تحدثت في الاسبوع الماضي عن اشكال يحيط بمفهوم الجماعة ، فحواه
أنها مبجلة – نوعا ما – في الشرع والقانون ، لكنها في الوقت نفسه موضع جدل ، منشؤه
الفكرة السائدة حول سلوك الحشود/القطيع.
أردت من ذلك الحديث تمهيد الطريق لطرح الفكرة التي
خلاصتها ، ان عرف الجماعة وتوافقاتها وتشخيصها للمصالح ، يمكن ان يشكل مصدرا
مناسبا للقانون والاحكام الشرعية.
لو طرحت هذه الفكرة في مجتمع أوروبي ، فلن تثير جدلا ، فهي بديهية في ثقافتهم الحديثة. أما في المجتمعات المسلمة فالامر بالعكس.
ولعل معظمنا قد سمع يوما ، من يستنكر اعتماد الراي
العام كأساس للتشريع او تفويض السلطة (عبر الانتخابات مثلا). مفهوم ان الناس لا يقولون
هذا صراحة ، سيما في النقاشات العامة ، بل يضعونه في قالب المقارنة بين رأي العالم
ورأي الجاهل ، فيقولون مثلا: الانتخابات طريقة سيئة ، لأنها تساوي بين راي العالم
الكبير والعامل البسيط. فهل يصح ان نعطي لكلا الرأيين نفس الوزن ، ونغفل فارق
المعرفة بينهما؟.
ورأيت في هذه الأيام
تعبيرا آخر عن الفكرة ، حين تبرم بعض الناس بالنقد الموجه لعلماء الدين او الإنتاج
العلمي للهيئات الشرعية. يقولون مثلا: ان طالب العلم يثني ركبتيه عشرات السنين عند
شيوخه ، قبل ان يفتي في مسألة ، ثم يأتي شخص "قرأ كتابين" ، فيدعي الاهلية
للرد على تلك الفتوى. فهل هذا سائغ او معقول؟.
يسهل على الناس تقبل هذا
القول ، بل واعتباره محاكيا للحقيقة ، لأنه ينطلق من مفهوم مستقر في الثقافة
العامة ، فحواه تقديم اهل العلم على غيرهم ، ثم تقديم حملة العلم الديني ، في
مختلف مستوياتهم ، على كل أحد ، حتى العلماء في المجالات الأخرى.
احتمل ان القاريء العزيز
قد توصل الآن الى حقيقة ان النقاش حول الراي العام والعرف والجماعة ، يشوبه خلط
كثير ، أدى في أحيان كثيرة ، الى انحراف النقاش نحو نقاط لا علاقة لها بالموضوع
أصلا. ان تفكيك هذا الاختلاط يستدعي التأمل في كل من عناصر الموضوع بمفرده ، ثم
البحث عن الرابط الصحيح بينها.
المسالة
الأولى التي يجب الانتباه اليها ، هي اطار النقاش: اذا كنا في المجال العلمي البحت ، فان راي الأكثرية وراي الفرد الواحد
سواء. والمقدم هو ما يبنى على دليل مقنع. اما في حل الاختلافات العملية ، او في
تعيين ممثلي الجماعة ، او تفويض السلطة ، فان رأي الأكثرية هو المقدم.
بعبارة أخرى ، فان جميع
الآراء محترمة على مستوى العلم ، بما فيها الآراء في الدين. مع ان العقلاء سيأخذون
بالرأي المستند الى دليل متين ، حتى لو كان صاحبه ممن "قرأ كتابين" كما
يقال احيانا. لهذا فقوة الدليل هي المعيار. ويبقى لكل فرد حق تام في اختيار ما
يراه ، طالما لم يفرضه على غيره.
الاخذ برأي الأكثرية في
القضايا العامة ضروري ، لان الناس يختلفون في تشخيص المصالح ، فلا بد من طريقة للتوصل
الى حل يتجاوز الاختلاف. لكن ثمة – إضافة الى هذا - مبرر آخر ، وهو اجتماع العقول.
فالمؤكد ان دعوة الناس للتعبير عن آرائهم والمشاركة في القرار ، سوف توفر لنا رؤية
واسعة ، تستند الى مئات العقول ، من تخصصات ومشارب مختلفة ، وهذا يسمح بالتعمق في
فهم خلفيات القرار ونتائجه المحتملة قبل إصداره. وقد ورد في الأثر "اعقل
الناس من جمع عقول الناس الى عقله".
عقلانية الاخذ بالراي
العام ثابتة في الأمور العامة ككل ، ومن بينها – في رايي - الاحكام الشرعية التي
تفرض بواسطة هيئات الدولة على عموم الناس.
الأربعاء -
15 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 09 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16052]
https://aawsat.com/node/3976421/
مقالات ذات صلة
جبر العامة
الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة
مكانة "العامة" في التفكير الديني
طريق الحزب الى السلطة
الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الرابع
حول جاهزية المجتمع للمشاركة السياسية
الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الثاني
اقامة الشريعة بالاختيار