09/11/2022

دور الراي العام في التشريع


تحدثت في الاسبوع الماضي عن اشكال يحيط بمفهوم الجماعة ، فحواه أنها مبجلة – نوعا ما – في الشرع والقانون ، لكنها في الوقت نفسه موضع جدل ، منشؤه الفكرة السائدة حول سلوك الحشود/القطيع.

أردت من ذلك الحديث تمهيد الطريق لطرح الفكرة التي خلاصتها ، ان عرف الجماعة وتوافقاتها وتشخيصها للمصالح ، يمكن ان يشكل مصدرا مناسبا للقانون والاحكام الشرعية.

لو طرحت هذه الفكرة في مجتمع أوروبي ، فلن تثير جدلا ، فهي بديهية في ثقافتهم الحديثة. أما في المجتمعات المسلمة فالامر بالعكس.

ولعل معظمنا قد سمع يوما ، من يستنكر اعتماد الراي العام كأساس للتشريع او تفويض السلطة (عبر الانتخابات مثلا). مفهوم ان الناس لا يقولون هذا صراحة ، سيما في النقاشات العامة ، بل يضعونه في قالب المقارنة بين رأي العالم ورأي الجاهل ، فيقولون مثلا: الانتخابات طريقة سيئة ، لأنها تساوي بين راي العالم الكبير والعامل البسيط. فهل يصح ان نعطي لكلا الرأيين نفس الوزن ، ونغفل فارق المعرفة بينهما؟.

ورأيت في هذه الأيام تعبيرا آخر عن الفكرة ، حين تبرم بعض الناس بالنقد الموجه لعلماء الدين او الإنتاج العلمي للهيئات الشرعية. يقولون مثلا: ان طالب العلم يثني ركبتيه عشرات السنين عند شيوخه ، قبل ان يفتي في مسألة ، ثم يأتي شخص "قرأ كتابين" ، فيدعي الاهلية للرد على تلك الفتوى. فهل هذا سائغ او معقول؟.

يسهل على الناس تقبل هذا القول ، بل واعتباره محاكيا للحقيقة ، لأنه ينطلق من مفهوم مستقر في الثقافة العامة ، فحواه تقديم اهل العلم على غيرهم ، ثم تقديم حملة العلم الديني ، في مختلف مستوياتهم ، على كل أحد ، حتى العلماء في المجالات الأخرى.

احتمل ان القاريء العزيز قد توصل الآن الى حقيقة ان النقاش حول الراي العام والعرف والجماعة ، يشوبه خلط كثير ، أدى في أحيان كثيرة ، الى انحراف النقاش نحو نقاط لا علاقة لها بالموضوع أصلا. ان تفكيك هذا الاختلاط يستدعي التأمل في كل من عناصر الموضوع بمفرده ، ثم البحث عن الرابط الصحيح بينها.

المسالة الأولى التي يجب الانتباه اليها ، هي اطار النقاش: اذا كنا في المجال العلمي البحت ، فان راي الأكثرية وراي الفرد الواحد سواء. والمقدم هو ما يبنى على دليل مقنع. اما في حل الاختلافات العملية ، او في تعيين ممثلي الجماعة ، او تفويض السلطة ، فان رأي الأكثرية هو المقدم.

بعبارة أخرى ، فان جميع الآراء محترمة على مستوى العلم ، بما فيها الآراء في الدين. مع ان العقلاء سيأخذون بالرأي المستند الى دليل متين ، حتى لو كان صاحبه ممن "قرأ كتابين" كما يقال احيانا. لهذا فقوة الدليل هي المعيار. ويبقى لكل فرد حق تام في اختيار ما يراه ، طالما لم يفرضه على غيره.

الاخذ برأي الأكثرية في القضايا العامة ضروري ، لان الناس يختلفون في تشخيص المصالح ، فلا بد من طريقة للتوصل الى حل يتجاوز الاختلاف. لكن ثمة – إضافة الى هذا - مبرر آخر ، وهو اجتماع العقول. فالمؤكد ان دعوة الناس للتعبير عن آرائهم والمشاركة في القرار ، سوف توفر لنا رؤية واسعة ، تستند الى مئات العقول ، من تخصصات ومشارب مختلفة ، وهذا يسمح بالتعمق في فهم خلفيات القرار ونتائجه المحتملة قبل إصداره. وقد ورد في الأثر "اعقل الناس من جمع عقول الناس الى عقله".

