23/08/2017

العلمانية بين فريقين

||اهم انجازات الحداثة هو ارتقاء مكانة الانسان/الفرد من منفعل الى فاعل او متفاعل. وهذا يظهر بوضوح في تعامل الفرد مع الدين||. 
يمكن لمن شاء ان يكيل المدائح للعلمانية او يرميها بكل الموبقات. هذا لا يغير أي شيء في اي موضوع. العلمانية محايدة تجاه المعتقدات التي تسكن في ضمير البشر . ومن هنا فهي ليست داعما للمقدسات والجوانب الغيبية في العقائد والاديان. لكن هذا لا يجعلها عدوا للأديان ، ولا يجعلها بالتاكيد دينا بديلا عن اي دين او منافسا للدين.
المتحدثون في العلمانية فريقان ، يفهمها كل منهم في إطار مختلف. الفريق الاول يؤمن بها كايديولوجيا او شبه ايديولوجيا ، يريد تمكينها كمبدأ معياري في الحياة العامة. اما الفريق الثاني فيفهمها كمسار تحول في الافهام والتعاملات ، التي يطور البشر من خلالها حياتهم. لكنه لا يتبناها كمعيار او قيمة مستقلة. 
بالنسبة للفريق الاول فان الحياة ليست سوى مجال لتبادل المنافع المادية. وان التبادل المفيد هو ما ينتج قيمة مادية ، او يقبل التحويل الى قيمة قابلة للاحتساب ، وفق معايير الدنيا الحاضرة. القيم المعنوية والاخلاقيات مفيدة طالما امكن ترجمتها الى قيم مادية. فاذا اقتصرت عوائدها على منافع غير منظورة أو مؤجلة لما وراء الحياة ، فليست ذات موضوع.
انطلق هذا التصور من موقف معاد للأديان والتقاليد الروحية التي تحيل المكاسب لما بعد الحياة ، او تفترض وجود شريحة من الافعال والمسلمات ، لا يقدر العقل البشري على ادراكها واستيعابها. ولذا يجب فعلها والتسليم بصحتها  تعبدا ، او طمعا في الجزاء الأخروي.
اما الفريق الثاني فينظر للعلمانية كناتج طبيعي لانتقال المجتمع من عصر التقاليد الى عصر الحداثة. في عام 1616 حاكمت الكنيسة الكاثوليكية عالم الفيزياء الايطالي غاليليو ، لأنه برهن على صحة آراء كوبرنيكوس ، القائلة بان الارض تدور حول الشمس ، خلافا للتفسيرات المستمدة من الكتاب المقدس. نعلم اليوم ان الناس – حتى الاكثر تدينا منهم - يتعاملون مع الفيزياء والفلك كعلوم مستقلة بقواعدها وتجاربها ، ولا يعتمدون التفسيرات المستمدة من الكتب المقدسة. استقلال العلوم وفقدانها للقداسة او الخضوع للمقدس ، هو احد وجوه التحول الذي يوصف بالعلمانية. ومثل ذلك تماما استقلال القانون والاقتصاد وغيرها من جوانب الحياة.
بناء القوانين وانظمة الدولة والسوق على نتائج الدراسات العلمية والمداولات بين ذوي الاختصاص ، يزيل القداسة من تلك الانظمة ، ويحولها الى شأن عرفي يستمد الزاميته من ذاته او من توافق المجتمع عليه. اي ان طاعة القانون تفهم من جانب الناس ، كواجب يرتبط بالمصلحة العامة العرفية ، لا كتكليف ديني.
ونذكر أيضا ان اهم انجازات الحداثة هو ارتقاء مكانة الانسان/الفرد من منفعل الى فاعل او متفاعل. وهذا يظهر بوضوح في تعامل الفرد مع الدين. في عصر التقاليد كان واجبا على الفرد ان يسمع ويطيع. لأن التعاليم الموجهة اليه ، آتية من مصدر اعلى وأعلم بمصالحه. اما في عصر الحداثة ، فقد بات الفرد أقل اكتراثا بمصدر التعاليم ، واكثر اهتماما بالتحقق من فائدتها لحياته. بسبب هذا التحول فان التدين السائد اليوم ليس صورة عن تدين الآباء ، ففيه الكثر مما استعاره الأبناء من الزامات عصرهم ونتاجاته. تحول موقف الفرد وموقعه من الانفعال الى التفاعل ، هو مثال آخر على تغير مفهوم ومعنى المقدس وتقلص مساحاته في حياة الناس.
لو تركنا جانبا دعوة الفريق الاول ، التي تحمل مضمونا ايديولوجيا ، وركزنا على التأمل في تفسيرات الفريق الثاني ، فقد نجد ان العلمانية في هذا المعنى واقع يتحقق بالتدريج ، وليست مسألة مطروحة للنقاش.
الشرق الاوسط 23 اغسطس 2017 http://aawsat.com/node/1005801
 مقالات ذات علاقة



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...