23/11/2023

انتقدوا مواقفكم وإرث اسلافكم أو تخشبوا


الفصل بين الحقائق والقيم ، واحد من التقاليد المستقرة في مجامع البحث العلمي. والمقصود به ان يتخفف الباحث او الناقد من انحيازاته الشخصية والاجتماعية لحظة البحث ، فلا يجعلها معيارا في اختيار موضوع البحث او منهجه ، او في الحكم على نتائجه.

والحق ان الفصل التام بين الموضوع والميول الشخصية ، من أصعب الأمور ، بل ادعى بعضهم انه مستحيل. ولا أراه كذلك ، لكني اعرف صعوبته. واعلم أنه اشد عسرا في ظروف الأزمة والصراعات الداخلية والاقليمية ، سيما تلك التي تدور حول قضايا الهوية ، او التي تكون الهوية عاملا في تأجيجها ، أو سلاحا في يد أطرافها.

ان حرص الباحث على مسايرة ميوله الخاصة او ميول مجتمعه ، لن يساعد في انتاج العلم ، بل لن يؤدي - على الأرجح - الى أكثر من "تطييب الخواطر" ، اي الوصول الى نتائج مريحة لنفس الباحث أو "جماعته" ، لأنها – ببساطة – تؤكد ما كانوا يقولونه دائما وما يرغبون في قوله ، في ثوب جديد او لغة مختلفة.

وقرأت في الأيام الماضية كتابا يعالج العلاقة بين الدين والاسطورة ، خصص كاتبه مساحة واسعة نسبيا ، لشرح رؤية علماء اوروبيين للمسافة بين الواقعي والمتخيل في الدين. وحين وصل الى الفصل الخاص بمناقشة العلاقة بين الاسلام والاسطورة ، ورأي المفكرين المسلمين الذين تحدثوا في الموضوع ، اشتغل محرك الهوية عند الكاتب فيما يظهر ، فأغفل مناقشة آراء اولئك المفكرين وأدلتهم ، كي يركز على ماقال انه تطابق بين تلك الآراء ونظائرها الشائعة في اوربا. وبناء عليه اعتبرها بعيدة عن المجال الاسلامي ولا ينبغي التعامل معها كتفكير في الدين.

وأميل الى الظن بان الكاتب لم يشرع في بحثه ذاك ، قاصدا انتاج معرفة جديدة. ذلك ان منهج السجال الديني يبدو واضحا في أكثر من موضع. ومن يتخذ منهج المساجلة ، فانه لا يهتم بالتحقق من آراء المخالفين ، التي قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة. ان همه الوحيد هو تسفيه تلك الآراء وتعزيز موقفه ، بغض النظر عن كونه صحيحا او خطأ في الواقع. انه – بعبارة اخرى – لا يسائل موقفه ومعتقداته ، لأنه مشغول في محاكمة الآخرين.

ربما يكون هذا الموقف ناتجا عن الميول الايديولوجية للكاتب ، او عن ارتباطه بمصالح المحيط الاجتماعي واراداته. ولا شك عندي ان مسايرة الرأي العام أيسر مؤونة. وقد ذكرت مرارا ان المفكر او صانع الرأي ، ليس مطالبا بمصارعة المجتمع والسير عكس التيار ، إلا إذا اختار هذا المسار بنفسه. فهو – مثل غيره – حر في الأخذ بما يستطيع احتمال تبعاته. ومن هنا فليس من الانصاف ان نطالبه أو نطالب غيره بتحمل اعباء اجتماعية ، تزيد عما التزم به سائر الناس واصحاب الحرف الأخرى.

أقول هذا الكلام الذي يبدو محافظا ، وغايتي انصاف تلك الشريحة من اهل الفكر الذين اضطروا للسكوت كليا ، او اضطروا لاغفال قناعاتهم أو مسايرة التيار العام ، طمعا في السلامة. وأعرف العديد ممن اتخذوا هذا المسار بعدما اختبروا ضغط المجتمع ، بل قسوته على أهل الرأي الذين اختاروا يوما ان "يحملوا السلم بالعرض" كما يقال.