عقلانية الاخذ بالراي العام ثابتة في الأمور العامة ككل ، ومن بينها – في رايي - الاحكام الشرعية التي تفرض بواسطة هيئات الدولة على عموم الناس.

الأربعاء - 15 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 09 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16052]

https://aawsat.com/node/3976421/

 

مقالات ذات صلة

جبر العامة

الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة

مكانة "العامة" في التفكير الديني

طريق الحزب الى السلطة

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الرابع

حول جاهزية المجتمع للمشاركة السياسية

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الثاني

اقامة الشريعة بالاختيار

 

02/11/2022

العرف العام وبناء العقلاء

ثمة مفاهيم تبدو للوهلة الأولى في غاية البساطة. لكنها تنكشف عن تعقيد غير متوقع ، حين توضع امام نقائضها ونظائرها. تحدثت في الأسبوع الماضي عن "العقل الجمعي" محاولا تمييزه عن مفهوم الحشد او ذهنية القطيع/سلوك القطيع. وكان الداعي لهذا التمييز ، هو الخلط المتكرر بين المفهومين ، حتى من جانب كتاب وخطباء ، يفترض فيهم تجنب الخلط بين المفاهيم ، سيما حين يؤدي الى تعقيد ثقافي او أخلاقي غير مستحب.

من ذلك مثلا ظن بعض الناس ان "العقل الجمعي" مساو لتلاشي شخصية الفرد وضياع العقلانية. وهذا ظن لا يخلو من مبالغة. لكن ما يهمني في هذا المقام هو مراجعة اصل الفكرة ، أي مفهوم الجماعة ، حيث بدا لي أنه يستعمل على وجهين متعارضين: في بعض الأحيان تذكر الجماعة باعتبارها موضع الحق والوحدة والطريق الوسط ، أي انها معاكسة لحالة الخروج عن الجادة (الباطل) والتنازع والتطرف. وفي أحيان أخرى تذكر الجماعة كقرين للجمود والتأخر والارتهان للماضي (أي ما يجب التمرد عليه).

بعبارة أخرى فان الثقافة العربية الحديثة ، تنطوي على التباس في مفهوم الجماعة وعلاقة الفرد بها ، وكذا الدور الحياتي والوظيفة المفهومية التي يشغلها كل منهما في النظام الاجتماعي.

بيان ذلك: ان ثقافتنا الموروثة – مثل سائر الثقافات القديمة – تميل لإعلاء مكانة الجماعة. وهو ميل عززه تأكيد الفكر الديني على الوحدة والانسجام ، وتصوير الجماعة كنظام عضوي ، له دور محوري في التجربة الدينية. ان تحليل السياقات التي استعمل فيها مفهوم الجماعة في النصوص التراثية ، يحمل على الاعتقاد بان المفهوم يشير في غالب الأحوال الى ما نسميه الآن "التيار العام" أي الأكثرية العددية المعلنة (اود التأكيد على وصف المعلنة ، لتمييزها عن الأكثرية العددية الحقيقية ، حيث انها غير متحققة ، لكونها صامتة او مهملة او مقهورة ، كما هو حال المسلمين الجدد والنساء اللاتي لم يكن رايهن معتبرا ضمن حساب الأكثرية والاقلية).

اخذا بعين الاعتبار هذا التمهيد ، أود الإشارة أيضا الى ان المقارنة بين الأكثرية والأقلية ، ليس اصيلا في ثقافة المسلمين. لم يكن ثمة ما يطلق عليه أقلية. ولذا لم يكن ثمة أكثرية أيضا. لقد جرى التعبير عن الكثرة والقلة بوصفين: الجماعة والخارج عن الجماعة ، الذي يطلق عليه أحيانا الشاذ ، بمعنى المتمرد. وفي هذا السياق اشتهر الحديث المنسوب للنبي "عليكم بالجماعة ، فان يد الله على الجماعة". وزاد عليها بعض الرواة "ومن شذ شذ في النار". والظاهر انها ليست جزء من الحديث.

