31/05/2016

ماذا جرى في 1984

الذي جرى ببساطة هو ان اسعار البترول بدأت تهبط بشكل حاد ، من 37 دولارا للبرميل في 1981 الى 28 دولارا في 1984 قبل ان تهوي الى 12 دولارا في 1986. كانت المملكة قد انتهت للتو من ثلاث خطط للتنمية ، غيرت تماما بنية البلد الاقتصادية ، فتضاعفت اعداد طلاب المدارس والجامعات ، واكتشف ملايين السعوديين متعة السفر الى البلدان الاخرى ، سائحين او دارسين. كما تعرف بعضهم – للمرة الأولى ربما – على مواطنين من بلاد لم يسمعوا باسمها سابقا ، جاؤوا عاملين في اجهزة الدولة والقطاع الخاص الذي اتسع بشكل لا سابق له.
بدأ الحراك الاقتصادي الجديد في 1971. وبعد عقد ونصف ، اصبحنا قادرين على ملاحظة ما يعرف اليوم بالطبقة الوسطى الحديثة ، اي مئات الالاف من المواطنين الذين تحسنت مداخيلهم ، فباتوا قادرين على ارسال ابنائهم وبناتهم الى المدارس ، والتمتع بعطلة نهاية الاسبوع ، والسفر لبضعة ايام او بضعة اسابيع خلال الصيف ، وتخصيص ساعة او ساعتين لقراءة صحيفة ومشاهدة التلفزيون كل يوم.
 وضعت برامج التنمية الاقتصادية وفق رؤية اقترحها معهد ستانفورد للابحاث ، تركز على محورية الحراك الاقتصادي في التنمية الشاملة. وهي رؤية مرجعها نظرية التنمية الكلاسيكية ، السائدة يومئذ في الاكاديميا الامريكية.
لعل المخططين تغاضوا عن المخرجات الثقافية والاجتماعية للنمو الاقتصادي. أو لعلهم فضلوا تأجيل بحثها حتى ظهور النتائج الاولية للحراك الاقتصادي. وهذا توجه كررته معظم المجتمعات النامية. لكن الواضح ان ذلك التأجيل قد تحول الى إغفال مزمن. في 1984 وجدت المملكة نفسها غير قادرة على مواصلة الانفاق بالمعدلات التي عرفتها خلال الخمسة عشر عاما الماضية. بل وصل الامر الى حدود اكثر حرجا. ففي العام 1986 قررت وزارة المالية تمديد العمل بميزانية العام السابق وعدم الاعلان عن ميزانية جديدة.
كل تحول اقتصادي يؤدي بطبيعته الى تحول ثقافي واجتماعي. من المستحيل ان تطلق تحولا اقتصاديا واسع النطاق وتحصر نتائجه وانعكاساته في اطار الاقتصاد. في ذلك العام انتبهنا الى حقيقة ان البلاد تفتقر الى نظام مؤسسي يستوعب التحولات الاجتماعية والثقافية العميقة التي جرت خلال عقد ونصف ، وابرز تجلياتها تبلور الطبقة الوسطى الحديثة. لو كان لدينا فائض مال ، فلربما امكن تسكين تلك التحولات او توجيهها نحو المزيد من الاثراء والرفاهية. لكن ايرادات البلاد تكفي بالكاد لتسيير الحاجات الاشد الحاحا.
في النصف الثاني من الثمانينات تعرف المجتمع على ما يعرف اليوم بتحول الهوية الفردية. وهو باكورة التحول الاجتماعي المغفل. وتجسد يومها في بروز نزعات قبلية ودينية تنطوي على ميول تخارجية عن المسار الاجتماعي العام. هذه النزعات ليست شيئا يمكن الحيولة دون ظهوره. غاية ما نستطيع فعله هو عقلنتها ، اي تطوير نظام قانوني/مؤسسي يتكفل باستيعابها وتوجيهها.
لا يمكن للدولة منع الناس من التعبير عن تطلعاتهم. ولا يمكن توفير ما يكفي من المال لتحقيقها. يميل العالم المعاصر الى تبني فلسفة مختلفة ، تتلخص في تمكين الافراد من السيطرة على اقدارهم ، وادارة حياتهم على النحو الذي يوصلهم الى السعادة ، بدل انشغال الدولة فيما ليس من مهماتها.
كي نحقق هذه النقلة ، يجب ان تتخلى الدولة عن دور الام/المربية ، الى دورالمخطط/المشرف ، فتكتفي بوضع القانون وتوسيع الاطارات المؤسسية التي تسمح للجمهور بأن يمسك باقداره ويتحكم في مجاري حياته ويدبر متطلباتها. عندئذ سيكون كل فرد حرا في خياراته ومسؤولا منفردا عن نتائجها.

الشرق الاوسط 31 مايو 2016 http://aawsat.com/node/654371

25/05/2016

حزب النهضة الجديد

"النهضة حزب سياسي ديمقراطي مدني مرجعيته قيم حضارية اسلامية وحداثية...نحن مسلمون ديمقراطيون ولم نعد جزء من الإسلام السياسي".
بهذه الجملة المحددة أعلن راشد الغنوشي ، زعيم حزب النهضة التونسي ، نهاية لتاريخ طويل من الالتباس الثقافي والسياسي ، نعتقد انه سبب رئيس للفوضى العارمة في السياسة العربية المعاصرة.
كشفت تجربة العقد الماضي عن فشل ذريع للتيار الديني في التعامل مع التحولات العميقة في عالم اليوم. يرجع هذا الفشل الى ثلاثة عوامل رئيسية ، هي أ) عجز التيار عن التحرر من جلباب التاريخ. ب) انزلاقه في الصراع الهوياتي. وتبعا لهذا توهم امتلاك الدين وتمثيله الحصري. ج) اخفاقه في تحديد الشريحة الاجتماعية التي يخاطبها ، الامر الذي شتت خطابه بين الهموم والانشغالات المتباينة للطبقات الاجتماعية.
يتلخص العامل الأول في سؤال: ماهي المرجعية الفكرية والقيمية التي نستمد منها الحلول الضرورية لمشكلات المجتمع والدولة المعاصرة ، هل هي تراث الفقهاء السابقين ام اجتهادات البشر المعاصرين. ويتلخص العامل الثاني في سؤال: ماهي العلة الجوهرية لتخلف المسلمين عن ركب الحضارة ، هل هي تآمر الغرب ، ام الانقسامات الداخلية ، ام فشلنا في الاجابة الصحيحة عن السؤال الاول. اما العامل الثالث فيلخصه سؤال: ما هي الطبقة الاجتماعية التي يريد الاسلاميون تمثيل مصالحها كي تحمل – في المقابل – مشروعهم السياسي. نعلم ان لكل شريحة هموم وانشغالات وتطلعات مختلفة ، تشكل كل منها أرضية لثقافة ومتبنيات خاصة ، بل – في معظم الاحيان – متعارضة مع نظيرتها في الطبقات الاخرى. فمن من هذه الطبقات هو المستهدف الرئيس بالخطاب السياسي للتيار الديني.
كانت تلك الاسئلة هي محاور الجدل التي قادت لانقسام حزب الرفاه التركي ، وقيام حزب العدالة والتنمية. لحظة قيام هذا الحزب قرر قادته تبني ايديولوجيا الدولة الحديثة بمرجعيتها القيمية والثقافية. قرر ان الشراكة مع الغرب هي الحل التاريخي لمشكلات التخلف ، وليس مصارعته ، وان الطبقة الوسطى المدينية هي حامل المشروع السياسي للحزب ، رغم انها – بالمعايير التقليدية – اقل تدينا من الطبقات الدنيا ، سيما الريفية.
حقق حزب العدالة نجاحات متوالية على مستوى الاقتصاد وتعزيز الهوية الوطنية والسياسة الخارجية ، وقدم للاتراك نموذجا لم يعرفوه منذ قيام جمهورية اتاتورك. يستند حزب العدالة الى فلسفة بسيطة: ان الحزب السياسي هيئة متخصصة في السياسة العامة ، يلتزم بالقيم الاساسية في الدين ، لكنه لا يستعمل الدين في السياسة ، ولا يستعمل السياسة في الدعوة.
قبل عشرين عاما تحدث راشد الغنوشي عن مسار مماثل. لكنه أراد الوصول اليه عبر المسار التقليدي ، أي إعادة تفسير التراث القديم. يبدو الآن انه مقتنع باستحالة إحياء الموتى. وان تجديد الفكرة الدينية مستحيل دون التحرر من جلباب التاريخ. هذا يعني التحرر من قلق الهوية ، الاتجاه للشراكة مع العالم وليس مصارعته.
المؤكد ان هذا التحول لن يمر دون خسائر. الشريحة التي تطمئن عادة للتقاليد الموروثة ستخرج من دائرة تاثير حزب النهضة ، وستفرز قادتها وتيارها الخاص. لكن من المرجح ان يزداد نفوذ الحزب بين الطبقة الوسطى المدينية. الأهم من هذا وذاك ان مجموعات كثيرة في العالم العربي سوف تجد في نفسها الشجاعة للسير في ذات الطريق. تحول حزب النهضة لن تنحصر انعكاساته في تونس. التيارات الدينية ، سيما الاخوان المسلمون ستشهد جدالات شديدة وانقسامات ، وسنرى نسخا من حزب النهضة الجديد في اكثر من قطر عربي.

الشرق الاوسط 25 مايو 2016 http://aawsat.com/node/648346

18/05/2016

الطريق الى 2030

اكثر ما أثار اهتمامي في (رؤية المملكة العربية السعودية 2030) هو تأكيدها على أننا نستطيع التغيير ، وأننا قادرون على صنع مستقبل أفضل من حاضرنا.