بموازاة هذا ، فاني اعلم ان المجتمعات لا تتقدم ، ان ذوت فيها روح النقد. بل استطيع القول ان انتاج العلم وتطويره مستحيل ، اذا كان نقد الافكار المعتادة والقناعات السائدة ، ممنوعا او عسيرا. ليس هناك وقت مناسب للنقد ووقت غير مناسب. وليس هناك وقت مناسب لشرح الرؤى والمواقف ووقت غير مناسب. التعبير الحر عن الرأي يجب ان يكون متاحا في كل وقت وفي كل ظرف ، حتى لو كنا في أسوأ الظروف. أيا كان الأذى الذي ربما يخشاه الناس من النقد في ظرف الازمة ، فانه – بالتأكيد - لن يؤدي لضرر مادي. بل على العكس ، فالضرر الاعظم الذي وقع سابقا ولا زال يتكرر في عالم العرب ، هو هيمنة الرأي الواحد والاكتفاء به ، والتضييق على الآراء المخالفة والخيارات التي تشير الى طريق غير الذي ألفناه بعدما ورثناه عن الأسلاف.

الشرق الاوسط الخميس - 09 جمادي الأول 1445 هـ - 23 نوفمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4684841

مقالات ذات صلة

أصنام الحياة

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

الصنم الخامس

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

كيف تولد الجماعة

ما رأيك في ماء زمزم؟

مهابهاراتا.. أعظم ملحمة في تاريخ الانسان

نسبية المعرفة الدينية

  

17/11/2023

وقت النقاش ، حديث المطر


لقيت خلال حياتي المدرسية أساتذة من مشارب شتى. عرفني كل منهم بعالم غير العوالم التي عرفتها وألفتها. ولا زلت أذكر تلك النقاشات الساخنة التي أخذتنا بعيدا عن الكتاب والمنهج ، حين انفتحت أمامنا تجربة الأستاذ العلمية والحياتية ، والتي حوت – دائما – ما يفوق المنهج الدراسي قيمة وفائدة. أقول هذا كي أدعو اصدقائي العاملين في حقل التعليم والتدريب ، لفتح عقولهم وقلوبهم لتلاميذهم ، وتشجيعهم على الانخراط في النقاش الجاد حول مختلف قضايا الحياة ، في موضوع الدرس او غيره. 

انا انتمي لمجتمع لا يوفر غير مساحة ضيقة للنقاش الجاد والمنفتح ، النقاش الذي يأخذ الانسان الى حدود الخيال ، دون رهبة الخطوط الحمراء والصفراء. وأظن هذا حال أكثر الناس من حولي. لهذا أرى دور المعلم وصاحب الثقافة حيويا ، في تحريض الناس على التفكير والنقاش الذي يطرق الآفاق البعيدة وغير المألوفة.

من بين الاساتذة الذين تركوا أثرا في نفسي ، أذكر اثنين ، لا يقول أحدهما شيئا ، الا وقع على خلاف رأي الآخر. فمن ذلك مثلا ان الاول اعتاد التشديد على ان الحكمة في الصمت ، وان سر المعرفة يكمن في التأمل الفردي وتجنب الجدال. وغالبا ما ذكر روايات وأشعارا تؤكد هذا المعنى.

وبعكسه تماما كان الاستاذ الثاني ، الذي ما انفك يذكرنا بأهمية النقاشات الثنائية والجماعية ، ويؤكد ان النقاش سبيل وحيد لشحذ قدرة التحليل عند الانسان. وكان يقول مثلا ان الاثر المروي عن علي بن ابي طالب "تكلموا تعرفوا ، فان المرء مخبوء تحت لسانه" لا يعني مجرد النطق ، بل أراد التركيز على "الكلام" اي الحديث المنظم الملتزم بقواعد المنطق ، الذي يقيم وسطا معرفيا يتواصل عبره مختلف الناس ، نظير ما يسمى اليوم الميديا/الوسائط media التي يصل دورها الى تكوين الرأي العام او الفهم المشترك للقضايا المطروحة في المجال العام. ولطالما لفت هذا الاستاذ انظارنا الى بعض القواعد اللطيفة في الحديث ، سواء تعلقت بآداب النقاش او قواعد التفكير المنطقي والعقلاني ، وهي قواعد ، أظننا في أمس الحاجة الى أمثالها ، في ظل التحولات المثيرة التي نشهدها اليوم ـ بل كل يوم.