هذا التحليل يضع راي الجماعة في موقع "العرف العام". اني أحاول هنا تقريب العرف العام/راي الجماعة الى ما يسميه الفقهاء "بناء العقلاء/عرف العقلاء" ، أي احكام العقل ، أو القيم التي تلقى على الافعال من جانب عقلاء العالم ، أيا كانت اديانهم وازمانهم.

أرى هذا التقريب/التعريف ضروريا لجعل الثقافة العربية والإسلامية تتقبل المشترك الإنساني ، أي ما توافق عليه عقلاء البشر ، وتضيفه الى نسيجها الخاص كي يمسي جزء منها ، حتى لو كان في الأصل منسوبا الى ثقافات الأمم الأخرى. لابد من الإشارة هنا الى ان حديثنا كله يتعلق باطار العمل والقيم الاجتماعية التي تنظم العلاقة بين الناس. اما مجال العلم فبعيد عن هذا كله. ان الرأي العلمي للفرد والجماعة سواء ، لا يعلو احدهما الاخر ولا يلغيه. وقد اشرت في مقالات أخرى الى ان مفهوم الاجماع وتقديم رأي الجماعة ، يستهدف وضع قاعدة لعلاج الاختلاف في الراي المتعلق بقيمة عمل ما ، ولا يستهدف الموازنة بين الأدلة العلمية.

الشرق الأوسط الأربعاء - 8 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 02 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16045]

https://aawsat.com/node/3964226

مقالات ذات صلة

 

بماذا ننصح أينشتاين؟

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

التعصب كمنتج اجتماعي

الخوف من التغيير

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

في معنى التعصب

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تولد الجماعة

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

26/10/2022

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

لم اجد موقفا فارغا لسيارتي في ذلك المساء الشديد الرطوبة ، فأوقفتها أمام متجر كبير ، وجدت موقفه فارغا تماما. هرع البواب الي وهو يشير الى لوحة (الموقف مخصص لزبائن المعرض). ابتسمت له ودخلت المتجر. وجدت مديره على مكتب قرب الباب. اخبرته انني استأذنه لايقاف سيارتي امام محله. لكني اريد -أيضا – تقديم نصيحة. ابتسم المدير بمكر  ، فحدثته عن فكرة "العقل الجمعي" ، وخلاصتها ان من مصلحته دعوة السائقين لايقاف سياراتهم امام متجره ، حتى لو كانوا زبائن للمتاجر المجاورة ، لأن الناس اذا رأوا السيارات متزاحمة امام محله ، فسيظنون ان لديه ما يستحق المسارعة بالشراء ، ربما جودة البضاعة او الخدمة ، وسيأتيه الكثير من وراء هذا الوهم. أما اذا رأوا موقف السيارات فارغا ، فسيتخذونه دليلا على ان "البضاعة قديمة" او ان "الأسعار عالية" او أي سبب يبرر الاعراض عن الشراء منه.

ثمة مئات من التجارب القديمة والجديدة ، تؤكد ان الناس يميلون لفعل أشياء بعينها ، لأنهم رأوا أناسا كثيرين يفعلونها قبلهم. ولهذا فمن الأفضل للتاجر ان يعمل على خلق هذا الإيحاء ، ولو بمثل اتاحة موقف سياراته لكل عابر.

وقد لاحظت خلطا متكررا بين مفهوم "العقل الجمعي" ومفهوم قريب منه ، يسمى "سلوك القطيع". ينسب المصطلح الأول الى اثنين من العلماء الفرنسيين ، هما غابرييل دي تارد (1843-1904) وغوستاف لوبون (1841-1931). ولعل بعض القراء الأعزاء قد اطلع على كتاب لوبون "سيكولوجية الجماهير" ، وهو للمناسبة كتاب شهير ، تكررت طباعته في اللغة العربية ، لكنه فقد الكثير من مكانته في الوسط العلمي.

