06/01/2021

دعوة لمراجعة مفهوم الامة/القومية/الوطنية

 أقرا في هذه الأيام كتاب "حول الوطنية On Nationality" للمفكر البريطاني ديفيد ميلر. وهو قديم نسبيا ، فقد نشر في 1995. وتتوزع مواده على سبعة فصول ، في نحو 200 صفحة. وقد اراد المؤلف معالجة قضية راهنة وقت صدوره ، الا وهي اتجاه بريطانيا للتحول الى دولة متعددة الثقافات ، تعترف لكل سكانها بهوياتهم الخاصة ، وبما يشعرون حقا انهم ينتمون اليه.

 لقد نضج الان هذا المسار ، مما يدل على حكمة النخبة السياسية التي تبنته في بداياته. إلا ان موضوع الوطنية والقومية والهوية الوطنية ، لازال بذاته مثار جدل حتى اليوم. ان قرار البريطانيين الخروج من الاتحادالأوروبي ، مؤشر واضح على صعود التيار الذي يبالغ في الاعتزاز بالذات (وهو ميل ينصرف بالضرورة الى انكماش على الذات).

نعلم ان العوامل الاقتصادية هي التي حددت اتجاه التصويت في استفتاء 2016. لكن ينبغي القول – بصورة عامة – ان المجتمع البريطاني يشهد بالفعل صراعا ، بين من يدعي ان الانجلوساكسونية هي الهوية الوحيدة المعبرة عن بريطانيا  ، وبين طرف آخر يرى ان بريطانيا نموذج للعالم الجديد الذي تلتقي فيه الثقافات والحضارات ، ويتعارف فيه البشر ويتشاركون حياتهم ، مثل نهر كبير تصب فيه عشرات الروافد الآتية من مختلف الجهات.

وقد سبق ان كتبت عن البروفسور ميلر ، وذكرت حينها انه ينتمي الى شريحة صغيرة نسبيا من أساتذة الفلسفة السياسية ، الذين كرسوا جانبا هاما من بحثهم العلمي ، للربط بين النقاشات النظرية المجردة والقضايا المثيرة للجدل في الحياة العامة. والموضوع الذي نتحدث عنه اليوم مثال آخر على هذا التوجه.

 يطرح الكتاب مسالة القومية والوطنية ، من زوايا تضطر القاريء لمساءلة قناعاته السابقة ، وربما إعادة النظر في مفاهيم يعتبرها الناس مسلمات او بديهيات. أراد ميلر تقديم رؤية تجمع بين مباديء الوطنية/القومية ومباديء الليبرالية ، وهو يدعو لما يسمى ب "الوطنية المدنية" او "الوطنية الليبرالية".

الفرضية المسبقة في القومية هي قبول التمايز بين الأمم ، فالمنتمون الى أي أمة يقررون لانفسهم حقوقا لا يتمتع بها أبناء الأمم الأخرى. بينما تنطلق الليبرالية من فرضية ان كافة الحقوق توافقات بين البشر ، وليس فيها ما هو امتياز مرتبط بالولادة او العرق. ان الجمع بين المفهومين يتطلب قراءة ناقدة لكل منهما وتنازلات متبادلة.

نعرف ان مفهوم "الامة" القديم لم يعد قائما الا كعنصر ثقافي ، بينما مفهومها الجديد سياسي/دستوري. المفهوم الثقافي عابر للحدود ، ولا يترتب عليه أي حقوق سياسية ، لأن النظام القانوني للعالم الحديث بني على أرضية اتفاق ضمني ، فحواه أن الحدود الإقليمية تشكل خطوطا فاصلة بين أمم. ومن هنا فان مفهوم "الامة" الحديث ، يطابق مفهوم "الوطن" اي مجموع رعايا الدولة ، ويطلق على الحكومة اسم دولة الامة او الدولة الوطنية او القومية.