ويظهر لي ان ميول هذين الاستاذين ، تحاكي نمطا عاما. فثمة مجتمعات تتقبل النقاش في اي مسألة ، وتقبل مختلف الطروحات مهما كانت غريبة عن عاداتها ومألوفها. وثمة مجتمعات لديها ميول معاكسة تماما ، فهي تقصر النقاش في القضايا العامة على الحد الأدنى ، في الموضوعات وفي عدد المشاركين وفي الحدود المسموحة.

ومما أذكره انني كنت أزور بين حين وآخر ، شخصا من علية القوم ، وكان يحضر مجلسه نخبة البلد من مختلف المجالات. لكني لا اذكر ابدا ان النقاش قد تجاوز احوال الطقس ، وهل نزل المطر ام لا ، خفيفا كان ام ثقيلا ، ويطول الحديث عن البلدان التي شهدت سيولا ، وماذا ترتب عليها.. الخ.

لقد ظننت – وربما اكون مخطئا – ان هذا النوع من النقاش ليس عفويا ، بل مقصود للحيلولة دون انفتاح نقاشات قد لا ترضي جميع الحاضرين. فهذا مثال على ذلك النوع من المجتمعات التي لا تحب النقاش في القضايا الحرجة او المثيرة للاختلاف.

أما مبررات الذين يعارضون النقاش العام في القضايا الساخنة ، فهي لا تتعدى الاشارة الى "حساسية" من نوع ما. فبعضهم يشير لحساسية الموضوع ذاته ، وان هناك اشخاصا ربما تستفزهم الحقائق غير المألوفة ، فيرون فيها تحديا لقيمهم وقناعاتهم. وثمة من يطلب قصر النقاش على الاشخاص الموثوق في اهليتهم والتزامهم بالخط العام للمجتمع. لكن أكثر الحساسيات شيوعا هي المتعلقة بتوقيت الكلام ، ولا يعدم المعارضون أزمة من هنا او هناك ، يقدمونها مبررا لتأجيل النقاش في هذا الموضوع او ذاك.

الشرق الأوسط الجمعة - 03 جمادي الأول 1445 هـ - 17 نوفمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4673406

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

دعـــــوة الى التعــــليم الخــــــيري

صناعة الشخصية الملتبسة

المدرسة وصناعة العقل

المدرسة ومكارم الاخلاق

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

مكافحة الفساد بدء من المدرسة

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

 

09/11/2023

لا تقتلوا أفكاركم الجديدة

 

يقال ان الأزمات الكبرى هي ام الافكار الكبرى. ويخبرنا تاريخ العالم ان كثيرا من الاختراقات المؤثرة في حياة الانسان ، ولدت في رحم الأزمة. خذ مثلا الطيران التجاري ، الذي أثمرت عنه ابحاث خصصت في الأصل لتعزيز القوات المسلحة ، في خضم الحرب العالمية الثانية وسنوات الحرب الباردة. ومثلها انظمة الاتصالات اللاسلكية ، وشبكة الانترنت التي غيرت حياة العالم كله. وثمة قائمة طويلة من الاغذية والادوية ومواد البناء والنظافة والالكترونيات والمصنوعات الهندسية ، تطورت كلها في ظروف التأزم. ولعلنا نذكر تجربة التعليم والعمل عن بعد ، اعتمادا على تقنيات الاتصال الحديثة ، في ظروف الحصار التي فرضها وباء كورونا على العالم كله. هذا التحول ليس بسيطا ، فقد انتج اقتصادا جديدا وانماط حياة جديدة. وسيبقى مؤثرا لزمن طويل في المستقبل.