اما مصطلح "سلوك القطيع" فلا اعرف من صاغه. لكن الفكرة ذاتها ، ظهرت في رواية للكاتب والاسقف الفرنسي فرانسوا رابليه ، نشرت حوالي العام 1564. ويصف الكاتب نزاعا على ظهر سفينة ، بين بطل الرواية "بانورج" وتاجر أغنام شرس الطباع ، كان يسافر على متن السفينة نفسها ، مع قطيع من أغنامه. يقول الراوي ان بانورج اشترى اكبر الخراف حجما بسعر عال ، افرح قلب التاجر. لكنه في لحظة غيظ ، وقف امام قطيع الاغنام ثم دفع الخروف الى البحر ، وتنحى جانبا. وخلال لحظات ، تحرك خروف آخر الى حافة السفينة وألقى بنفسه في البحر ، وتبعه ثالث ورابع ، وهكذا فعل جميع الخراف.

بعد ثلاثة قرون ، تحدث علماء عن السلوك الجمعي للحشود ، حيث يحتجب العقل ، وينساق الافراد وراء بعضهم دون تفكير او تساؤل عما اذا كان ثمة هدف يستحق العناء ، او ربما مخاطرة تستحق ان يحسب حسابها قبل مواصلة السير.

أسلفت القول ان كثيرا من الناس يخلطون بين "سلوك القطيع" وبين "العقل الجمعي" أو "عقل الجماعة" كما اسماه لوبون. ان سلوك القطيع ينم عن حراك ميكانيكي نوعا ما ، يبرز فيه الجهد البدني ، بينما يضعف الجهد الذهني ، حتى يصبح الانسان أشبه بقارب يتقاذفه الموج ، دون أن يبذل أدنى محاولة لاستعادة السيطرة على حركته ومسار حياته.

اما في حالة "العقل الجمعي" فنحن نشير غالبا الى فعل إرادي للتماثل مع الجماعة. وهذا يشمل حتى تلك الأفعال التي يظنها المرء خاطئة ، او غير ضرورية ، او غير عقلانية. لكنه – مع ذلك – يمارسها ، كي لا يصنف خارج الخط العام. لعل الأزياء الشخصية هي أبرز  الأمثلة على هذا المسلك. فقد لا يكون الانسان مقتنعا بلبس الثوب الأبيض او الغترة والعقال مثلا ، لكنه يلتزم بلبسها ، تحاشيا للتمايز عن الجماعة.

هذا مثال بسيط ، اخترته لانه واضح جدا. لكن ثمة أمثلة بالمئات ، نستطيع رؤيتها في حياتنا وحياة الاخرين ، من طريقة الكلام الى الاكل وطرق التعامل مع الغير ، فضلا عن تفصيلات المظهر الشخصي ، وحتى اختيار نوع الثقافة والمهنة.

الشرق الاوسط الأربعاء - 1 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 26 أكتوبر 2022 مـ رقم العدد [16038]

https://aawsat.com/node/3951636

مقالات ذات صلة

بماذا ننصح أينشتاين؟

التعصب كمنتج اجتماعي

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

في معنى التعصب

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تولد الجماعة

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

19/10/2022

هل تعرف كارل ماركس؟


كنت في الصف الأول ثانوي حين تعرفت على العلاقة الإشكالية بين المعرفة والحرية. لقد مر الان نحو نصف قرن على هذه الحادثة ، لكنها لازالت حية في تلافيف الذاكرة. ولعلي ما كنت سأحفظها بين عشرات الأشياء الأخرى ، لولا انها نقضت قناعة راسخة ، اعتبرتها يومذاك امرا بديهيا. تتجسد هذه القناعة في المثل المشهور "من علمني حرفا صرت له عبدا". وكنا نتداولها كتأكيد على الاحترام الواجب للمعلم.