ركزت وثيقة الرؤية على الجانب الاقتصادي. وهناك بالطبع قضايا عديدة تشكل اجزاء ضرورية لبرنامج  التحول في معناه الشامل ، أهمها في ظني اربعة:
أ)  ترسيخ سيادة القانون وجعله سقفا فوق الجميع وحاكما على الجميع دون تمييز. هذا يعني بشكل محدد التقليص المنتظم للسلطات الشخصية للاداريين ، وتمكين عامة الناس من الرجوع دوما الى نصوص قانونية واضحة وثابتة. سيادة القانون وثباته عامل حيوي لتحفيز الاستثمار وتعزيز الأمل في المستقبل. تتطلع وثيقة الرؤية الى زيادة الاستثمارات الاجنبية المباشرة الى 5.7% واستثمارات القطاع الخاص الى 65% من الناتج القومي الاجمالي. ونعلم ان هذا غير قابل للتحقق من دون تخفيض معدلات المخاطرة التي يتسبب فيها عدم استقرار القانون ، او عدم حاكميته على الميول الشخصية للاداريين.
الشفافية التي تم التأكيد عليها في وثيقة الرؤية ستجد معناه الكامل اذا ترسخت سيادة القانون. العلنية والشفافية تمكن الناس من الحصول على المعلومات الضرورية للمنافسة العادلة ، وهي بالتاكيد تساعدهم على كشف خيوط الفساد واستغلال السلطة. لكن مجرد توفر المعلومات لا يكفي لقيام منافسة عادلة. القانون القوي والمهيمن على الجميع ، هو الذي يحمي حقوق جميع الاطراف ، أيا كانت مراكزهم او سلطاتهم.
ب)  مبدأ سيادة القانون يبدو أكثر ضرورة في المجتمعات التي تهيمن التقاليد على ثقافتها العامة ونظامها الاجتماعي. وقد رأينا هذا بوضوح فيما يخص حقوق النساء. اني اتفهم ميل السياسيين الى تأجيل الاستحقاقات المكلفة سياسيا. لكني أخشى ان نتغافل عن مواجهة الحقيقة الكبرى ، حقيقة ان اي مستقبل مختلف رهن بالتحرر من التقاليد المعطلة. اني واثق من ان قادة البلاد وصناع القرار يدركون الثمن الذي يدفعه المجتمع والاقتصاد بسبب التردد في حسم قضايا مثل "قيادة المرأة للسيارة". وهم بالتأكيد يعرفون ان اقتصاد المملكة يخسر ما لا يقل عن 30 مليار ريال سنويا على شكل تحويلات خارجية وتعطيل وفقد جانب من قوة العمل وكلف أضافية مرتبطة جميعا بعدم تمكين النساء من قيادة السيارات. اني واثق انهم يتطلعون الى يوم ننتهي من هذا كله ، ويعود النصف المعطل من المجتمع الى المساهمة الكاملة في الحياة العامة والاقتصاد الوطني. ولهذا ادعو بكل احترام الى تحديد موعد للافراج عن هذا الحق ، كجزء من رؤية موسعة للتحرر من التقاليد المعيقة ، وجعل القانون الواحد والعادل مرجعا وسقفا للجميع ، رجالا ونساء ، حكاما ومحكومين.
ج ) المفهوم الحديث للدولة ينظر اليها كجهة تخطيط وإدارة ، هدفها مساعدة المجتمع على تحسين حياته. المجتمع هو العنصر الرئيس والمستهدف في كل السياسات والقوانين. لكن فكرة "التحكم" هي المهيمنة على ذهنية الاكثرية الساحقة من الاداريين ، وفحواها ان كل شيء ممنوع مالم يوافق عليه جهاز حكومي ما. هذا المفهوم العتيق أشد عوامل التعطيل أثرا وأكثرها اساءة لعلاقة المواطنين مع الاجهزة الرسمية.
إني اخشى جديا من تعطيل المبادرات الخلاقة التي اعلنتها رؤية المملكة 2030 او تفريغها من محتواها ، اذا لم نعالج تلك الذهنية العتيقة ، اذا لم نرسخ مفهوم ان الاصل في كل شيء انه مباح ومسموح ما لم يكن ثمة قانون ينظمه او يمنعه. لهذا ادعو قادة البلاد الى التأكيد المكرر على هذا المبدأ ، كي لا تتعطل مشروعات التطوير ، لأن مديرا قصير النظر هنا او ضيق الأفق هناك لم يجد في أوراقه لائحة تقول ان تلك المبادرة مسموحة او مباحة.
د ) أكدت وثيقة الرؤية على تدعيم قنوات التواصل بين الاجهزة الحكومية والمواطنين ، ومشاركة المجتمع في المسؤولية عن نفسه ومستقبله. دعونا نتقدم خطوة اخرى الى المشاركة الشعبية المنظمة في الشأن العام ككل ، في القرار السياسي والاقتصادي وكل شأن آخر يتعلق بمجموع الناس ، حاضرهم ومستقبلهم. المشاركة الشعبية المنظمة من خلال المجالس المنتخبة  ، والمشاركة الشعبية من خلال منظمات المجتمع المدني وحرية التعبير المصونة بالقانون هي القناة الاوسع لتحمل الشعب المسؤولية الكاملة عن وطنه ، وهي الاداة الفعالة لتعزيز قوة الدولة وتحسين كفاءة الخدمات العامة.
بلادنا قادرة بعون الله على مواجهة تحديات حاضرها وصناعة مستقبلها عبر التعاون الفعال بين المجتمع والدولة. وكل ما نحتاجه هو فتح قنوات المشاركة والتواصل. رؤية المملكة 2030 التي أعلنت يوم الاثنين المنصرم خطوة أولى كبيرة ، نأمل ان تليها خطوات تعزز الأمل وتفتح أبواب المستقبل.
الشرق الاوسط 18 مايو 2016 http://aawsat.com/node/643041

04/05/2016

تمكين المجتمع ضرورة لنجاح التحول



الترحيب الواسع الذي حظيت به رؤية المملكة 2030 كان تعبيرا عن شوق عارم للتغيير. شوق يملأ نفوس السعوديين جميعا ، سيما الجيل الجديد الذي يريد مستقبلا مختلفا. هذا الجيل الناهض يعرف ان بلدنا تستحق اكثر مما حصل حتى الان ، وانها قادرة على اكثر مما فعلته حتى الآن.
لسنوات طويلة ابتلينا بفريق من العاجزين ، الذين لا يجيدون سوى التشكيك في قدرات المجتمع وأهليته لادارة نفسه وصناعة مستقبله. هذا الفريق ليس اشخاصا بعينهم ، بل مسلك اخلاقي وثقافي ، ينظر الى مجتمعنا كحشد من دراويش السلطان ، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً. تجد هؤلاء المثبطين في التعليم والاعلام والمجالس العامة والمنابر والبنوك وقطاع الأعمال ، وفي كل مكان.
لا زال الوقت مبكرا لوضع تحليل شامل عن رؤية المملكة 2030. علينا انتظار الاعلان عن "برنامج التحول الوطني" الذي سيخبرنا عن خطط العمل التي ستضع الرؤية قيد التنفيذ ، حتى بلوغ أهدافها المعلنة. لكني قلق من فريق التثبيط المذكور آنفا. أخشى ان ينهض مرة أخرى فيقنع المجتمع وأصحاب القرار بالطرق العتيقة ، التي ربما تقلب مفهوم التحول الشامل الى خطة انفاق واستهلاك كبرى ، تنتهي بشراء بعض المصانع ، وبناء بعض المطارات ، واعادة طلاء المباني وتجديد طباعة الكتب القديمة ، ثم اقامة احتفالات عظيمة بانتقال المملكة الى صف الدول الصناعية.
لقد فعلنا هذا سابقا. ويقلقني احتمال تكراره. منذ العام 1971 تبنت المملكة عشر خطط تنموية قصيرة الأمد. جرى التأكيد فيها جميعا على التنمية البشرية ، تنويع الاقتصاد ، وتوسيع قاعدة الانتاج. لكن جدالاتنا اليوم تبرهن على ان المنجز من هذه الاهداف كان أقل كثيرا من المستهدف والمأمول. ذلك ان فريق التثبيط المذكور لا يؤمن بخيرية البشر وأهليتهم لادارة انفسهم وحياتهم ، فهو ينظر اليهم كحشد في معسكر او حظيرة دجاج. كل فتاة وكل شاب في نظرهم هو "أبكم لا يقدر على شيء وهو كَل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير". ولهذا فعلوا كل شيء سوى تمكين المجتمع واشراكه والاعتماد عليه.
يعرف دارسو علم الاجتماع ان النهوض الاقتصادي يؤدي بالضرورة الى تحولات ثقافية واجتماعية ، وانكسار لمنظومات القيم وما يلحقها من تقاليد واعراف. ويؤثر هذا بعمق على الرؤية السياسية لافراد المجتمع سيما الشباب. ولهذا ميز الباحثون بين تنمية أحادية محورها تحسين حركية الاقتصاد ، وتنمية شاملة مستدامة تهتم ايضا بتمكين المجتمع من المشاركة في ادارة حياته وتقرير مساراتها.
تطمح رؤية المملكة 2030 الى تحديث شامل للاقتصاد الوطني. ونعلم من تجارب بلدان مثل الصين وكوريا وغيرها ، ومن تجربتنا الخاصة ، ان حراكا ضخما كهذا لن يحقق غايته دون مشاركة كاملة من جانب المجتمع. مشاركة المجتمع في القرار وفي التنفيذ هو الذي يجعل "التحول" الاقتصادي عملا يوميا في حياة الناس.
نحتاج اذن الى تطوير الاطارات الضرورية للمشاركة الشعبية. ونحتاج الى تطوير القانون كي يستوعب ويحمي التفكير الجديد والمبادرات الجديدة. يجب ان يشعر الناس جميعا بأن مشاركتهم قيمة ومؤثرة ، كي يعطوا من انفسهم وكي يتحملوا الصعوبات التي لا بد ان تظهر في مسار التحول.
يجب ان نغلق الطريق على فريق المثبطين ، الذين يريدون المجتمع كله متفرجا يصفق لهذا اللاعب او ذاك في مباريات الاقتصاد والسياسة. كي نبني أمة قوية فاعلة ، يجب ان يكون عامة الناس جزء من المباراة ، شركاء في صناعة الحدث ، لا متفرجين على اخباره.
الشرق الاوسط 4 مايو 2016  http://aawsat.com/node/631506

