تخبرنا أبحاث "الثقافة السياسية" عن مجتمعات تمتاز بقابلية عالية للمساومة والتوصل الى مطالبها من خلال التفاوض. وثمة في المقابل ، مجتمعات ترفض - من حيث المبدأ - المساومة والحلول الوسط. بل ربما تعتبر الداعين للمساومة مفرطين أو حتى خونة.
لتوضيح الفكرة ، افترض اني طرحت السؤال التالي على 10 أشخاص في بلد عربي: لدينا خلاف على حقوق ندعيها ، ويمكننا تحصيل نصفها من خلال التفاوض ومن دون خسائر كبيرة. فهل نقبل بالنصف ام نتمسك بمطالبنا كلها مهما طال الزمن؟.
اعتقد ان سبعة من هؤلاء الاشخاص سيقبلون النصف ، لانه مضمون وغير مكلف. سيقول بعضهم: دعنا نستثمر ما حصلنا عليه ونعيد بناء النصف الآخر من جديد. لكن الثلاثة الباقين سيرون التخلي عن حقوقنا جبنا وانهزامية. وسيقولون مثلا: ليس مهما ان تكسب الماديات ، المهم ان تكسب نفسك وتقاتل دون حقك مهما طال الزمن.
لعل بعض القراء الأعزاء يوافقني في ان عصفورا في اليد خير من عشرة على الشجرة. ولعل غالبية الناس سيذهبون نفس المذهب.
لكن الذي لاحظناه ان طريقة المجتمع العربي في اتخاذ المواقف السياسية ، تتناقض تماما مع هذا المنهج. في القضايا القومية (فلسطين مثلا) وكذا القضايا القطرية ، يطالب الناس بالعصافير العشرة جميعا ، ويرفضون اي مساومة عليها. وأرى ان هذا من الأسباب التي عطلت حل المشكلات الكبرى التي تواجه البلدان العربية.
وقد اخبرني الصديق الدكتور منقذ داغر ، انه يجري بحثا على المجتمع العراقي ، يتناول مفهوم "تصلب الشخصية" الذي يعني بشكل محدد عدم القدرة على المساومة والتفاوض ، حيث تشير البحوث الميدانية الى ان ما نتحدث عنه بشكل انطباعي ، يعكس صورة حقيقية قابلة للاثبات العلمي: ان المجتمع العراقي يتصف فعلا بتصلب الشخصية.
من المفهوم طبعا ان البحوث العلمية تعتمد القياس النسبي ، الذي يعطي فكرة اجمالية عن سمة غالبة او ميل عام لمجتمع بعينه ، لا أن كل شخص يحمل هذه الصفة.
لم اوفق لأجراء دراسة من النوع الذي يجريه الدكتور داغر. لكن تأملاتي في كلام الناس وتعاملاتهم العادية ، اوصلتني الى كشف ازدواجية في الموقف ، شائعة جدا في المجتمع العربي.
بيان ذلك: لو عدنا الى السؤال السابق ، فوجهناه الى عشرة اشخاص ، كلا بمفرده ، فسوف يوافق 7 منهم على المساومة والحل الوسط. لكن لو وجهنا نفس السؤال الى جمع غفير ، فسينهض الثلاثة الآخرون ، ويلقون خطابا مجلجلا حول الإهانة العظمى التي تلحق بالأمة التي ترضى بالحلول الوسط. وعندئذ سوف ترى الكفة مائلة بشدة الى جانب هذا الموقف.
وتسأل نفسك: هل تخلى السبعة السابقون عن رأيهم لمجرد استماعهم الى خطاب الثلاثة؟.
الواقع انهم لم يتخلوا ، لكنهم بدأوا ينظرون الى زاوية أخرى ، هي زاوية القيم والمباديء (التي - لسوء الحظ - تم فصلها عن قواعد المنطق ومتطلبات الواقع). ربما بدأ بعضهم يقول لنفسه: هل يمكن ان يكون سبعة اشخاص على صواب بينما كافة الناس الاخرين على خطأ؟. او ربما قال: هل يصح ان اتخلى عن القيم والمباديء من أجل حطام الدنيا الفانية؟.
لقد كانت هذه الأسئلة مطروحة فعليا على اليابانيين في يوليو 1945 ، والثقافة اليابانية شبيهة بنظيرتها العربية في التصلب. لكنهم – مع ذلك – اختاروا القبول بما دون النصف. اما مسلمي الهند ، فقد واجهوا نفس السؤال في نفس الوقت تقريبا ، فاتخذوا الاتجاه المعاكس الذي انتهى الى إقامة دولة الباكستان. ولهذا وذاك قصة أخرى ربما نعود اليها قريبا.
الشرق الأوسط الأربعاء - 12 شهر رمضان 1443 هـ - 13 أبريل 2022 مـ رقم العدد [15842]