ثمة كثير مما يستحق الشرح هنا. لكني اود استغلال هذه المساحة في الإشارة الى افتقار المكتبة العربية لدراسات معمقة في مسالة الامة ودولة الامة ، وندرة البحوث التي تهتم بالمعاني الجديدة للقومية والوطن والمواطنة. اني اذكر بهذا نظرا لشعوري بان العرب من اكثر الشعوب احتياجا الى هذا النوع من الدراسات ، فهم يعانون فعليا من إشكالية العلاقة بين مفهومي الامة والوطن ، ولأن تراثهم الفكري لا يقدم أساسا مناسبا للصيغ الجديدة من هذين المفهومين. وأظن ان افتقارنا لتاسيس فكري وقيمي مناسب لهذه المباديء الكبرى ، يشكل واحدا من أسباب التوتر المزمن ، بين التيارات السياسية التقليدية ونظيرتها التي تتبنى منظورات حديثة.

الشرق الاوسط الأربعاء - 23 جمادى الأولى 1442 هـ - 06 يناير 2021 مـ رقم العدد [15380]

https://aawsat.com/ node/2723741/

مقالات ذات صلة

بين الهند والموصل: اسرار الوحدة والخصام

التنوع في اطار الوحدة

الخلاص من الطائفية السياسية: إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة

شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة الترابكتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

المساواة والعدالة : ديفيد ميلر

من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنةمقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنةتفصيح للاشكاليات

وطن الكتب القديمة

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

 

01/01/2021

مقالات حول المساواة

 

·       "شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

·        فكرة المساواة 

·       الاصلاح من فوق والاصلاح من تحت

·        افكار للاستعمال الخارجي فقط

·       برنارد وليامز : الفيلسوف المجهول

·        التنمية على الطريقة الصينية : حريات اجتماعية من دون سياسة

·       حاشية على سجال قديم

·         حجاب الغفلة ، ليس حجاب الجهل

·       عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

·       العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

·       العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

·       العدالة كوصف للنظام السياسي

·        عودة لمبدأ المساواة

·        فكرة المساواة: برنارد وليامز (دراسة موسعة)

·       قصة المساواة... أولاد يشاهدون مباراة

·       الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

·       مجتمع العقلاء

·        مراجعة لحقوق النساء في الاسلام: من العدالة النسبية الى الانصاف : محسن كديور (دراسة موسعة)

·       المساواة بين الخلق ... المساواة في ماذا ؟

·       المساواة والعدالة : ديفيد ميلر (دراسة موسعة)

·       المساواة: اشكالات المفهوم واحتمالاته:  ايزايا برلين (دراسة موسعة)

·       معالجة الفقر على الطريقة الصينية

·        مفهوم العدالة الاجتماعية

·       من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

·       من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي (دراسة موسعة)

·       نحن مدينون لليسار المكافح

·       هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟


حول حقوق المرأة 

ام عبد العزيز

تحولات التيار الديني - 6 اسلام اليوم بين عالم افتراضي وعالم واقعي

ثوب فقهي لمعركة سياسية

الحكومة ضد الحكومة

دعوة لاستقالة المرأة

رأي المجتمع.. وحقوقه

المضمون السياسي للجدل حول حقوق المرأة السعودية

الوجه السياسي لسد الذرائع

وجهات "الخطر" وقهر العامة

ولي امري ادرى بامري" مخالفة لروح الدين

30/12/2020

من الاجوبة الى النهايات المفتوحة

 

احاول بين حين وآخر تسجيل ملاحظات القراء على كتاباتي ، على أمل التحقق منها او القراءة حولها ثم مناقشتهم فيها. وتقتضي الصراحة القول بأني لم أوفق الا نادرا. فمراجعة تلك الملاحظات ، أثارت في أغلب الأحيان اسئلة جديدة. وهكذا يتوارى السابق في ظل تاليه. ومع الوقت ، بدأت استمتع بالتركيز على الاسئلة المثارة وتوضيح ما يتفرع عنها ، والاطار الموضوعي او النسقي الذي تدور فيه ، ثم ترك الجواب للقاريء ، يبحث عنه ويتأمل في احتمالاته ، ان كان ممن يستهويه التفكر والنظر والتأمل.