د. جون كين

الذي حصل في ذلك اليوم اننا قرأنا في كتاب الادب والنصوص ، مادة عنوانها "عبودية الحرف" تضمنت هجوما شديدا على المثل المذكور. وقال كاتب المادة ان شأن التعليم ان يحرر الانسان ، لا ان يجعله عبدا لغيره. وقد جاءت اللحظة الحاسمة ، حين أمر معلم المادة عددا من الطلاب بالحديث دفاعا عن فكرة المثل ، وأمر آخرين باتخاذ الموقف المضاد ، أي تأييد الفكرة الرافضة لعبودية الحرف. وكان من سوء حظي ان اختارني ضمن الفريق الثاني ، رغم قناعتي التامة بالموقف الأول.

لا اذكر الان ماذا قلت في الموضوع. لكني عدت اليه بعد زمن طويل نسبيا ، حين التحقت بفصل في مناهج البحث ، قدمه البروفسور جون كين ، الذي افتتح الدرس بسؤال: حين تفكر في مسألة جديدة ، فهل تستطيع التعرف على المؤثرات التي تدفعك لاختيار رأي بعينه؟. الإجابة على هذا السؤال تساعدنا في اكتشاف حدود العقل: هل نفكر بعقل مستقل حقا ، ام ان ما نسميه تفكيرا ، هو مجرد استدعاء لأحكام جاهزة من محيطنا الثقافي او تجاربنا الحياتية.

في مساء اليوم التالي ، شرحت فكرة الدرس لبعض أصدقائي ، فقدم واحد منهم نقضا للفكرة ، خلاصته انه لو لم يكن العقل مستقلا ، لما أمرنا الله بالعودة الى عقولنا واعتبر حكمها حجة علينا. فبدا ان الجميع اقتنع بهذا الرد. لكن زميلا آخر اشار الى ما اعتبره ميولا يسارية عند البروفسور كين ، وعقب بالحديث عن الدور المحوري للمذهب الماركسي في الارتقاء بنقاشات الفلسفة ، فضلا عن مساهمته الجليلة في تعميم فكرة العدالة الاجتماعية ، وتحويلها الى ثابت من ثوابت السياسة في الدول المتقدمة.

دار نقاش قصير حول هذه الفكرة ، سرعان ما انحرف نحو شخص كارل ماركس وكونه يهوديا ، وعن دور اليهود في اوربا وعلاقتهم مع المسيحية ، وهجرتهم الى أمريكا الشمالية ، ودور اللوبي اليهودي هناك.. الخ. حين وصلنا الى هذه النقطة ، تدخل الزميل قائلا: أين كنا نتحدث ، ومن الذين يتحدث الآن.. عقولنا ام خلفياتنا الذهنية ومفاهيمنا المسبقة عن الناس والأفكار والحوادث؟.

لقد لفت هذا الزميل انظارنا الى الحقيقة التي لا مراء فيها ، وهي أن رأينا في الماركسية – مثلا – ليس مبنيا على مقارنة علمية بين محاسنها ومساويها. اننا ندخل النقاش محملين بمواقف مسبقة تجاه مؤسسها ، وتجاه الدين الذي ينسب اليه (رغم انه بحسب تصنيفنا ملحد ، ولا ينتمي واقعيا الى ذلك الدين ولا غيره). ان مجرد انتسابه لعائلة يهودية ، يستدعي حمولة ضخمة تحدد اتجاه الحديث.

في الدروس التالية من ذلك الفصل ، تعرفت على رؤية هانس-جورج غادامر ومارتين هايدجر ، ولاسيما تشديد الأخير على دور الخلفيات الذهنية المسبقة ، كوسيط لفهم المعلومات الجديدة وتحديد قيمتها. وهو يقول في هذا الصدد ان كل فهم جديد مشروط بفهم مسبق. نعلم طبعا ان هذا نسبي وليس مطلقا ، فالوعي الإنساني متحرك وهو – حسب تعبير غادامر – افق مفتوح. بقدر ما يكون الوعي السابق مؤثرا ، فانه - في الوقت نفسه - عرضة للتلاشي ، بتأثير المشاهد والمعلومات ، بل وحتى المصالح الجديدة. ان أبرز علامات كون العقل عقلا ، هو هذه القدرة على التغير والتغيير المتواصل.