20/04/2016

قاعدة أبو ستة


يبدو ان العالم العربي بحاجة الى تكرار النموذج الليبي الذي عرفناه في القاعدة البحرية التي تحمل اسم "أبو ستة" كأسلوب لحل الصراعات التي انغمس فيها طوال السنوات الخمس الماضية.
لقد فوجئت ، واظن ان غيري من المراقبين قد فوجيء أيضا ، بالمبادرة الشجاعة للسيد فايز السراج ، رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية ، يوم اقتحم العاصمة طرابلس من دون جيش ولا مواكب ، ليعلن انطلاقا فعليا للحكومة الجديدة بعد أسابيع من التشكيك والتنازع والمعارك اللفظية.
طيلة السنوات التي تلت سقوط نظام القذافي أواخر 2011 تحولت ليبيا الى ساحة صراع بين قوى محلية واقليمية ، وظهرت فيها دعوات للفيدرالية. وتشكلت خلال هذه الازمة اربع حكومات على الأقل ، لم يسيطر أي منها على أكثر من مدينة واحدة. اما بقية المدن والارياف فكانت خاضعة لمليشيات محلية ، لبس بعضها رداء ايديولوجيا ، وانشغل آخرون بجمع المال من خلال تهريب البشر والبترول وكل شيء. وفي ظل هذه الفوضى العارمة ظهر تنظيم "القاعدة" واستولى شقيقها "داعش" على سواحل ذات اهمية جيواستراتيجية ، اكتشف العالم خطورتها بعدما وصلت مئات من قوارب المهاجرين الى شواطيء ايطاليا الجنوبية.
بذل مارتن كوبلر مبعوث الأمم المتحدة المكلف بمعالجة الازمة الليبية ، جهودا متواصلة على مدى العام الماضي. ونجح فعليا في اقناع المتنازعين بقواعد أساسية لانهاء الحرب الأهلية ، وحصل منهم على تعهدات صريحة بدعم الحل السياسي. كما نجح في استقطاب دعم اوربي وأممي لمشروع الانتقال السلمي. لكن يبدو ان كل طرف كان ينتظر حلا لصالحه في المقام الأول. وهذا يعني – بالضرورة - العودة الى مربع الحرب.
كانت سيطرة الميليشيات المعارضة للحل السياسي على طرابلس وموانيء تصدير البترول ، ابرز نقاط الضعف في مشروع الحل السياسي. فمن دون العاصمة ومن دون مصادر المال ، لن يتحمس أحد لدعم حكومة الوفاق الوطني. سعى بعض الأطراف لاقناع القوى الخارجية الداعمة لتلك الميليشيات ، بتسهيل الحل. وحاول آخرون اقناع حلف الناتو بتوجيه ضربات جوية ضد مواقعها لاجبارها على التراجع.
اما السراج فقد اختار طريقا آخر. في الثلاثين من مارس المنصرم ، ركب مع مجموعة من مساعديه قاربا حملهم من الشواطيء التونسية الى "قاعدة أبو ستة" البحرية في طرابلس. فور وصوله ، أعلن ان حكومة الوفاق موجودة فعليا في العاصمة ، وانها باشرت اعمالها. بعد هذا الاعلان بساعات قليلة ، تجاوبت عشرات البلديات والقوى الاجتماعية بتأكيد ولائها للحكومة الجديدة ، كما بدأ عدد من قادة الميليشيات المحلية وجنود الجيش السابقين في التواصل معها ، فيما يعني الاعتراف بها كحكومة شرعية لكل ليبيا.
هذا النوع من المبادرات يوحي بالطرق التي يسلكها الشباب والمغامرون ، الذين لا يعبأون كثيرا بحسابات الربح والخسارة والمخاطر والاحتمالات السيئة. انه – بعبارة اخرى – حل من خارج الصندوق.
بعد ثلاثة اسابيع من تلك المبادرة ، يشعر الليبيون انهم قد وصلوا الى نهاية النفق. الحكومة السابقة المتمردة بدأت تتفكك ، والقوات المسلحة النظامية بدأت تتشكل ، ووزراء أوروبيون بدأوا في التوافد على ليبيا ، تأكيدا على الدعم الدولي لحكومة الوفاق.
النموذج الليبي الذي تجلى في "قاعدة أبو ستة" يوحي بان أزمات العرب ومشكلاتهم باتت مستعصية على الحلول التقليدية. لعل حلولا من خارج الصندوق ، شبيهة لما جرى في ليبيا ، هي التي يحتاجها العرب اليوم.
الشرق الاوسط 23 مارس 2016

http://aawsat.com/node/620471

30/03/2016

الخلاص من ثقافة الانتحار

 

مقالة الصديق د. عبد السلام الوايل عن انماط الانتحار (الحياة 27-03-2016) واحدة من المقاربات الجادة التي تحاول وصف هذا السلوك بلغة علمية محايدة. ونعلم ان الوصف الصحيح لأي سلوك او ظاهرة مدخل ضروري لفهم حقيقتها ومن ثم دوافعها. د. الوايل عالم اجتماع جاد ومتفاعل مع ما يجري في المحيط من تحولات.

تبعا لعالم لإميل دوركايم ، عالم الاجتماع الفرنسي المعروف ، صنف الوايل انماط الانتحار الى ثلاثة : ايثاري ، أناني ، ولا معياري. وهو يميل الى الاعتقاد بأن انتحاريي المجتمعات التقليدية اقرب الى الصنف الاول ، فهم يمتازون برؤية عقائدية صلدة تحركهم للفداء ، بخلاف الانتحاريين القادمين من مجتمعات اوربية ، فهؤلاء اقرب الى الصنف الثالث الذي يجسد حالة ضياع بين نظامين قيمين متنافرين: نظام ديني موروث ، لكنه غير فاعل في الحياة اليومية ونظام علماني يضطره للتعايش معه والتعامل مع الزاماته.

اتفق مع د. الوايل بان انتحاريي المجتمعات العربية اقرب الى الصنف الأول "الايثاري". ويهمني هنا الاشارة الى سيرورة تحول الموروث الثقافي، الديني خاصة ، الى محرك للانتحار ، والدور الذي يمكن ان يلعبه التعليم العام في تعزيز التوازن الروحي بما يحول دون انقلاب فضيلة الايثار والفداء الى محرك لقتل النفس وقتل الغير.

اظن ان فكرة التنافر بين العالم الديني والعالم المادي الواقعي تشكل مفتاحا هاما لفهم تلك السيرورة ، وهي على وجه الدقة الموضع الذي يمكن لمؤسسات التعليم والتثقيف العام ان تلعب فيه دورها الرئيس.

سوف استعير من الشيخ يوسف القرضاوي عبارة "فقه المحنة" التي تصف تلك التحليلات التي تحاول تجلية الايمان من خلال تعزيز الارتياب في العالم. تظهر تمثلات هذا الخطاب في المراوحة بين تعظيم الماضي وتأثيم الحاضر ، وتنصرف الى جانبين ، هما المبالغة في جلد الذات والتأكيد على قصورها ، واتهام الآخر الحضاري ، سيما الغرب ، بالعدوان والتآمر والتكبر الخ.

هذا التمثلات ليست اكاذيب مخترعة من دون أصل ، بل هي تضخيم للوقائع ومبالغة في وصفها حتى تظهر كصورة وحيدة عن الذات (الآثمة) والعالم (المعتدي). تعميم هذه الصورة ينتهي – طبيعيا – الى الاستهانة بالعالم وما فيه ، بل وبالبشر الآثمين ، واعتبار التضحية بالنفس فداء للنموذج المتخيل ارفع الفضائل "والجود بالنفس اقصى غاية الجود".

 تبدو هذه التصورات بديهية عند عامة الناس ومثقفيهم. وهي تظهر بوضوح في التبادلات اللفظية العادية وفي الصحافة. وصم العامة بقلة الوعي والميل للتفلت ، والكلام المكرر عن الفارق بين حقيقة الدين وواقع المسلمين ، والتمثيل الانتقائي بقصص الاسلاف ، والتصوير المضخم لظلم الاخرين – سيما الغرب – للمسلمين ، تعبر جميعا عن تلك الثنائية الراسخة في الاذهان والقلوب.

الخلاص من التنافر الداخلي يتوقف على استبدال هذه الثقافة الانفعالية بأخرى تؤكد على الحركة التصاعدية (السننية) للتاريخ والتعدد الحضاري وشراكة البشر جميعا في المسؤولية عن مصير الكون.

لن يكون الاسلام اقوى اذا نشر المسلمون الرعب في العالم. نحتاج الى تصحيح المفهوم القائل بان علو الحق يعني استعلاء المسلمين وهزيمة البشر الاخرين. فهو يؤسس بالضرورة لمفهوم تنافري يبرر العدوان. كما يوسع الهوة بين العقل والواقع. علو الحق يتحقق اذا استجاب البشر جميعا لأمر الله في عمارة الكون ونشر الفضيلة. وهذا يقتضي مشاركة البشر جميعا في منع الحرب والعدوان ، وتعزيز اسباب السلم والعمران. الشراكة مع العالم هي المفتاح الذهبي للخلاص من التنافر بين موروث متخيل وعالم نتصوره آثما وبغيضا.

الشرق الاوسط 30 مارس 2016   -  https://aawsat.com/node/604356/

 

مقالات ذات علاقة

ابعد من تماثيل بوذا

اتجاهات في تحليل التطرف

احتواء الخطاب المتطرف

بحثا عن عصا موسى

تجربة التعامل مع العنف بين العلم والسياسة

تفكيك التطرف لتفكيك الإرهاب-1

تفكيك التطرف لتفكيك الارهاب-2

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

حول الحرية والعنف

حيثما كنت ، غول العنف في انتظارك

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

العامل السعودي

عودة للعلاقة بين الخطاب الديني وتوليد العنف

غلو .. ام بحث عن هوية

فلان المتشدد

القانون للصالحين من عباد الله

مجادلة اخرى حول الميول العنفية

المدرسة كأداة لمقاومة العنف

مقترحات لدراسة العنف السياسي

واتس اب (1/2) أغراض القانون

واتس اب (2/2) عتبة البيت

 



23/03/2016

أسس بنكا او ضع عقلك في الدرج



حسنا فعل د. حمد العيسى وزير التعليم بعرض رؤيته العامة لاتجاهات الاصلاح في النظام التعليمي وأبرز الصعوبات التي تواجه مهمته (الحياة 20-3-2016). هذه مسألة يعتبرها السعوديون اهم قضاياهم على الاطلاق.

دار معظم النقاشات المحلية في السنوات الاخيرة حول المحتوى العلمي للمناهج وكفاءتها في الاستجابة لحاجات سوق العمل. ويهمني هنا الاشارة الى جانب آخر ، هو فلسفة العمل داخل النظام التعليمي نفسه وانعكاسه على نظيره في السوق.

خلال الثلاثين عاما الماضية زاد عدد السعوديين الذين تخرجوا من جامعات غربية او درسوا تخصصات علمية بحتة داخل المملكة عن نصف مليون. لكن مازلنا نستعين بخبراء وشركات استشارية اجنبية ومقاولين اجانب في تنفيذ معظم المشروعات الكبرى.