حسنا ، ماذا عن الافكار التي لا تتعلق مباشرة بالتقنية وادوات العيش؟. اعني الافكار الجديدة في الفلسفة والسياسة والأدب وعلوم الدين والاجتماع.. الخ. هل تخضع لنفس القاعدة ، اعني: هل تشكل الأزمات بيئة خصبة لولادة الأفكار الجديدة في تلك المجالات؟.

أظن ان الازمة المقصودة باتت قريبة من ذهن القاريء ، اعني بها الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة وسكانه. خلال الاسابيع الاربعة الأخيرة ، حاولت التعرف على رأي عدد من البارعين في التحليل السياسي ، فوجدت آراء قيمة ، قد تعارضها او توافقها ، لكنها – بشكل عام – جديرة بالمناقشة والتفكير ، لأنها تحاول الاجابة على أسئلة هامة ، مثل سؤال: ما هي نقاط الضعف ونقاط القوة التي كشفت عنها هذه الحرب ، في الموقف السياسي والشعبي.

وجدت أيضا قراءات جادة في التأثير المتوقع للحرب على نظام الامن الاقليمي ، ومواقف الاطراف الاسرائيلية والفلسطينية من المشروع المسمى "حل الدولتين" ، وامكانية نيله الدعم الاقليمي والدولي في الاشهر القادمة.

ثمة مسائل حظيت باهتمام أقل رغم اهميتها ، مثل التحولات المتوقعة داخل حركة حماس ، واحتمالات الانشقاق في حركة فتح ، نتيجة التناقض الشديد بين القناعات المؤسسة والموقف الرسمي الحالي. ومنها ايضا انعكاس الحرب على ميول الاقليات المسلمة في الغرب ، للاندماج في المجتمعات المضيفة او البقاء على الهامش. وكذا تاثير الحرب على الاقتصاد المحلي في مصر ، وعلى مشروعات الطاقة المخططة شرق البحر المتوسط الخ. وجدت أيضا كتابات مفيدة عن اقتصاديات الحصار ، وطب الطواريء ، تحاول الاجابة عن سؤال: ماذا يمكن لشعب محاصر ان يفعل في ظل الحرب ، وما يترتب عليها من انقطاع للاتصالات واغلاق الحدود.

وذكرني هذا بالنقاشات الواسعة التي شهدناها سنة 2020-2021 حول سلاسل الامداد والتموين وما واجهته من تقطع بسبب القيود المرتبطة بوباء كورونا ، ومثلها النقاشات الخاصة بالعمل والتعليم عن بعد ، وانعكاساتهما الاجتماعية والاقتصادية ، وحتى تأثيرها على الهوية الفردية والوطنية.

لقد أتاحت الحرب فرصة ثمينة لطرح آراء غير تقليدية في قضايا عظيمة الأهمية. لكن معظم تلك الكتابات ضاعت فعلا او ستضيع ، وسط الركام الهائل من الردود والمجادلات السطحية ، التي تتنوع بين مدائح فارغة وشتائم قبيحة ، لشخص الكاتب وبلده والتيار الاجتماعي او السياسي الذي يعتقد المجادلون انه ينتمي اليه.

يغريني التشاؤم بالقول ان المجتمع العربي عاجز عن النقاش العقلاني. ثم يردني عقلي للقول ان التشاؤم طبيعي في ظل الأزمة ، وان التراجع المتوقع للازمة سيسمح بنقاش مستأنف. على اي حال يهمني ان أدعو القاري وكل من يتصل به ، الى تجنب الردود الخشنة على الآخرين حتى لو كانوا على الطرف النقيض. النقاش المنفتح قد يقود الى اختراق في جانب ما من حياتنا. أما الردح والشتيمة والسخرية ، فليس وراءها سوى ايذاء الذات واثارة الكراهية. دعونا نسمح بمختلف الآراء ، وخصوصا الآن ، فلطالما كانت الأزمات اما للأفكار العظيمة.