الشرق الاوسط الأربعاء - 24 شهر ربيع الأول 1444 هـ - 19 أكتوبر 2022 مـ رقم العدد [16031]

https://aawsat.com/node/3939046

مقالات ذات صلة

ان تكون عبدا لغيرك

الأيديولوجيا السياسية للتيار الاصلاحي في ايران

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التأصيل

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

في علاقة الزمن بالفكرة

كهف الجماعة

مسار التمايز بين الدين والمعرفة الدينية

نسبية المعرفة الدينية

12/10/2022

الخوف من التغيير

ربما تسألني: ما السر في حرص المجتمع التقليدي على اختلاق القيود والضوابط ، التي تفرغ الحرية من أي مضمون؟.

السر في رايي هو ادراك الجميع لحقيقة ان الحرية تسهل التغيير في الثقافة والقيم الاجتماعية. الخوف من التغير هو الدافع الأقوى لمقاومة الأفكار الجديدة. هذا ليس السبب الوحيد بطبيعة الحال ، فهناك أيضا حالة الكسل الذهني التي تجسدها المقولة الشهيرة "ليس في الإمكان ابدع مما كان". وللمناسبة فهذا القول المنسوب لابي حامد الغزالي أثار جدلا واسعا. والمفهوم انه استهدف التأكيد على كمال النظام الكوني وعجيب صنع الله. لكن معارضيه اعتبروه تحديدا لقدرة الله وتعطيلا. وصدرت رسائل عديدة بين مؤيد للغزالي ومعارض.

أما استشهادنا بذلك القول ، فبعيد عن هذا الاطار ، وناظر الى ما يقوله عامة الناس ، من أن الانسان قد وصل غاية العلم ، وأن ما سيأتي لن يكون اختراقا جديدا ، بل مجرد تكميل لما يعرفه الناس فعلا. كانت هذه الفكرة قوية في القرنين الماضيين. وينقل في هذا الصدد ان هنري ايلزورث ، المفوض الرسمي لتسجيل براءات الاختراع في الولايات المتحدة ، قد كتب للكونغرس عام 1843 بأن العلم والفن يواصلان التقدم عاما بعد عام ، بحيث يبدو اننا نقترب فعليا من نهاية الطريق. وقد تم تداول هذه الفكرة لاحقا في صيغة ان "كل ما يمكن اختراعه قد اخترع فعلا".

الخوف من التغيير يولد عادة في البيئات الثقافية التي ترى الماضي حصنا يحمي هويتها ، وتشرط قبول الفكرة الجديدة ، بكونها منسجمة مع فكرة حالية او قديمة. وعلى العكس من ذلك فان الرغبة في التغيير ، تنطلق من ذهنية تميل لتجاوز المألوف ، والبحث الدائم عن الجديد والمجهول. وهي تنمو – عادة – في البيئات التي تربي أعضاءها على حب المغامرة وكشف حجب الغيب. دعنا نأخذ مثالا من الفتوحات الكبرى في الجغرافيا مثل اكتشاف القارات والطرق البحرية والغابات الكبرى والصحارى.. الخ ، فمعظم هذه الكشوف حققها افراد مغامرون ، انطلقوا من دون علم دقيق بما سيصلون اليه ، لكنهم آمنوا بأن وراء حدود المعرفة القائمة ، ثمة عوالم أوسع تستحق ان نحاول كشفها. نفس المثال صحيح بالنسبة للكشوف في مجالات العلوم الطبيعية والاختراعات ، فقد انطلق جميعها من قناعة أصحابها بأن ما يعرفونه ليس كاملا ولا نهائيا ، وان عالمهم ليس سوى واحد من الممكنات ، وثمة ممكنات كثيرة غيره لاتزال غير مكشوفة. لولا ثقافة المغامرة لما عرف الانسان أمريكا ، ولا الطريق البحري الذي يلتف حول القارة الافريقية ، ولا حفرت قناة السويس. ولولا ثقافة المغامرة ما صنعت الطائرة وأنواع الادوية والأجهزة والأدوات ، التي جعلت انسان العصر حاكما في الكون ، بعدما كان محكوما بالظواهر الطبيعية وما نسج حولها من أساطير.