هذا لا يدل على ان طلابنا غير مؤهلين ، بل يؤكد ان "بيئة العمل" سلبية في التعامل معهم. نجاح الاستشاري والمقاول الاجنبي لا يرجع لكفاءة موظفيه بل كفاءة منظومة العمل. تعرفت في السنوات الاخيرة على عشرات من الشبان السعوديين ، كانوا مغمورين في وظائف ثانوية  في القطاع الحكومي او في شركات محلية ، فلما انتقلوا الى شركات اجنبية ، اصبحوا "بيضة القبان". ظهرت كفاءاتهم وقدراتهم ، وباتوا العصب الرئيس لهذه الشركات.

لطالما سألت – مازحا – اصدقائي العاملين في البنوك: متى ستملك بنكك الخاص؟. هؤلاء الشبان يديرون اعمال البنك اعلاها وادناها ، فلماذا نشعر بالحاجة الى "مشرف" امريكي او بريطاني او هولندي او فرنسي؟. هذا الكلام بعينه ينطبق على معظم مقاولي ارامكو مثلا. فالمهندس السعودي يشارك في وضع المخططات ويدير تنفيذها. فمتى سنثق بقدرته على استلام العمل كاملا؟.

في "بيئة العمل السلبية" يقتصر دور الموظف على اتباع قائمة تعليمات وضعها آخرون. هذا يساوي غالبا ان يضع عقله في الدرج حتى نهاية الدوام.

اول الطريق لتصحيح بيئة العمل ، هو تطبيق مفهوم "الشورى" ، اي النظر لمجموعة العمل كفريق مسؤول عن منظومة ، يتشارك في النقاش حول اهدافها ووسائلها وحقوق اعضائها وواجباتهم ومعايير النقد والمحاسبة على تلك الاعمال.

-         هل للمدرسة او الجامعة دور في هذا؟

اشار الوزير العيسى في مقاله الى "التلقين" كمحور لعلاقة المدرسة بالطالب. وهذا في ظني جوهر مشكلة التعليم في العالم العربي ككل. يقوم التلقين على فرضية ان الطالب عنصر سلبي منفعل ، كأس فارغ يملأه الكبار.

نحن نحتاج لتعزيز الروح الجمعية في الجيل الجديد ، لكنا نواجه حقيقة مزعجة فحواها ان قيمة الفرد غفل في ثقافتنا العامة ، نعتبر الشاب مجرد "برغي" في مكينة المجتمع ، يزرعه ويديره اخرون ، ويبقى فعله ودوره مشروطا بارادة الاخرين. هذا الفهم الاعوج سائد في علاقة المعلم بالطالب وفي علاقة المعلمين بالادارة وعلاقة المدرسة بمدير التعليم والوكيل والوزير. انها سلسلة كاملة قائمة على علاقة سلبية من الادنى للاعلى.

حين ينتقل الطالب الى العمل ، فسوف يطبق ما تربى عليه ، ما ألفه وعرفه. بعبارة اخرى فان بيئة العمل السلبية هي نتاج لفلسفة سلبية بدأت في المجتمع والمدرسة.

زبدة القول ان للتعليم العام دورا مؤثرا في تصحيح بيئة العمل ، بما يؤدي الى تمكين الشباب من الامساك بمفاصل الاقتصاد الوطني ونظام الخدمات العامة. لكن هذا مشروط بتصحيح بيئة التعليم والعمل في المدرسة وفي وزارة التعليم نفسها. لا يمكن للوزارة ان تعالج مرضا في المجتمع ما لم تبدأ باكتشافه وعلاجه في جسدها الخاص. اذا اصبحت بيئة العمل في المدرسة ايجابية تفاعلية ، فسنرى انعكاسها في السوق ، والعكس بالعكس.

الشرق الاوسط 23 مارس 2016 http://aawsat.com/node/598476

مقالات ذات صلة


أسس بنكا او ضع عقلك في الدرج

 اول العلم قصة خرافية

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

سلطة المدير

فتاة فضولية

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

التخلي عن التلقين ليس سهلا

هوية سائلة؟

21/03/2016

​توفيق السيف: جوهر العلاقة بين السعوديين ديني... وهذا خطأ


​حوار خاص مع “إيلاف” 2/1
هل سبق سمعت أبًا يحدث ابنه عن حقوق الولد على أبيه ؟ هل سمعت خطيبًا في مسجد يتحدث عن حقوق المواطن على الدولة، على الدين، وعلى الوطن؟

أحمد العياد -

يصر توفيق السيف السعودي الشيعي على أن مفهوم المواطنة في السعودية لم ينضج بعد لأنه قائم على انتماء ديني لا وطني، فالعلاقة بين المواطنين السعوديين قائمة على أرضية الدين، وهذا برأيه خطأ واضح.
-    الحكومة لا تملك البلد، بل تديره وتدبر أموره وتحميه، ومن يملك البلد هم الناس.
-    لا أرى أن المثقف صاحب رسالة، بل هو صاحب حرفة كالطبيب والتاجر والمهندس.
-    نعرّف عروبتنا كمقابل للغرب، وإسلاميتنا كمقابل لكفر هذا الغرب.
-    لا فائدة في مجلس التعاون. فدوله لا تستطيع اضافة شيء إلى المملكة، لا سياسيًا ولا اقتصاديًا ولا أمنيًا.
-    الجميع يتحدث عن الولاء للوطن، ويقصد تأييد سياسات الحكومة، وهذا خطأ.
-    إننا بحاجة إلى فهم جديد للدين، منسجم مع الأفق التاريخي لعالم اليوم، يجعلنا أكثر قدرة على المساهمة في عمران الأرض وصناعة مستقبل العالم.

القطيف: الدكتور توفيق السيف مفكر وباحث ديني وسياسي سعودي، مهتم بقضايا التنمية السياسية. ولد في القطيف في 11 كانون الثاني (يناير) 1959، وهو عضو في مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، وفي منظمة العفو الدولية في لندن، وكاتب في جريدة الشرق الوسط السعودية. ساهم في العديد من الدورات العلمية في الفلسفة والاقتصاد وعلوم الإدارة وحقوق الإنسان والعديد من الدورات في القانون

السيف معروف بأنه مفكر سعودي شيعي، يقول في حوار مفتوح مع “إيلاف” إن التأزم الخاص بـ”الهوية” هو من أسباب حالة التوتر السائدة في المجتمع السعودي.

يأخذ السيف على العالم الاسلامي تكراره الحديث عن عداء الغرب للعرب والمسلمين، واصفًا ذلك بأنه ليس صالحًا، “لأنه ليس جزءًا من مشروع للاستقلال عن الغرب، بل مجرد تبرير للفشل والدوران حول الذات”، داعيًا المسلمين إلى أن يتفهموا العالم وأن يحبوه، فلدى العالم الكثير مما يستحق أن يتعلموه ليكونوا تاليًا شركاء في انتاج العلم

وفي ما يأتي متن الحوار

في مقالتك “رأي الجمهور” قلت إن الإنصاف يقضي أن تشاور الحكومة شعبها في كل سياسة أو قرار قبل اعتماده رسميًا... ما معيار علاقة المجتمع بالدولة؟

حقوق أفراد المجتمع قائمة على مبدأ اساس هو ملكية الناس تراب وطنهم. الحكومة لا تملك البلد، بل تديره وتدبر أموره وتحميه. من يملك البلد هم الناس، إذا افترضنا أن السعوديين عشرون مليونًا، فأنت كمواطن سعودي تملك حصة واحدة من عشرين مليون حصة في كل شبر من المليوني كيلو متر مربع التي تشكل مساحة المملكة. السعوديون يملكون وطنهم، مثلما يملك كل شعب ارض وطنه. وهذا المُلك حقيقي شرعي ثابت، وبالتالي نحتاج لمدير يديره. بديهي أن على المدير- أخلاقًا وقانونًا - أن يستشير المالكين حين يتصرف في أملاكهم وباقي شؤونهم

من ناحية أخرى، ثمة رواية تنسب للامام علي بن ابي طالب: "من شاور الناس شاركهم عقولهم". ما يحدث الآن هو أن 5 أو 10 أشخاص فقط يقررون أمور البلد، ربما يكونون متخصصين وربما لا يكونون، لكن المنطق يقول إنك حين تستشير عددًا كبيراً من الناس تحصل على مادة غنية جدًا تثري التفكير والبحث والقرار، حتى لو لم تلتزم بآراء الجميع. من المهم للمواطنين أيضًا أن يناقشوا القضايا التي تعتزم الحكومة تبنيها كسياسات أم قرارات، كي يعرفوا مستقبلهم وما هم مقبلون عليه، وكي يعرف صاحب القرار رأي شعبه في توجهاته، حتى لا يطرح شيئًا ضد عواطفهم وآمالهم.

ماهو مكان المثقف ما بين المواطن والدولة؟

قد أكون رجعيًا بعض الشيء. فأنا لا أرى أن المثقف صاحب رسالة، ولا عليه مسؤولية تجاه المجتمع، بل هو صاحب حرفة كالطبيب والتاجر والمهندس. دور المثقف هو انتاج الثقافة والتعبير عن رأيه فقط، وليس من واجباته أن يكون مرشدًا للحكومة ولا للجمهور. باختصار، لا مسؤولية عليه غير المسؤوليات التي على الناس الآخرين.

لماذا أحتاج عدوي

لطالما تحدثت في مقالاتك وكتبك عن مشكلة الهوية والأقليات، وقلت إن استبعادها من النقاش لا يحل المشكلة. ماذا يعني ذلك؟

عالجت قضية الهوية من زاوية سوسيولوجية، وهي مشكلة حادة لكنها ليست موضع اهتمام في بلدنا. مسألة الهوية ليست خاصة بالأقليات وحدها، واعتقد أن التأزم الخاص بالهوية من أسباب حالة التوتر في المجتمع السعودي، وهي – لهذا السبب – سبب بعض حالات العنف، سواء ضد الزوجات أم الأبناء أم الأطفال أم المخالفين أم المختلفين أم الدولة. من الأخطاء التي ارتكبناها في مناهجنا التعليمية وفي الإعلام وفي المنابر الدينية أننا استعملنا التعريف بالضد كأساس للتعرف على الذات (أي تشكيل هويتنا الخاصة). فحين نصف انفسنا، فاننا نعرف عروبتنا كمقابل للغرب، واسلاميتنا كمقابل لكفر هذا الغرب، أي أن الإنسان يطالع الآخرين ثم يحدد هويتهم، معرفًا نفسه وهويته بما هو نقيض لهويتهم. وطال الحديث عن المؤامرة الغربية، وعن أننا ضحية لهذه المؤامرة، وأن الإسلام كان عظيمًا ويومًا ما سنعود، في مبالغة في وصف التاريخ والعودة اليه عززت بشكل عميق جدًا تعريف الضد كأساس لتعريف الذات. لذلك، على سبيل المثال، عندما تأتي بشيخ أو داعية أو رجل متأثر بالدعاة أو حتى متأثر بالتعليم المدرسي العادي وتطلب منه وصف نفسه فلن تسمعه يتحدث عن قبيلته وتراثها، كيف يلبس الناس وكيف يعيشون، ولن يتحدث عن المزارع والاشجار والجبال وجماليات الحياة في قريته او مدينته، بل سينصب حديثه على الغرب والإسلام، المفارقات بين "نحن" و "هم"، وكيفية التغلب عليهم. هذا انتج - كما اظن - نفوسًا متوترة. التوتر يحتاج إلى تفريغ وتبرير. وقد وجدنا موضوعًا لتفريغ توتراتنا الداخلية في أميركا وفي العالم عمومًا. فتحولت الريبة والعداوة إلى مضمون شبه وحيد لعلاقتنا مع الغرب والعالم

وهل هذا أمر سيئ جدًا؟

هذا ليس سيئًا جدًا، أو على الاقل ليس سيئًا دائمًا، لكن واقع الحال يُخبرنا أن نتائجه الفعلية كانت سيئة. أنت ترتاب من الأميركيين لكنك مضطر لاستعمال منتوجاتهم. تشعر بالحاجة إليهم وتكرههم في الوقت ذاته. هذا يولد توترًا في داخل الانسان يعمّق شعوره بالصغر. شخص كهذا سيواجه أسئلة في داخله، مثل: لماذا أحتاج لعدوي؟ لماذا لا أتحرر منه؟ هذا يتعلق بالتفريغ.