اعلم اني كسبت العديد من القراء ، الذين يحبون امعان النظر في الاشياء وملاحقة شوارد الافكار وشواذها. لكن قراء آخرين اظهروا ضيقا بما اعتبروه هروبا من الاجوبة الصريحة. ولعلهم ارادوا فكرة محددة ، هي موقف او مبرر لموقف تجاه القضايا المثارة في المجتمع. بعبارة اخرى فانهم – ان صح هذا الاحتمال - ارادوا كاتبا يجيب على الاسئلة التي يثيرها هو  أو غيره ، لا كاتبا يزيد الاسئلة او يتركها مفتوحة ويمضي.

تجربة التركيز على الاسئلة بدل الاجتهاد في تقديم اجوبة ، أعادتني الى فكرة "النهايات المفتوحة" التي كنت قد تعرفت عليها حوالي العام 2002 ، لكني لم اقتنع بها يومذاك. وفحوى هذه الفكرة ان التقدم ليس مهمة او مجموعة مهام تنجز في وقت محدد ، بل هو مسار مفتوح النهايات ، تتقدم خطوة فتكتشف عوالم اوسع ، تثير فضولك لمعرفة اعلى او اعمق وحاجة لتحديد علاقتك بهذه العوالم المجهولة. العلم مسار مفتوح النهايات ، والاقتصاد كذلك ، والقوة المادية في مختلف تجلياتها مثلهم ، وتطلعات البشر .. وهكذا.

لم اكن مقتنعا بفكرة "النهايات المفتوحة" حين طرحها احد اساتذتي في سياق نقاش علمي حول المفهوم العميق للشراكة المجتمعية. وكانت حجتي يومها ان منتجي الفكر ومروجيه ، عليهم واجب إرشاد الناس وتوجيههم الى الطريق السليم. في المقابل كان الاستاذ يلح على ان الفكرة لا تتطور اذا نقلت من "عقل أعلى" الى "عقل أدنى". وحسب تعبيره فان المفكر او المثقف او الاستاذ ، ليس شرطي مرور يخبر السيارات في اي اتجاه تذهب. انه اقرب الى مدرب فريق الكرة الذي يخبر اللاعبين عن افضل الممارسات في رايه ، لكنه يتكل بشكل شبه تام على ابداعهم الشخصي وتفاعلهم مع بعضهم ، اي ما يدعى روحية الفريق. لو استطعنا خلق تفاعل بين اهل الفكر والجمهور  ، يستلهم "روحية الفريق" ، فالمؤكد ان الفكرة الجديدة سوف تتطور بسرعة اكبر مما لو اشتغل عليها شخص واحد ، حتى لو كان اعلم الناس.

الطريق الطبيعي لتفاعل العقول هو طرح الاسئلة على الناس جميعا ، ودعوتهم للتأمل بحثا عن الاجوبة المحتملة. سوف نفترض ان منتج الفكرة لديه قدرة اكبر من المتلقي. لكن دوره لن يكون التفكير نيابة عن الناس ، واعطائهم اجوبة جاهزة ، بل اقتراح مسارات التفكير وايضاح الاطار الموضوعي والنسقي الذي يدور فيه السؤال.

اعتقد اننا لن نتوصل الى اجوبة نهائية او قطعية. لكن لو شئت الصراحة فاننا لانحتاج اجوبة كهذه. تكفينا معرفة الطريق الذي نسير فيه ، وتكفينا القناعة بان التناسب بين ما نعلمه وما لا نعلمه يماثل نسبة  القطرة الى البحر. لكننا مع ذلك لن نتهم انفسنا بالجهل ولن نتهم عقولنا بالقصور. نحن نجادل عالمنا ونجادل انفسنا ايضا. وكلما مضينا الى الامام اتضح الطريق أكثر ، واتضح مقدار جهلنا بتضاريسه. وهذه بذاتها مرحلة هامة في المعرفة.