عودا على ما بدأنا به ، نقول ان شعور الناس بانهم أحرار في حياتهم ، احرار في تفكيرهم وفي تعبيرهم عن تلك الأفكار ، هو العامل الأعظم للتقدم ، لأنه ببساطة يجعل جميع الناس شركاء في صناعته. ثمة رأي مشهور يتفق فيه المحافظون والليبراليون ، فحواه ان الأمان والاستقرار شرط للنهوض الاقتصادي والعلمي. دعنا نفهم هذا على ضوء رؤية نيقولو مكيافيلي ، المفكر الإيطالي الشهير ، الذي يقول ان الناس لا يسعون للحرية من اجل الاستيلاء على السلطة ، فهم يدركون ان مقاعدها محدودة العدد ، وغالبا ما تكون محجوزة لآخرين. انما يسعى الناس الى الحرية لانها توفر لهم الأمان حين يتكلمون وحين يعملون.

لدينا دليل متين يثبت هذه الدعوى ، وهو المقارنة بين الدول التي توفر الحرية وتلك التي تحجبها كليا او جزئيا. ما نتح عن هذه السياسة في قرن او نصف قرن او ربع قرن ، برهان ساطع على ثمرة الحرية وعكسها.

 

الأربعاء - 17 شهر ربيع الأول 1444 هـ - 12 أكتوبر 2022 مـ رقم العدد [16024]

https://aawsat.com/node/3925741

مقالات ذات صلة

ابتكار المستقبل

اختيار التقدم

الأمل الآن وليس في آخر الطريق

بقية من ظلال الماضين

التقدم اختيار.. ولكن

 تلميذ يتعلم وزبون يشتري

 التمكين من خلال التعليم

الحداثة تجديد الحياة

خطباء وعلماء وحدادون

ركاب الدرجة السياحية

شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

فكرة التقدم باختصار

الفكرة القائدة ، مثال الواتس اب

كيف نتقدم.. سؤال المليون

ماذا تفعل لو كنت غنيا ؟

المكنسة وما بعدها

هيروهيتو ام عصا موسى؟

05/10/2022

الحرية والشر


معظم الذين يرفضون الحرية ، يبالغون في تضخيم الاستثناءات ، حتى تنكمش القاعدة او تتلاشى. وعلى العكس من ذلك ، يركز دعاة الحرية والمؤمنون بها على حقيقة كونها الأصل والقاعدة ، وأن أي تقييد ينبغي ان يتفرع من الأصل ويأتي كاستثناء من القاعدة ، فلا يتضخم الى القدر الذي يجعل القاعدة معدومة الأثر ، او يجعل الأصل أضعف أثرا من الفرع.

لا بد – على أي حال - من التأكيد على أن منكري الحرية ، مثل دعاتها ، ينطلقون من موقف فكري او اجتماعي سابق على طرح الفكرة للنقاش. ولهم بالتأكيد مبررات ترضيهم ، وان لم يقبلها الفريق المقابل.

مهسا اميني (2000-2022)

وقد أشرت في مقال سابق الى أن الشرائح المحافظة في مختلف المجتمعات ، تنظر للحرية كحاجة ثانوية للمجتمع الإنساني ، لا انها ضرورية للتقدم كما يدعي الليبراليون. ونعلم مثلا ان الماركسية الكلاسيكية اعتبرت الحرية لعبة بورجوازية ، وأن حاجة المجتمع الحقيقية ، هي ضمان القواعد المادية الأساسية للعيش الكريم ، حتى تحقيق المساواة بين الناس. أما المجتمعات المتدينة (على اختلاف الأديان والمذاهب) فتعتبر الحرية أداة سخرها أنصار الشيطان للتغرير بالأجيال الجديدة ، كي يتمردوا على النظام الاجتماعي الفاضل. واحدث الأمثلة على هذا ، الحادث الذي انتهى بمقتل الشابة مهسا أميني على يد "دوريات الاخلاق" في العاصمة الإيرانية طهران. وقد برر ما جرى بعد ذلك بأنه مؤامرة اجنبية ، بينما كان المؤمل أن تعتذر الحكومة عن هذا الخطأ الكارثي.