أما ما يخص التبرير فيأتي عن طريق تفسير انتقائي للنصوص المرجعية، مثل الآية المباركة ﴿ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم﴾. هذا التفسير الانتقائي ينتج ذهنية مرتابة في العالم. كان بامكاننا – بطبيعة الحال – أن نحول الارتياب أو العداوة إلى محرك للإبداع والانتاج اللذين يؤديان إلى الاستقلال عن العدو المفترض. يمكننا أن نفعل ما فعله الصينيون بعد برنامج الإصلاح الإقتصادي عام 1980، حين قرروا أن يكونوا مصنع العالم. نحن نستطيع أن نكون مصنع العالم مثلهم. في الصين اليوم أكثر من 200 ألف شركة أجنبية، وأكبر عدد من الطلبة المبتعثين في اوروبا واميركا. ومع كل ذلك فهم لم يتنازلوا عن هويتهم ومصالحهم، ولم يسلموا بلدهم للدول الاجنبية، بل أعادوا بناءها، بتقليد العدو اولًا، ثم الاستقلال عنه. نحن السعوديين والمسلمين اجمالًا، نحتاج إلى التحرر من التوجس والارتياب في العالم. اذا كنا نكره العالم، فعلينا أن نتعلم منه كي نتجاوزه، لا أن ندور حول أنفسنا وماضينا، ثم نفرغ قهرنا في انفسنا وفي اهلنا وبلدنا

لكن العالم يعادينا؟

تكرار الحديث عن عداء الغرب للعرب والمسلمين ليس صالحًا، لأنه ليس جزءًا من مشروع للاستقلال عن الغرب، بل هو مجرد تبرير للفشل والدوران حول الذات. لهذا السبب اضراره كارثية. من الاحسن لنا أن نتفهم العالم وان نحبه، وان نعتقد بعمق أن لدى العالم الكثير مما يستحق أن نتعلمه، ثم – في المرحلة التالية – نكون شركاء في حياة العالم، في انتاج العلم وحماية البيئة الكونية، واستئصال الفقر وتعميق التكنولوجيا، ونشر الفضائل الاخلاقية والتجربة الروحية. البشر الذين يعيشون معنا على هذا الكوكب إخوة لنا في الانسانية، عباد الله مثلنا، شركاء لنا في كوكبنا، وحقنا المشترك كبشر وكعباد لله أن نتشارك في عمران هذا الكوكب وصناعة مستقبل افضل لاجيال البشرية التي ستأتي بعدنا، بدل أن نورثهم مبررات اضافية للتنازع والكراهية والتوتر.

زبدة القول في موضوع الهوية، اننا بحاجة إلى مراجعة فهمنا لأنفسنا، أن نتجه إلى التعريف الايجابي للذات بدلًا من التعويل على مقارنة سلبية مع الغير. نحن بحاجة لإعادة التأمل في اسئلة مثل: ماذا يعني أن تكون سعوديًا؟ ماذا يعني أن تكون عربيًا؟وماذا يعني أن تكون مسلمًا؟.

تقول إن ثمة إشكالية بين الإلتزام الديني والحرية الشخصية؟

الحرية مشكلة في ثقافتنا ككل، سببها أن تراثنا لا يقدس الحق بل يقدس التكليف والواجب. سَل نفسك: هل سبق أن سمعت أبًا يحدث ابنه عن حقوقه "المقصود حقوق الولد "؟ هل سمعت خطيبًا في مسجد يتحدث عن حقوق المواطن على الدولة، على الدين، وعلى الوطن؟ نربي اطفالنا على مبدأ أن الولد الطيب هو من يعرف واجباته فيلتزمها لا من يعرف حقوقه ويطالب بها. نحن نعلم اولادنا ما يجب عليهم وليس ما يحق لهم. فكرة أن الإنسان له حقوق تقوم على أساسها تكاليف ليست موجودة عندنا. الثقافة المبنية على أولوية الواجب والتكليف تنتج شخصًا مقهورًا. ثم نأتي بالدين ونضعه وسط هذه الواجبات ونعتبره مبررًا لها. أعتقد أن هذا ليس من الدين بشيء. محور التدين هو تكليف فردي، وأن كل انسان مسؤول عن نفسه. أنا مسؤول عن أعمالي أمام الله. لكن كيف أكون مسؤولًا من دون أن أكون حرًا مختارًا؟ يجب أن يكون الإنسان حرًا قادرًا على الإختيار حتى يكون مسؤولًا عن تصرفاته وخياراته. ما يحدث حاليًا في المجتمع هو استعمال الدين مبررًا لثقافة اجتماعية تقدس الواجب والتكليف وتلغي الحق. وهذا في ظني جوهر اشكالية العلاقة بين الالتزام الديني والحرية الشخصية.

"التعاون" بلا جدوى

السعودية تقود تحالفًا لإرجاع الشرعية إلى اليمن. متى تنتهي الحرب؟

تنتهي الحرب إذا تنازل كل الأطراف أو تنازل أحدهما أو انهزم، أو قبلا بالمفاوضات طريقًا لحل الخلاف. لا مشاكل سياسية مستحيلة. ثمة أدوات إقليمية مثل الجامعة العربية ومنظمة التعاون الاسلامي، وثمة أدوات دولية مثل الامم المتحدة يمكن تفعيلها للتوصل إلى حل. ففي سوريا، نجح مجلس الأمن في الايام الاخيرة في فرض وقف اطلاق النار، على الرغم من أن عشرات الأطراف تشارك في هذا الصراع. هذا مثال على فائدة الادوات الدولية. حين تقف الحرب تولد فرصة للبحث عن حلول سياسية.

قلت إن مجلس التعاون الخليجي عبء على السعودية. كيف ذلك؟

بصراحة... لا أرى فائدة في مجلس التعاون. فدوله لا تستطيع اضافة شيء إلى المملكة، لا على المستوى السياسي ولا الاقتصادي ولا الأمني. لعلك تعلم أن الحجم الاقتصادي لجزء من المملكة هو المنطقة الشرقية يزيد عن حجم دول مجلس التعاون الأخرى مجتمعة. وأنا هنا لا أطالب بالتخلي عن العمل مع مجلس التعاون، لكن أرى أن لا يجب الإنشغال به أكثر من اللازم. من الاصلح للمملكة أن تركز على الدول التي تناسبها حجمًا أو مكانة، كالجزائر وتركيا وايران والعراق والهند وباكستان ومصر واندونيسيا وماليزيا وجنوب افريقيا، فضلًا عن الدول الصناعية.

ليس في الإنشغال بالدول الصغيرة من ضرر، لكن لا جدوى من عقد الآمال عليها. واقع الأمر أن كل ما يحدث في "التعاون" يبدأ من المملكة وينتهي فيها. لو قررت السعودية عدم حضور اجتماع للمجلس فلن ينعقد الاجتماع، ولو قررت عدم المشاركة في عمل فلن يبدأ. لا أدعو إلى ترك المجلس، بل إلى عدم المبالغة في الانشغال به والتعويل عليه.

مبدأ المواطنة غير ناضج

ما سبب التشكيك الدائم بانتماء المواطن الشيعي للدولة؟

الحل تعزيز فكرة المواطنة. هناك انطباع منتشر جدًا فحواه أن علاقة المواطنين ببعضهم قائمة على ارضية الدين، وهذا خطأ واضح. كل انتماء ديني ينصرف – سياسيًا – إلى انتماء طائفي. هناك دائما، الآن أو في الماضي أو في المستقبل، مواطنون لا يؤمنون بنفس ديننا او لا يقبلون نفس قراءتنا الدينية، فهل نلغي شراكتهم في ارض وطنهم؟ 

مبدأ المواطنة ومفهوم الوطن ليسا قائمين على ارضية الدين، ولم نأتِ بهما من التراث الإسلامي، بل أخذناهما من الدولة القومية الحديثة التي ولدت في معاهدة وستفاليا، وتكرس كحقيقة متفق عليها في النظام الدولي بعد قيام عصبة الامم ثم منظمة الامم المتحدة. هذا المفهوم يقرر أن جميع حملة الجنسية في بلد معين هم مواطنون متساوون بغض النظر عن دينهم وعرقهم وتاريخهم. وكل من لا يحمل نفس الجنسية أجنبي حتى لو كان أهله من مواطنيها، أو كان ينتمي إلى نفس دينها ومذهبها وقوميتها. في عصر الدولة القديمة السابق لمعاهدة وستفاليا، كان اتباع ديانة او مذهب محدد يعتبرون رعايا لحكومة الدولة التي تتبنى ذلك المذهب. الأخذ بهذا المبدأ القديم يعني الغاء الحدود السياسية والسيادة الوطنية، بحيث تكون المملكة مسؤولة عن اتباع المذهب السلفي في الجزائر مثل مسؤوليتها عن المواطن السعودي، ويحصل اتباع المذهب الحنفي في افغانستان على نفس حقوق المواطن المصري، وتكون الصين مسؤولة عن الماليزيين ذوي الاصول الصينية، وهكذا. لكن واقع الحال أن السعوديين، حكومة وشعبًا، رضوا بالمفهوم الحديث للدولة الذي يقول إن جميع الذين يحملون جنسية البلد مواطنون متساوون مع بعضهم في الحقوق والواجبات. وكل من لا يحمل جنسية البلد أجنبي، حتى لو كان أخي أو أبي. هذا التوزيع البسيط أقام علاقة قانونية بين سكان البلد اسمها المواطنة. لو اختلفت ديانتنا نظل مواطنين يجمعنا وطن واحد. لذا لا يجوز محاسبتي على اختلافي في العقيدة والمذهب. أنا أملك حصة في ارض وطني مثلما تملك أنت. لا يحق لك أن تطالبني باثبات مواطنتي كما ليس لي الحق في مطالبتك، ولا تطالبني بمشابهتك واتباع فهمك الخاص او ايمانك، كما لا اطالبك.  وما زال مبدأ المواطنة هذا غير ناضج ولا متجذر في الثقافة السياسية العربية، وفي بلدنا خاصة. فتضخم الجانب الديني في التعليم والاعلام والسياسة عمّق المشكلة، ومن يرى نفسه "اكثر تدينًا" يطالب غيره بأن يكون مثله كي يعتبره مواطنًا صالحًا