الشرق الاوسط الخميس - 25 ربيع الثاني 1445 هـ - 9 نوفمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4657046

مقالات ذات صلة

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

العولمة فرصة ام فخ ؟

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

استمعوا لصوت التغيير

 

02/11/2023

رأيك الذي لا يقبل النقض او الجدل


أردت في مقال الاسبوع الماضي دعوة القراء للتفكير في قيمة المعارف التي يحملونها بالقياس لما عند غيرهم. ولعلي بالغت قليلا إذ زعمت ان ما تراه العين وما تسمعه الاذن ، كلاهما من نوع الظنون ، ولا يرقى لمرتبة الحقيقة ، رغم ما شاع بين الناس من اعتبار رؤية العين دليلا لا يقبل الشك.

اعمق الردود على تلك الفكرة ، هي قول احد الزملاء ، بأن مضمون المقال يساوي انكار اي وجود للحقيقة في العالم. ، فكأن مراده ان الذي نراه أو نعرفه مجرد وهم ، او – على احسن التقادير – مرحلة انتقالية بين الظن والحقيقة.

ستيف جوبز (1955-2011)

لكني ما قصدت هذا بطبيعة الحال ، بل اردت تشجيع القاريء على مجادلة قناعاته ، لا سيما الراسخة والعميقة منها ، التي نظنها حقائق نهائية لا تقبل الشك ولا التعديل. وقد وجدت ان طرح المسألة في صورتها الاكثر تطرفا ، أدعى لتحقيق المراد ، وهو إثارة الأذهان. ان التفكير والتأمل هو الطريق الوحيد في اعتقادي لاكتشاف حدود المعرفة وقيمتها ، الأمر الذي يهدينا للتواضع والتسامح ، واحترام الرأي المضاد ، مهما بدا غريبا عما ألفناه أو ارتحنا اليه.

ما يثير الجدل في غالب الأحيان ، ليس الحقائق الصريحة ، بل الآراء الملتبسة بالحقيقة او  التي يدعي اصحابها انها تطابق الحقيقة. ان اطلاق شخص مثلي صفة الحقيقة على رأيه ، لا يزيل عنها صفة الرأي الشخصي ، الا اذا وافقه الناس جميعا ، او غالبية معتبرة منهم ، حيث تلبس حينئذ صفة الوجود الموضوعي ، مثل وصف "آيفون" الذي اخترعه ستيف جوبز ، فكان مجرد فكرة شخصية ، لكنه تحول لاحقا الى حقيقة موضوعية تشبه الحقيقة التي نسميها التراب والشجر والحديد. فهل ياترى يمكن اطلاق نفس الوصف على الآراء التي احملها انا وأنت أو سائر الناس ، الآراء التي تتعلق بمختلف قضايا حياتنا او حياة الآخرين؟.

كنت قد شرحت في كتابة سابقة رؤية الفيلسوف المعاصر كارل بوبر ، الذي قسم موضوعات المعرفة الى ثلاثة اطارات او عوالم ، أولها الكون المادي الذي نعيش فيه ، والذي يتكون من عناصر واقعية نستطيع لمسها بأيدينا. يتأمل البشر في هذه العناصر ويسعون لفهمها واستكشاف الصلات التي تربط بينها ، ثم يضعون استنتاجاتهم في صورة نظريات تتضمن وصفا وتفسيرا لما تعرفوا عليه.

اما العالم الثاني فهو تصوراتنا عن ذواتنا وعن العالم المحيط بنا ، والتي تتشكل على ضوئها مواقفنا من الاشخاص والحوادث. حركة الذهن في هذا الاطار هي ما يشكل عالمنا الذي نعرفه. بعبارة اخرى فان مجموع تأملات البشر في انفسهم وفي الاخرين ، هي المصدر الذي يشكل معنى العالم ومعنى الافعال التي يقوم بها البشر ، حين يتعاملون مع بعضهم. 

ثالث العوالم هو مجموع ما ينتجه العقل الانساني ، ويطرحه كموضوع مستقل عن صانعه وعن الاشخاص الآخرين ، نظير مثال الآيفون الذي يبقى ويتطور بعد رحيل صاحبه ، الذي – على الارجح – ليس معروفا عند غالبية مستعملي هذا الاختراع. ومثله ايضا الآلات والشبكات والبرامج والاعمال الفنية والكتب والادوية والاغذية ، وكل شيء مطروح امام البشر كمنتج نهائي ، لا يرتبط استمرار وجوده بارادة من صنعه.