كتبت سابقا انك لن تجد بين السياسيين والمثقفين او الزعماء الدينيين من يعلن صراحة انه ضد الحرية. لكن الذي يحصل عادة ، هو التركيز على الاستثناءات والحواشي واكثار الكلام فيها ، حتى تتضاءل القاعدة الاصلية وتضيع في الزحمة. حين تتحدث عن الحرية او فوائدها ، ستأتيك عشرات الردود ، من كل طرف ، حتى ليخيل اليك انها دفاع منسق. الواقع انها ليست منسقة ، لكن المجتمعات المحافظة جاهزة دائما للتعبير عن رفضها للتغيير وكافة مداخله ومؤدياته ، بل كل ما يرتبط به من قيم وأفكار. ستجد مثلا:

أ‌-        ردود تقول ان الحرية طيبة ، لكنها مستحيلة. لا توجد حرية في العالم الواقعي. الرسالة الداخلية لهذا الموقف هي: الكلام عن الحرية عبث لا طائل تحته.

ب‌-  ردود تقول ان الحرية طيبة ، لكن تطبيقها مشروط ومحدد بالحدود التي يضعها المجتمع او الدين. فحوى هذا الموقف اننا لا نريد حرية تأتي بفكرة مختلفة او تدعو لعلاقات اجتماعية جديدة.

ت‌-  ردود تركز على مخاطر الحرية المطلقة ، فلو ترك الناس من دون ضابط لارتكبوا كبائر الآثام. فحوى هذا الموقف ان الانسان بطبعه فاسد ، وأن ما يمنعه عن الفساد هو خشية العقاب ، وان الحرية تحرره من هذا الخوف.

ث‌-  ردود تركز على تجارب البلدان التي قبلت بالحرية. لا سيما السلوكيات التي يعتبرها عامة الناس نموذجا لسقوط الأخلاق ، مثل اللباس غير المحتشم ، والعلاقات غير المتناسبة مع التقاليد التي نعرفها ، وتمرد الأبناء على الآباء.. الخ. فحوى هذا الموقف ان الانسان سيخسر ابناءه لو قبل بمبدأ الحرية.

كل من هذه المواقف تقول ببساطة: نحن نريد الحرية ، لكن الحرية لا تريدنا ، فهي لا تأتي دون ان ترافقها الشرور. الأفضل إذن التخلي عن هذه المغامرة المجهولة العواقب. هذا يوضح المخادعة التي يقوم بها العقل التقليدي ، حين يدفع الاستثناء كي يزيح القاعدة ، ويستولي الشرح على المتن ، "الاستحواذ على النص الأصلي المشع ، بعد تغطيته بنصوص الهامش المعتمة" حسب تعبير اخي د. معجب الزهراني

الشرق الأوسط - الأربعاء - 10 شهر ربيع الأول 1444 هـ - 05 أكتوبر 2022 مـ رقم العدد [16017]

https://aawsat.com/node/3912301

 

مقالات ذات صلة

 ان تكون عبدا لغيرك

تحكيم القانون وليس التعويل على الاخلاق

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية

حدود الحرية .. حدود القانون

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات -دراسة موسعة 

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها القانون

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي...

الحرية بوصفها مشكلة

الحرية بين مفهومين

الحرية عند أهل الفقه

الحرية والانفلات

 الحرية والنظام العام

الحرية وحدودها القانونية

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم

الخبز الحافي والحرية المستحيلة

دعاة الحرية وأعداء الحرية

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

العلاقة الجدلية بين الحرية ورضا العامة

عن الحرية والاغـتراب

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات

في تمجيد الحرية

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟

مجتمع الاحرار

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية

مجتمع الخاطئين

مجتمع العبيد

معنى ان تكون حرا ، اراء قديمة وجديدة

ملاحظات على حديث قصير – غريب

من يتحدث حول الحرية.. وماذا يقول ؟

يحبون الحرية ويخشونها

 

 

 

 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...