وماذا عن الولاء للوطن؟

الجميع يتحدث عن الولاء للوطن، ويقصد في حقيقة الأمر تأييد سياسات الحكومة. هذا خطأ. الولاء للوطن تعبير عن علاقة مع كيان قيمي ومادي ثابت ومشترك. اما سياسات الحكومة فهي مرتبطة بمصالح وظروف متغيرة. ليس من واجبات المواطنين تأييد كل سياسة للحكومة، بل واجبهم التزام القانون. الموقف من السياسات هو من الحقوق التي لك كمواطن أن تؤيدها أو تعارضها، بناء على اسباب تتعلق بالصالح العام او المصلحة الشخصية. لهذا يعارض التجار سياسات السعودة، كما يعارض الكتاب سياسات الرقابة، ومع ذلك لا أحد يشكك في وطنيتهم

نذكر بفخر الأميركيين الذين عارضوا حرب فيتنام، مثل الملاكم المسلم محمد علي كلاي، ولا نعتبره خائنًا لوطنه. كما نذكر بالخير اليهود الذين يعارضون السياسات الاسرائيلية، والاوروبيين الذين يدافعون عن حقوق المهاجرين المسلمين إلى اوروبا. فهذه معارضة لسياسات وقوانين جارية، لكنها لا تجرح وطنية اصحابها، بل تعد فخرًا لهم، لأنهم تمسكوا بقيم عليا في مجتمع يؤمن بالتعددية والتنوع.
فالسياسة إذًا ليست منتوجات قيمية لا تتغير. طبيعة القيم أنها ثابتة، أما السياسات فتتغير. السياسة هي عمل الحكومة أما الوطن فهو كينونة قيمية. وتأييد سياسات الحكومة موضوع مختلف تمامًا عن الولاء للوطن. ربما تسجنني الحكومة إذا خالفت قوانينها، لكنها لا تستطيع أن تقول إني لست سعوديًا. وعودة إلى موقف الشيعة، اجد كثيرًا من الناس، حتى بين النخبة، منزعجين لأن الشيعة اتخذوا مواقف مباينة لموقف الحكومة في قضايا محددة، ولا سيما تلك التي تحمل ظلالًا طائفية. لا ألومهم لكني لا اعتبرهم محقين في موقفهم

لكنك متهم بالولاء لإيران؟

يتهمني كثيرًا من الناس بالطائفية والولاء لإيران، وقال كاتب ينتمي لتيار ديني سياسي معروف أن توفيق السيف طائفي لأنه لم ينتقد في حياته رأيًا دينيًا للشيعة أو موقفًا للحكومة الايرانية. لمح إلى أن هذا دليل على اني خائن لوطني، وهو كلام يدل على جهل. كتبت اربعة كتب في نقد الفكر الديني والسياسي الشيعي، كما كتبت نقدًا موسعًا لنظرية ولاية الفقيه في أكثر من كتاب بينها "نظرية السلطة في الفقه الشيعي". وكتبت دراسة مفصلة في نقد الأنموذج السياسي الايراني، منشورة بعنوان "حدود الديمقراطية الدينية". لا اخفي انني اتبنى أنموذج الديمقراطية الليبرالية في السياسة، ونسبية المعرفة في الدين والفلسفة. ولي في هذا عشرات المقالات والدراسات. اعذر هذا الكاتب وامثاله لانهم لا يقرأون سوى ما ينشره تيارهم الخاص. لكني، مع كل ذلك، لا أرى أن من واجبي معارضة إيران أو نقد الشيعة، كما لا أرى من واجبي معارضة الحكومة السعودية أو أي حكومة أخرى أو نقد أي مذهب، ولا من واجبي مدح هؤلاء ولا اولئك او الدفاع عنهم. لا أقبل أن يأتي شخص ليشكك في وطنيتي بناءً على رأي في سياسات الحكومة او موقف منها. أقول رأيي لأنه حقي، سواءً خالف رأيك أم وافقه، وسواءً انسجم مع سياسات الدولة أم خالفها. لا علاقة لهذا من قريب ولا بعيد بوطنيتي وايماني بوطني.


​​حوار خاص مع إيلاف 2/2
توفيق السيف: نحتاج فهمًا جديدًا للإسلام
أحمد العياد 
يصر توفيق السيف على أن السعودي الشيعي سعودي أولًا وأخيرًا، لا تنتقص آراؤه السياسية من حقيقة انتمائه الوطني، مقترحًا تغيير مسار الاجتهاد، وتقديم فهم جديد للاسلام يتماشى مع الواقع.

القطيف: في الجزء الثاني من حواره الخاص مع "إيلاف"، يقول الدكتور توفيق السيف إنه سعودي أولًا، قبل أن يكون شيعيًا، وإن مشروع التقارب السني الشيعي ذهب في الطريق الخطأ، “من ذلك مثلًا أن مشروع الحوار الوطني حصر فكرة الحوار في العلاقة بين المشايخ، فجمع شيوخ السنة والشيعة والسلفية والصوفية، وقال لهم تفاهموا”، متسائلًا إن كان الشعب السعودي متمثلاً في المشايخ وحدهم، ومجيبًا نفسه: "قطعًا لا".

يضيف: “علاقة الشيعة بمراجع الدين من القضايا التي خاض فيها بعض المشايخ في بلادنا، بناء على تصورات ذهنية خاطئة، لا علاقة لها بالواقع"

كما يقترح السيف تغيير مسار الاجتهاد، بحيث يبدأ من تعريف مقاصد الشريعة، أي الاغراض التي من اجلها شرع الدين، “وقال قدامى الفقهاء إنها ضروريات خمس تتلخص في حفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان”، مطالبًا بفهم جديد للاسلام.
وفي ما يأتي متن الجزء الثاني من الحوار:

ما رؤيتك لوضع الشيعة في السعودية حاليًا، خصوصًا بعد تفجير المساجد وإعدام نمر النمر ضمن قائمة الـ 47 ارهابياً في بداية هذا العام؟

في القطيف نوعان من المشكلات: مماثلة لما يواجه باقي مدن المملكة، وخاصة بها ناتجة عن اختلاف مذهبها أو طبيعة علاقتها بالدولة والمجتمع. اعتقد أن النوع الثاني ناتج عن هيمنة الثقافة التقليدية في مؤسسة الدولة وفي المجتمع، وهي الثقافة التي تفترض أنه كي تكون سعوديًا حقيقيًا فيجب أن تكون مشابهًا لي، اي أن مجتمعًا وتراثًا معينين هما المعيار الوحيد الذي يُقاس  عليهما سلوك الناس، ويفرض عليهم التكيف معهما حتى في الامور البسيطة كاللبس والعادات، فضلًا عن نمط التدين والأفكار. هذه المطالبات تُشعر الناس الذين ينتمون إلى تجارب تاريخية او اجتماعية مختلفة بأنهم مطالبون بأشياء غير مقنعة أو غير مهمة عندهم أو حتى غريبة عنهم، وهنا تحدث الفجوة بين الجماعتين. نتج عن ذلك ما يظن الشيعة انه تمييز في بعض الوظائف والفرص المتاحة في المجال العام على سبيل المثال. ما يخص النوع الاول من المشكلات فلا أرى فرقًا بين الشيعة وغيرهم. قضايا مثل التنمية وتوزيع الموارد والبطالة وأمثالها موجودة في كل مناطق المملكة من دون فرق.


مواقف ضبابية

يتهم مثقفو الشيعة بأن مواقفهم ضبابية. فحينما اعدم نمر النمر، لم نجد مقالات أو تغريدات تتكلم عن هذا الحدث.. وعاصفة الحزم كذلك؟

هذه تهمة محقة. أنا ايضا ألاحظ هذا الشيء. عند اعدام الشيخ نمر النمر مثلًا، لم يكتب أحد من الشيعة شيئًا، بمن فيهم الذين كانوا يعارضون منهجه وافكاره. أنا شخصيًا لم اكتب شيئًا، لا سلبًا ولا ايجابًا. التفسير المعقول لهذا هو تحول الهوية المذهبية إلى عامل ناشط في السياسة، خصوصًا مع حال الانقسام والاستقطاب الطائفي الشديد في البلد والمنطقة بشكل عام.

كتبت في صفحتك على فايسبوك أن القطيف تعاني من أبنائها الدواعش الذين يحملون السلاح ويرعبون كل من يختلف معهم. ما المقصود في ذلك؟

قصدت بهذا التنديد الذين يحملون السلاح ويستعملونه أو يدعون إلى ذلك، سواءً كانوا من الشيعة أم من غيرهم. لم اقصد في هذه الكتابة جماعة داعش المعروفة، بل استعملتها كرمز للاشارة إلى الايمان بالسلاح كأداة مؤثرة في العلاقات بين الناس او في السياسة، ذلك أني لا اهتم بالافكار أو المنطلقات النظرية التي تؤمن بها داعش أو تدعو اليها. ما يهمني فقط هو طريقتها في تطبيق تلك الافكار، بالسلم أم بالقوة... هل تعرضها على الناس أم تفرضها عليهم؟ مأخذنا الرئيس على داعش هو استعمالها السلاح في كل اعمالها، وقهرها الناس بالقوة المادية العارية لا بالفكر أو القناعة. كل من اتخذ ذلك المنهج هو وداعش سواء، بغض النظر عن مذهبه أو دينه أو مبرراته. كتبت تكرارًا انه لا يجوز حمل السلاح او استعماله في أي بلد إلا للدولة. واعتقد أنه لا يجوز استعمال السلاح في السياسة حتى ضد الدولة الظالمة او الفاسدة. بعبارة أخرى، أنا ضد حمل السلاح والتفكير به ورفعه مطلقًا حتى للدفاع عن النفس. اعتقد أن العمل الإجتماعي والسياسي غير السلمي يجب أن يحال للعدالة. نعارض داعش لا بسبب تكفيرهم غيرهم من الناس، بل بسبب حملهم السلاح وتهديدهم الناس وقتلهم به.