هذه عوالم متفاعلة. فالعالم الاول يوفر موضوعات عمل الثاني ، حيث يتحول التأمل الى فكرة جديدة ، يتحول بعضها الى منتج معياري ، يحفظ في العالم الثالث. رغم انها مترابطة ومتفاعلة ، الا ان هذه العوالم الثلاثة لا تقبل التحديد أو الحصر ، كما لا تقبل السكون والثبات ، فهي في حال تغير دائم: في الوصف والفهم والاعتبار ، كما في حالة العالم الاول ، او في التفسير وطرق الانتاج ، كما في الثاني ، او في نوعية المنتج النهائي وانتقاله من الأدنى للأعلى ، الذي نسميه "الاحدث" كما في العالم الثالث.

عد الآن وفكر في رأيك: الى اي من هذه العوالم ينتمي ، كي تظنه حقيقة لا تقبل الشك او الجدل؟.

الشرق الاوسط الخميس - 17 ربيع الثاني 1445 هـ - 2 نوفمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4642841

 


مقالات ذات صلة

التجربة ليست برهانا

زمن ثقافي جديد

العقل المؤقت

الفكــرة وزمن الفكـرة

مأزق الأسئلة الضبابية

مغامرات العقل وتحرر الانسان 

كتاب اخر يستحق القراءة : كارل بوبر "منطق البحث العلمي  

نافذة على فلسفة كارل بوبر

لماذا تركنا مقامات الحريري؟

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

هكذا خرج العقل من حياتنا

26/10/2023

التجربة ليست برهانا

لا زلت أذكر اليوم الذي وصلنا فيه الى درس نواصب الفعل في "شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك" ، وهو من الكتب التي ينبغي دراستها للمتقدم في علوم اللغة. وسبب استذكاري لهذا الدرس خصوصا هو بيت الشعر المشهور

"يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما

قد حدثوك فما راء كمن سمعا"

 فقد انفق استاذنا رحمه الله وقت الدرس كله ، في بيان الفارق بين تحصيل العلم بالملاحظة المباشرة والتجربة الشخصية ، وتحصيله بالسماع والرواية. وكان المشهور يومها ان رؤية الشيء في الواقع ، طريق لتحصيل العلم القطعي ، بينما يصنف السماع عنه كمعرفة ظنية ، وليس من رأى كمن سمع. وكنا نأخذ هذا الرأي أخذ المسلمات. ولو جادلنا فيه أحد ، لأجبناه بأن التجربة الحسية اصدق الأدلة ، والعين اصدق وسائل الاحساس.

في سنوات لاحقة من مشوار الدراسة ، بدأت افهم ان رؤية الاشياء وتجربتها الحسية ، لا تعطيك دليلا قطعيا ، فهي تتأثر بزاوية النظر أو ما يسمى "افق التوقعات". وأذكر واحدا من الدروس الاولى التي اطلعت فيها على تأثير خلفية الفرد ومعارفه السابقة على ما يتعلمه لاحقا ، فقد عرض الاستاذ بعض الأمثلة عن أحكام شرعية اصدرها فقهاء من سكان الريف وآخرين من سكان العواصم ، في نفس الموضوع ، وكان الفرق بينهما شاسعا. وأذكر خصوصا الجدل الساخن الذي ثار ، حين اعترض زميل متقدم على قول الاستاذ بان كل فرد يميل لترجيح دينه على بقية الأديان ، لأنه ألفه منذ الصغر ، سواء وجد عليه دليلا ام لم يجد. وقد ذهب هذا الجدل الى مسافات أبعد مما تخيلنا.

