الفصل بين الحقائق والقيم ، واحد من التقاليد المستقرة
في مجامع البحث العلمي. والمقصود به ان يتخفف الباحث او الناقد من انحيازاته
الشخصية والاجتماعية لحظة البحث ، فلا يجعلها معيارا في اختيار موضوع البحث او
منهجه ، او في الحكم على نتائجه.
والحق ان الفصل التام بين الموضوع والميول الشخصية ، من أصعب الأمور ، بل ادعى بعضهم انه مستحيل. ولا أراه كذلك ، لكني اعرف صعوبته. واعلم أنه اشد عسرا في ظروف الأزمة والصراعات الداخلية والاقليمية ، سيما تلك التي تدور حول قضايا الهوية ، او التي تكون الهوية عاملا في تأجيجها ، أو سلاحا في يد أطرافها.
ان حرص الباحث على مسايرة ميوله الخاصة او ميول مجتمعه
، لن يساعد في انتاج العلم ، بل لن يؤدي - على الأرجح - الى أكثر من "تطييب
الخواطر" ، اي الوصول الى نتائج مريحة لنفس الباحث أو "جماعته" ، لأنها
– ببساطة – تؤكد ما كانوا يقولونه دائما وما يرغبون في قوله ، في ثوب جديد او لغة
مختلفة.
وقرأت في الأيام الماضية كتابا يعالج العلاقة بين الدين
والاسطورة ، خصص كاتبه مساحة واسعة نسبيا ، لشرح رؤية علماء اوروبيين للمسافة
بين الواقعي والمتخيل في الدين. وحين وصل الى الفصل الخاص بمناقشة العلاقة بين
الاسلام والاسطورة ، ورأي المفكرين المسلمين الذين تحدثوا في الموضوع ، اشتغل محرك
الهوية عند الكاتب فيما يظهر ، فأغفل مناقشة آراء اولئك المفكرين وأدلتهم ، كي يركز
على ماقال انه تطابق بين تلك الآراء ونظائرها الشائعة في اوربا. وبناء عليه
اعتبرها بعيدة عن المجال الاسلامي ولا ينبغي التعامل معها كتفكير في الدين.
وأميل الى الظن بان الكاتب لم يشرع في بحثه ذاك ،
قاصدا انتاج معرفة جديدة. ذلك ان منهج السجال الديني يبدو واضحا في أكثر من موضع.
ومن يتخذ منهج المساجلة ، فانه لا يهتم بالتحقق من آراء المخالفين ، التي قد تكون
صحيحة وقد تكون خاطئة. ان همه الوحيد هو تسفيه تلك الآراء وتعزيز موقفه ، بغض
النظر عن كونه صحيحا او خطأ في الواقع. انه – بعبارة اخرى – لا يسائل موقفه
ومعتقداته ، لأنه مشغول في محاكمة الآخرين.
ربما يكون هذا الموقف ناتجا عن الميول الايديولوجية
للكاتب ، او عن ارتباطه بمصالح المحيط الاجتماعي واراداته. ولا شك عندي ان مسايرة
الرأي العام أيسر مؤونة. وقد ذكرت مرارا ان المفكر او صانع الرأي ، ليس مطالبا بمصارعة
المجتمع والسير عكس التيار ، إلا إذا اختار هذا المسار بنفسه. فهو – مثل غيره – حر
في الأخذ بما يستطيع احتمال تبعاته. ومن هنا فليس من الانصاف ان نطالبه أو نطالب
غيره بتحمل اعباء اجتماعية ، تزيد عما التزم به سائر الناس واصحاب الحرف الأخرى.
أقول هذا الكلام الذي يبدو محافظا ، وغايتي انصاف
تلك الشريحة من اهل الفكر الذين اضطروا للسكوت كليا ، او اضطروا لاغفال قناعاتهم
أو مسايرة التيار العام ، طمعا في السلامة. وأعرف العديد ممن اتخذوا هذا المسار
بعدما اختبروا ضغط المجتمع ، بل قسوته على أهل الرأي الذين اختاروا يوما ان "يحملوا
السلم بالعرض" كما يقال.
بموازاة هذا ، فاني اعلم ان المجتمعات لا تتقدم ، ان
ذوت فيها روح النقد. بل استطيع القول ان انتاج العلم وتطويره مستحيل ، اذا كان نقد
الافكار المعتادة والقناعات السائدة ، ممنوعا او عسيرا. ليس هناك وقت مناسب للنقد
ووقت غير مناسب. وليس هناك وقت مناسب لشرح الرؤى والمواقف ووقت غير مناسب. التعبير
الحر عن الرأي يجب ان يكون متاحا في كل وقت وفي كل ظرف ، حتى لو كنا في أسوأ
الظروف. أيا كان الأذى الذي ربما يخشاه الناس من النقد في ظرف الازمة ، فانه –
بالتأكيد - لن يؤدي لضرر مادي. بل على العكس ، فالضرر الاعظم الذي وقع سابقا ولا
زال يتكرر في عالم العرب ، هو هيمنة الرأي الواحد والاكتفاء به ، والتضييق على
الآراء المخالفة والخيارات التي تشير الى طريق غير الذي ألفناه بعدما ورثناه عن
الأسلاف.
الشرق الاوسط الخميس
- 09 جمادي الأول 1445 هـ - 23 نوفمبر 2023 م
https://aawsat.com/node/4684841
مقالات
ذات صلة
أصنام الحياة
الاموات الذين يعيشون في بيوتنا
الصنم الخامس
عـلم الوقـوف على
الاطـلال
العودة إلى ثقافة
الزمن المنقضي
القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة
كهف الجماعة
كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر
كيف تولد الجماعة
ما رأيك في ماء زمزم؟
مهابهاراتا.. أعظم ملحمة في تاريخ الانسان
نسبية المعرفة الدينية