضا عن نقطة اخرى لا تقل اهمية عن سابقتها وان كانت تقوم على قاعدة نظرية اخرى، وهي ربط تطبيق الاحكام بالمصالح العقلائية. وقد استدل الشيخ بالسيرة النبوية في التعامل مع اهل مكة عند الفتح، وبسيرة قدامى المسلمين مع من يعيش معهم من اتباع الديانات الاخرى، ليخلص الى مقولة فحواها ان علاقة المسلمين من اتباع المذاهب المختلفة مع بعضهم البعض، وعلاقتهم مع غيرهم لا تبنى على الخلاف او الوفاق في العقائد والاراء بل على اساس المصالح العقلائية. فمع الاقرار بوجود الخلاف المذهبي بين الشيعة والسنة، او بين المسلمين وغير المسلمين، الا ان العلاقة بينهم لا تقوم على التقارب او التباعد في هذا الاطار، بل على المصالح العامة والضرورات العقلائية.
هذه الاراء الجديدة للشيخ العودة تمثل في ظني نقلة هامة وسيكون لها اثر ملحوظ في تحسين المزاج الاجتماعي، خاصة فيما يتصل باعادة تكوين الاجماع الوطني الذي تضرر كثيرا في السنوات الاخيرة بسبب هيمنة الجدل المذهبي على ساحة السياسة، وتحول الفروقات المذهبية الى مبررات للتمايز السياسي والاجتماعي.
   اتمنى ان يواصل الشيخ العودة طرح مثل هذه الافكار التي تعزز سلامة المجتمع وأمنه، كما تقطع الطريق على تجار الجدل والوصوليين الذين وجدوا في خلافات اهل المذاهب سلما يتسلقون عليه الى المراتب والمناصب والمال والشهرة.
   صحيفة الأيام البحرينية  14 / 11 / 2006م 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...