مع الوقت ، يدرك الانسان ان ما يراه لا يختلف كثيرا عما يسمعه ، فكلاهما لا يفيد الا ظنا. او لعلنا نقول ان رؤية الشيء لا تكشف غير ظاهره ، وربما تكشف جانبا من حقيقته ، وربما لا تكشف له الا ما أراد سلفا أن يراه. لتبسيط الفكرة دعنا نسأل ثلاثة اشخاص عن القيمة الاخلاقية للمؤسسة المالية التي نسميها البنك: لو سألت فقيها تقليديا فسيخبرك بانها محل لغضب الله ، لأنها تدير المعاملات الربوية. ولو سألت خبيرا في المالية ، لقال انها محور المعيشة والنشاط الاقتصادي لأي بلد. ولو سألت مناضلا ماركسيا لأخبرك انها رمز من رموز الاستغلال. سبب هذا التفارق في الوصف والقيمة ، هو التصور السابق عن اجزاء التجربة والنتائج المتوقعة منها.

في ماضي الزمان كان الاعتقاد السائد انه لا يوجد وسيط بين العين والواقعة. ما تراه بعينك هو عين الحقيقة. ولذا فالرؤية دليل على الحقيقة. لكننا نعرف اليوم ان العين مجرد ناقل للصورة الخارجية ، اما تعريف الصورة ثم تحديد طبيعتها وقيمتها، فهو من أعمال العقل.

ونعرف ان العقل لا يعمل في فراغ ولا يبدأ من الصفر ، فهو يبدأ أولا بتصنيف الصورة التي تلقاها ضمن واحد من الاف الاطارات والقواعد التي يختزنها ، والتي تشكل ما يشبه المنظار الذي يرى من خلاله الاشياء الجديدة. من هنا فثمة اجماع في العلم الحديث ، على ان المفاهيم والتصورات المختزنة في الذهن ، تعمل كوسيط بين عينك وبين الواقع. اي انك ترى الاشياء الجديدة من خلال التصورات المختزنة في ذهنك.

يختلف الناس في تقييمهم لعناصر الواقع ، كما يختلفون في وصفها ، لانهم في الاساس لا ينظرون اليها كعنصر بسيط مستقل ، بل كجزء في مركب له صورة وقيمة خاصة في أذهانهم. هذه الصورة قد تكون مستمدة من علم سابق او تصور شخصي او تجربة مع المركب ككل او بعض اجزائه.

مثال البنك المشار اليه نموذج عن كل شيء آخر نراه في حياتنا ، حيث نتعامل معه استنادا الى فهم مسبق لذلك الشيء ، او على الاقل تصور مسبق او حتى تخيل لماهيته وموقعه. العين مجرد ناقل للمشهد ، اما الذي يرى فهو العقل.

الشرق الاوسط الخميس - 11 ربيع الثاني 1445 هـ - 26 أكتوبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4628711

19/10/2023

الناس شركاء في صياغة الحياة الدينية


ذكرت في مقال سابق انني مؤمن بان كل جيل من أجيال المسلمين ، له الحق في صياغة النموذج الذي يراه مناسبا للايمان والتدين في عصره. وان هذه القناعة تعني امكانية ان يكون لكل عصر نموذج في الحياة الدينية ، مختلف عن العصور السابقة.

وكنت قد طرحت هذه الفكرة قبل سنوات على أستاذ لي ، فأجابني بالقاعدة المعروفة في الفلسفة اليونانية "لكل سؤال صحيح ، جواب واحد صحيح ، ولا يمكن ان يكون اكثر من واحد". وتطبيق هذه الفكرة ان الشريعة مجموع اجوبة الدين على أسئلة الحياة ، لكل مسألة حكم واحد هو ما قاله الله او الرسول.

أظن ان معظم من يسمع هذا الكلام ، سيأخذه كأمر بديهي. لأنه يبدو معقولا ومطابقا لما تعلمناه منذ الصغر.

رغم ذلك ، فهو لا يمنع تساؤلات جدية ، أولها: من قال انه بديهي. واذا كانت الشريعة كاملة ناجزة منذ حياة النبي ، فلماذا اجتهد القضاة والائمة والفقهاء على امتداد القرون التالية حتى يومنا ، فابدعوا آلاف الاحكام والتفاسير التي لم يعرفها زمان النبي؟.