القطيف متوترة والأحساء ساكنة، وكلتاهما شيعيتان. لماذا؟

(ضاحكًا) قد يكون الناس في الاحساء أكثر طيبة ً ولينًا، أو لأن الافق العام مختلف بين القطيف والأحساء، وهذا تعبير آخر لما سمّاه الفيلسوف الالماني مارتن هايدغر "الافق التاريخي"، أي مجموع التجربة التاريخية والمعطيات الفعلية الناشطة التي تساهم في تشكيل ذهنية المجتمع ورؤيته الراهنة لذاته والعالم. نعلم أن الصراعات تولد بسبب نمو الاقتصاد والثقافة، حين تكون حياة الإنسان محصورة في قريته مثلاً، يومياته محصورة بين مزرعته وبيته، فلن يفكر في الصراعات ولن يجد نفسه جزءًا منها. يبدأ الإنسان بالتفكير في مواقفه من الصراعات القائمة حين يعيش في المدينة، أي في مجتمع يمر بمرحلة نمو اقتصادي واجتماعي تزيد فيه نسبة التوتر وتتسع الصراعات الاجتماعية والسياسية وغيرها.

سعودي أولًا

ذكرت في أثناء لقائك بالملك فهد في عام 1993، انه كانت هناك مطالب لعلماء ومثقفي الشيعة، وتكررت هذه المطالب في ما بعد، وتتلخص بإندماج الشيعة في الإطار السياسي الوطني. ما جديد هذه المطالب؟

وضعنا هذه المطالب في اطار مشروع عمل مقترح، وعرضناها على الراحلين الملك عبدالله بن عبدالعزيز والأمير سلطان بن عبدالعزيز، كما عرضناها على خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في أثناء توليه إمارة الرياض. أذكر في اجتماعنا مع الأمير سلطان انه قرأ المشروع المكتوب أكثر من عشر دقائق، ثم قال مستغربًا: لم لا تُقبل هذه المطالب؟ نادى مدير مكتبه وأمره أن يسلم الخطاب لشخص آخر لا اذكر اسمه الآن كي يكتب له ملاحظاته ويعيده خلال يومين. بعد أسبوع تقريبًا، تلقينا اتصالاً من مدير مكتب الامير يبلغنا أنه مهتم جدًا بالموضوع، وسيأتيكم جوابه خلال أيام. لكن مشيئة الله سابقة: سافر إلى أميركا للعلاج قبل وفاته. فكرة هذا المشروع باختصار هي أن اختلاف المذاهب أصبح عاملًا معيقًا وسببًا للتباعد بين المجتمعين السني والشيعي، وبين الشيعة والدولة، لذا تضمن مقترحات محددة عن كيفية نزع العامل المذهبي من العلاقة بين الطرفين، بحيث يكون الشيعي السعودي سعوديًا أولًا واخيرًا، في أنفس الشيعة ذاتهم وعند الحكومة. هذه فكرة المشروع باختصار.

ذكرت أن الإختلافات المذهبية والعقائدية بين المذهبين الشيعي والسني غير مهمة لأن الخلاف عاطفي أكثر مما هو مذهبي.. فهل من توضيح؟

تحول المذهب إلى مشكلة في السعودية بسبب تضخم الثقافة الدينية. المؤسف أن الدين كان عنصر جمع وإلفة بين الناس، وتحول إلى عنصر افتراق. اصبح الدين عاملًا للتمايز، ونشأت طبقات دينية، وتحول المجتمع بسبب العوامل الدينية إلى "فضاءات منفصلة" بحسب تعبير ستيفان لاكروا في كتابه "زمن الصحوة". تنقسم المجتمعات الطبيعية على أساس المهنة والمصالح (التجار والكتّاب والمهندسون والصحافيون) أو تنقسم طبقيًا (طبقة وسطى وعليا وعاملة). اما عندنا فالانقسام ديني أو مذهبي. ترانا نتحدث فقط عن شيعة وسنة وصوفية وسلفية، وعن جامية واخوان وسرورية. ولّد هذا الانقسام الاجتماعي علاقة منحرفة تميل إلى التحزب والعداوة بل التفاعل والمشاركة.

هل التقارب الشيعي - السني معقد إلى هذه الدرجة؟

أظن أن مشروع التقارب السني الشيعي ذهب في الطريق الخطأ. من ذلك مثلًا أن مشروع الحوار الوطني حصر فكرة الحوار في العلاقة بين المشايخ، فجمع شيوخ السنة والشيعة والسلفية والصوفية، وقال لهم تفاهموا. هل نعتقد حقيقة أن الشعب السعودي متمثل في المشايخ وحدهم؟ قطعًا لا. كان الاصلح أن يتمثل المجتمع بممثليه الفعليين، أي ممثلي التيارات والحرف والمصالح. الحوار الوطني الصحيح هو الذي ينظر إلى مكونات الوطن كما هي، وليس كفضاءات مذهبية منفصلة. اود الاشارة إلى نقطة تتردد كثيرًا بين الكتاب والصحافيين والإعلاميين، وهي فكرة "التعايش بين الشيعة والسنة". عارضتها سابقًا لأنني اعرف أن التعايش يُدعى إليه حين تكون الاطراف المدعوة منخرطة في صراع أهلي. اما نحن السعوديين فأهل وطن، تجمعنا علاقة المواطنة، وهي علاقة قانونية قائمة فعلًا. كما تجمعنا شراكة المصالح والاقتصاد ومصادر العيش. فلماذا نحتاج إلى التفكير بالتقارب والتعايش؟ دعونا نتكلم ونفكر بالقانون. القانون هو الذي يمنع الشيعي من العدوان على جاره السني، وهو الذي يردع السني من البغي على الصوفي. فالقانون يهذب الأخلاق، لأن الإنسان عندما يخاف من القانون يضطر إلى البحث عن تبرير لخوفه، فيستحضر الأخلاقيات الجيدة، ثم يعتادها. نحتاج إلى ترسيخ الشعور بأننا سعوديون أولًا واخيرًا. وهذا يعني تأكيد العمق القانوني لمبدأ المواطنة، هذا هو حل المشكلة الدينية المذهبية باختصار.

بعض المثقفين يتهمون المعارضين الشيعة بنسج علاقة مع ايران.

أظن هذا مبالغة بل غير صحيح. يميل الانسان غريزيًا إلى البحث عن حال مطمئن. الشيعي المعارض قد يشعر بالاطمئنان في ايران فيذهب اليها، مثلما يشعر السني المعارض بالاطمئنان في تركيا مثلًا فيذهب اليها. ثمة عشرات من المواطنين السعوديين – من تيار الاخوان خصوصًا - هربوا إلى تركيا بعدما شعروا بالتضييق السياسي في المملكة. وبينهم مثلًا الشخص الذي قلت سابقًا انه وصفني بالطائفي والمرتبط بايران. وبعضهم ذهب إلى أوروبا والولايات المتحدة. فهل نعتبر هذا خطأ؟ الاخوان المسلمون الذين اقاموا في المملكة بعدما قُمعوا في مصر والعراق وسوريا، هل يعتبرون خونة لأوطانهم لانهم تعاملوا مع دولة اخرى؟ في رأيي لا، لأن السعي إلى الامان والاطمئنان ميل طبيعي عند البشر. حين كان الاخوان حكامًا في مصر ايام مرسي، ذهب كثير من المشايخ والحركيين السعوديين واقاموا المؤتمرات، وبعضهم قرر الإقامة هناك. لو بقي الإخوان في السلطة لوجدت كثيرًا من هؤلاء في القاهرة، فهل نعتبر كل هؤلاء عملاء ومأجورين لمصر أو لتركيا او للولايات المتحدة؟ 

خلاصة القول إني لا أرى المعارضين الذين تركوا البلد، سواءً كانوا شيعة أم سنة، عملاء لدول أخرى لمجرد انهم اقاموا فيها أو تعاملوا معها. أعرف معارضين سعوديين، سنة وشيعة، متدينين وضد الدين، رفضوا محاولات جادة من دول قريبة وبعيدة، للانخراط في مشروعات سياسية ضد المملكة، خشية أن يتحولوا من معارضين لسياسات حكومتهم إلى عاملين على هدم وطنهم، وهذه فضيلة تحسب للمعارضين السعوديين.

مبسوط اليد
 ما رأيك بالتعليم والمناهج في السعودية؟ كيف يمكن لهذا التعليم أن يساهم في وأد التمييز بين المذهبين؟

قالت العرب قديمًا "المرء عدو ما جهل"، أي يتوجس الإنسان في العادة من الغرباء والأشياء الغريبة، وهذا المقصود بالاية المباركة ﴿وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا﴾، التي تدعو للتعرف والتعارف مع المختلفين. أذكر تجربة واقعية شهدتها في المدرسة الإبتدائية التي درست فيها ابنتي في شمال غرب لندن. كانت المدرسة تحتفل بجميع الأعياد الدينية والقومية لطلابها، وكان لديهم احتفال سنوي بعيدي الفطر والأضحى والميلاد المسيحي والديوالي الهندي والغفران اليهودي. في هذه المناسبات، يُدعى متحدث من أصحاب الدين المحتفى به ليتحدث للطلبة عن معنى العيد عندهم، وكيف يقضونه وماذا يأكلون فيه ويلبسون. وكانت المدرسة تطلب من الطلاب الذين يُحتفل بعيدهم أن يرتدوا في ذلك اليوم ملابسهم الوطنية، كما تقام مأدبة تقدم فيها أكلاتهم الوطنية. كل ذلك من اجل تعزيز التعارف بين الطلبة. ابنتي الآن في الجامعة ولديها صديقات من ديانات وأجناس مختلفة، ولا أذكر أنها تحدثت يومًا عن صديقة "هندوسية" أو "سوداء" أو "نصرانية"، بل كانت تذكر اسماءهم فحسب. واعلم انهم ما زالوا يرتبطون بصداقة عميقة على الرغم من مرور عقد من الزمن على تخرجهم من تلك المدرسة

هل للمرجعية الدينية عند الشيعة دور في تحديد مستوى العلاقة بين المواطن والحكومة؟ هل العلاقة بها مؤثرة، أم أن ما تقدمه الحكومة للمواطن هو المعيار؟

علاقة الشيعة بمراجع الدين من القضايا التي خاض فيها بعض المشايخ في بلادنا، بناء على تصورات ذهنية خاطئة، لا علاقة لها بالواقع، وألاحظ انعكاساتها باستمرار، خصوصًا في مواقع التواصل الاجتماعي وفي أحاديثي مع بعضهم. أظن أن سبب هذا الموقف الانطباعي أن قراءاتهم مقتصرة على ما يألفونه لغة أو توجهًا. إنهم لا يقرأون (للأسف) ما يخالف ميولهم أو يستفز عقولهم. أذكر أني عاتبت احدهم وكنت في مجلسه، فقال لي انه يحتفظ بعشرات من كتب الشيعة، وحين دخلنا مكتبته لم أجد سوى أربعة كتب قديمة، اما التي كان يشير اليها بالعشرات فهي ما كتبه أعداء الشيعة عن الشيعة. ابديت له هذه الملاحظة في وقتها واخبرته انني قرأت مئات من كتب الاخوان والسلفيين وقدامى الفقهاء، وقرأت سيرهم، والتقيت بعشرات من علماء السنة المعاصرين وكتبت عنهم واستشهد بهم في كتاباتي، ولي مع الكثير منهم صداقة عميقة.

بعد هذا الاستطراد اقول أن الدور الفعلي للمرجع الديني عند الشيعة محصور في الشؤون الروحية. وهو لا يتدخل في أمور السياسة إلا إذا كان "مبسوط اليد" بحسب التعبير الفقهي، أي صاحب سلطة أو مدعوًا من قبل أصحاب السلطة لإبداء الرأي. من هنا، الفقيه الذي لا يتدخل في الامور السياسية في بلد ما لا يكون مبسوط اليد فيه، وإذا تدخل فطاعته غير واجبة. فلو أن آية الله السيستاني مثلا أصدر أمرًا لأهل القطيف يتعلق بأمور سياسية، فليس من واجب أهل القطيف طاعة هذا الامر ولا يأثمون لو خالفوه.

في إيران

وما الوضع في إيران على هذا الصعيد؟

الوضع مختلف في ايران، فالولي الفقيه فيها حاكم مبسوط اليد ضمن حدود ايران، وله سلطة كاملة بحكم الدستور. لكن سلطته لا تتعدى حدود هذا البلد. يهمني هنا الاشارة إلى أننا نتحدث في المستوى الفقهي، أي اوامر الفقيه التي يجب شرعًا طاعتها وتحرم مخالفتها، ولا نعني الآراء الفقهية أو الفتاوى العامة التي قد يريد شخص أو مجموعة اشخاص التزامها بغض النظر عن حكم الفقيه في قضية خاصة او علاقته ببلد بعينه. كما أن هذا لا يعني رجال السياسة الذين يحملون ألقابًا دينية، فآراؤهم ومواقفهم لا تعتبر دينية بالمعنى الدقيق.

ومن يقرأ البحوث الفقهية لمراجع الشيعة القدامى والمعاصرين، أو يدرس تاريخهم، فسيلحظ أنه لم يسبق لأحد منهم أن أصدر "حكمًا" في قضايا سياسية خارج حدود ايران. و"الحكم" في الوصف الفقهي غير الفتوى وغير الارشاد العمومي، وهو موضوع النقاش، اما الفتوى والارشاد فليسا موضوعين للنقاش، لانهما في الاصل ليسا مما يجب على عموم الناس

في مقالته "فرصة تاريخية للشيعة"، تحدث المفكر منصور النقيدان عن بعد التفجيرات التي قامت بها داعش في المنطقة الشرقية، وقيام الحكومة للمرة الأولى بترميم احد مساجد الشيعة، وتسمية قتلى  هذه الإنفجارات بالشهداء  وذكر النقيدان أن هناك فرصة كبيرة أمام وجهاء الشيعة ومثقفيهم كي يأخذوا زمام المبادرة ويتحلوا بالشجاعة والحكمة لحماية اليافعين والشباب من الإنزلاق في مهاوي الإرهاب؟

 لا أرى أن هناك حدثًا استثنائيًا يستدعي رد فعل استثنائياً. لكن الدعوة إلى الهدوء تتكرر في جميع أحاديث المشايخ، سواءً في المساجد أم في المجالس. لكن إذا أردنا أن نكون منصفين فإن حل المشكلات المزمنة يحتاج إلى مبادرة كبيرة تقدمها الحكومة، لأنها هي التي تختار عادة من تريد مناقشته، من الشيعة او غيرهم. كما ينبغي تحديد الأمور التي ستناقش حتى تتضح حدود النقاش ومساراته.


تجربتك  الحياتية ثرية ومليئة بنقاط التحول. ما أهمها؟

أول نقطة تحول في حياتي هي النجف، فهذا أول بلد زرته في حياتي. سافرت إليه وعمري 13 سنة. النجف مدينة متنوعة فيها ناس من كل أقطار الأرض. هناك شاهدت للمرة الاولى اناسًا من الصين وافريقيا وسائر الاقوام. لهذا ما زلت أتذكر حتى الأشياء الحياتية البسيطة والتفاصيل الصغيرة كالشوارع والمحلات وغيرها، بل حتى اسعار الجبنة والخضروات يومذاك. المرحلة الثانية المهمة في حياتي التي أثرت فيّ بعمق هي حرب الخليج عام 1990. وقتها كنت في بريطانيا. كنت أسأل نفسي: هل ولاية الفقيه هي النظام الذي يحقق العدل والحرية والإطمئنان؟ بعد حرب الخليج بدأت القراءة بشكل واسع جدًا حول هذا الموضوع في التراث وفي الفقه، وتكوّن عندي ايمان عميق بأن الحرية أول شيء في الوجود، قبل الدين وقبل السياسة. وبفضل هذه القراءات، انصب اهتمامي على تطوير نظريتي عن نظام سياسي ديموقراطي متلائم مع قيم الدين. وهذا ما يشغلني حتى الآن.

إسلام جديد

قلت إن الإسلام بحاجة إلى تقديم نفسه من جديد، أي نحتاج اسلامًا ملائمًا لهذا العصر. أي إسلام؟

هذا جزء من رؤية حول طبيعة الدين، سبق أن تحدثت عنها في مقالاتي المنشورة، وخلاصتها أن الإسلام ليس خاصًا بالمسلمين فقط، بل هو ملك البشرية جمعاء، كما قال تعالى ﴿قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا﴾. وبالتالي، كل البشر شركاء في التجربة الدينية. فمن حق أي انسان حتى لو كان غير مسلم أن يقدم رؤيته الدينية، وعلينا أن نتعامل معها كجزء من التجربة الدينية إذا كانت تساهم في تحقيق غرض الخلق والرسالة التي حددها القرآن في قوله تعالى ﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها﴾، أي امركم بعمارتها. فإذا جاء شخص مثل ستيف جوبز وقدم شيئًا يسهم في عمران الأرض ورفع مستوى البشرية، فأنا أعتبره جزءًا من منظومة عمران الأرض واستجابة لأمر الله، وبالتالي هو جزء من التجربة الدينية، وله قيمة دينية، بمعنى انه يصنف واحدًا من الطيبات عند الله وعند خلق الله. وعلى مستوى تجديد الفقه، قدمت اقتراحًا بتغيير مسار الاجتهاد ليبدأ من الكلّي الثابت إلى التفاصيل الفرعية المتغيرة. في الوقت الراهن، يستنبط الفقيه أحكامه وفتاواه انطلاقًا من الاسئلة التي توجه اليه في القضايا الفرعية. وارى كثيرًا من أجوبة المسائل الفرعية متعارضة مع المنظور الكلي للدين. لهذا يتساءل الناس: هل يُعقل أن يمنع الاسلام المرأة من قيادة سيارة أو من تولي الوزارة؟ أليست قيمة العدل والمساواة أساسية في الدين وحاكمة على فروعه؟ ومثلها الفتاوى التي تدعو إلى حجب حرية التفكير والتعبير والكتابة. كيف تنسجم هذه الفتاوى مع "حفظ العقل"، احد المقاصد العليا للتشريع؟ كيف يمكن حفظ العقل من دون حرية تفكير ومن دون حرية تدفق المعلومات والنقد والنقاش المفتوح؟ وكذا الاحكام الخاصة بتداول المال والبنوك.

وما اقتراحك في هذا الأمر؟

اقترحت تغيير مسار الاجتهاد بحيث يبدأ من تعريف مقاصد الشريعة، أي الاغراض التي من اجلها شرع الدين. وقال قدامى الفقهاء إنها ضروريات خمس تتلخص في "حفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان". ثم نضع امامنا اسئلة مثل ما هي الوسائل التي تؤدي إلى حفظ هذه الضروريات؟ وما هي العوامل التي تؤدي إلى اضعافها او تدميرها؟ وبناء على تشخيصنا تلك العوامل، نضع السياسات العامة والاحكام الفردية. فكل ما يؤدي إلى حفظ المقاصد الخمسة يأخذ حكم الواجب او المستحب، وكل ما يؤدي إلى إضعافها يأخذ حكم الحرام أو المكروه. ولو اتبعنا هذه الطريقة فنجد ضمان حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير في قائمة الواجبات، ومثلها الاستثمار في التنمية والصناعة وانتاج العلم، ومثلها التفاعل والعمل مع أمم العالم غير المسلمة من أجل صيانة البيئة الكونية واجتثاث الفقر ومكافحة الأوبئة. خلاصة القول إننا بحاجة إلى فهم جديد للدين، منسجم مع الافق التاريخي لعالم اليوم، فهم يجعلنا أكثر قدرة على المساهمة في عمران الأرض وصناعة مستقبل العالم

كلمة اخيرة لإيلاف

اشكرك شخصيا واشكر الاعزاء في ايلاف، سيما اخي الكبير الاستاذ عثمان العمير الذي احتفظ له بالكثير من الود والذكريات الطيبة، وأشعر ان ابتعاده عن الشأن العام خسارة للبلد، فهو من نوع الاشخاص الذين يدركون عمق القضايا ونهاياتها، ولا يتوقفون عند السطح، ولا يؤخذون بمظاهر الاشياء


صحيفة ايلاف 21 مارس 2016  

صحيفة ايلاف 22 مارس 2016


اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...