قد يظن القاريء العزيز ان دور الفقيه مقتصر على تطبيق الآيات والأحاديث على القضايا الجديدة. وهذا غير صحيح. لأن السؤال الجديد وليد ظرف جديد ، فيحتاج لاجتهاد في تحديد الموضوع ، واجتهاد في تحديد النص الذي يناسبه. وكلا الاجتهادين عمل بشري يعتمد قواعد العلم والمنطق. ونعلم ان عمل العقل محكوم بخلفية صاحبه ، الثقافية والاجتماعية ، فضلا عن المستوى العام للمعرفة في زمنه. واحيل القاريء الى ما نقله الدكتور حيدر اللواتي عن عدد من كبار المفسرين والمحدثين المسلمين ، الذين انكروا كروية الارض ، اعتمادا على آيات او أحاديث توحي بانها مسطحة (الرؤية 16 اكتوبر). فهؤلاء الأعلام افترضوا انه لا يمكن مخالفة النص ، حتى لو قام الدليل على مخالفة الواقع لمفاده. لا نتوقع طبعا ان يأتي مفسر او فقيه معاصر بمثل هذا ، لأن الزمن تغير. ان الافق التاريخي للناس (ومنهم صاحب الفكرة) يحدد طريقة فهم الموضوع وطريقة البحث عن جوابه. وبالتالي فان رأي الفقيه او المفسر الذي نظنه مطابقا لمفاد النص ، هو في الحقيقة فهمه الخاص او الفهم السائد في زمنه. ولهذا يتغير مع تغير الزمان وموضوعات الحياة واساليبها ، فضلا عن تطور المعرفة واتساع ادراك الانسان لحقائق الطبيعة. اي ان الجواب الذي ظن انه الوحيد الصحيح ، ليس سوى الاحتمال الراجح في زمنه والمتناسب مع مستوى معارفه. وحين يتغير الزمان وتتسع المعرفة ، فسوف يكتشف الناس احتمالات بديلة.

ان استقلال العلوم عن بعضها ، واتجاهها للتخصص الدقيق هو اهم التحولات التي حصلت في القرنين الاخيرين. وبسببه ما عاد الفقيه قادرا على الاحاطة بعلم الطب او الهندسة او الفلك او الرياضيات ، كما كان الحال في الماضي. بل حتى العلوم اللصيقة بدراسة الشريعة ، تحولت الى تخصصات متوسعة ودقيقة ، لا يمكن للفقيه ان يتفوق على المختصين فيها. ومن ذلك علوم النحو واللغة والادب والمنطق والفلسفة والتاريخ ، وكذلك العلوم الخاصة بالاثبات وفهم النزاعات ، ومثلها العقود والتعويضات. وهي مما يحتاجه القضاة.

ان اعتماد العلوم المختلفة في تشخيص موضوعات الحكم الشرعي ، وارتقاء فهم الفقيه نتيجة اطلاعه على العلوم الجديدة التي تطورت بعيدا عن مدارس العلم الشرعي ، هي ما نسميه مشاركة عامة الناس ، مسلمين وغير مسلمين ، في فهم موضوعات الشريعة ، ثم في صياغة احكام الشريعة.

ما ندعو اليه اذن هو اقرار المشتغلين بالفقه ، بأنهم يعتمدون في كثير من عملهم على العلماء في الحقول الاخرى. فاذا كان لعمل الفقيه قيمة ، فان جانبا منها يرجع الى أولئك. هذا ببساطة ما نسميه مشاركة اجيال المسلمين في صوغ حياتهم الدينية وتجربتهم الدينية. انه واقع قائم ، لكنه يحتاج الى اقرار وتنظيم.

الشرق الاوسط الخميس - 04 ربيع الثاني 1445 هـ - 19 أكتوبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4614221


مقالات ذات علاقة

تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

ثوب فقهي لمعركة سياسية

حول الحاجة الى فقه سياسي جديد

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة التجديد بغيضة.... ولكن

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

الـدين والمعـرفة الدينـية

رأي الفقيه ليس حكم الله

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

في رثاء د. طه جابر العلواني

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

نسبية المعرفة الدينية

نظرة على علم اصول الفقه

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد التجربة الدينية

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...