الشرق الاوسط الأربعاء - 16 جمادى الأولى 1442 هـ - 30 ديسمبر 2020 مـ رقم العدد [15373]

https://aawsat.com/node/2710756/

مقالات ذات علاقة

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

كتب الطبخ هي الاكثر رواجا في معارض الكتب

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

عودة الى نقاش الدور التشريعي للعقل

شرع العقلاء

عقل الاولين وعقل الاخرين

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

نقاشات "عصر التحولات"

هكذا خرج العقل من حياتنا

شرع العقلاء

 

23/12/2020

في ذكرى محمد شحرور- اسئلة اليوم غير اسئلة الامس

 

مرت علينا هذا الأسبوع الذكرى الاولى لرحيل العلامة محمد شحرور ، المفكر المفسر الذي اطلق موجات ضخمة من النقاش حول مفاهيم استقرت قرونا متمادية.  

غرضي ليس تبجيل المرحوم شحرور ، مع انه جدير به. قد يؤدي تمجيد الاشخاص الى تصنيمهم ، بحيث يمسي عسيرا تجاوز آرائهم. ان قيمة المفكر  رهن بما يفتح من آفاق جديدة ، تمكن المتلقي من تجاوز موقعه في تاريخ المعرفة.

كما لا أنوي تكرار الاراء القيمة للمرحوم ، فهي منشورة ومشهورة. مايهمني حقا هو تفصيح الفكرة التي ربما لم يصرح بها ، لكنها تلوح للمتأمل بين السطور او في النهايات غير الواضحة.

لقد اشرت في مقالات سابقة الى ما ظننته عناصر رئيسية في تفكير المرحوم شحرور ، وبينها باختصار شديد:  أ) ان الحياة تجربة ، و ب) ان الدين يعالج جانبا من قضايا الحياة ، كما ان العلم يعالج جانبا اخر ، والفن يعالج جانبا ثالثا ، وكذا الاخلاق والاسطورة. و ت) ان الانسان – كل انسان – شريك فاعل/متفاعل في تلك التجربة ، في تطوير مساراتها ونتائجها. 

ربما أعود الى هذه المسائل في مقالات لاحقة ان شاء الله. لكني اريد تخصيص ما تبقى من مساحة ، لتوضيح سؤال تكرر كثيرا  في الاشهر التالية لوفاة شحرور ، سؤال: كيف توصل شحرور الى هذه الآراء ، مع ان المئات من مفسري القرآن وعلماء اللغة وغيرهم لم يقل بها قبله. وهذا يستبطن سؤالا خلفيا فحواه: كيف اترك الآراء المتفق عليها ، الى رأي لم يقل به غير شخص واحد؟.

في الجواب على السؤال الخلفي ، ادعو للتمييز بين العقل النظري والعقل العملي. لا ينبغي للإنسان ان يتخلى عما هو مطمئن اليه ، لمجرد انه شك فيه او بدت له رؤية مختلفة. عليه ان يواصل البحث في المستوى النظري ، حتى يوصله الى نتيجة قطعية. عندها سيتوقف كي يقرر: هل يتبع قناعته الجديدة ام يبقى على ما استقر عليه رأي الناس من حوله.  هكذا يتعامل الناس مع أسئلة الدنيا. وفي رايي ان أسئلة الدين لا تختلف عنها.

بالنسبة للسؤال الأصلي ، فالمعلوم ان الزمن شريك رئيس في تكوين السؤال. فالذين بحثوا عن أجوبة في كلام السابقين وجدوا أجوبة تناسب تلك الازمان. وقد لا تكون صائبة في هذا الزمان. من ذلك مثلا: لو كنت في العام 50 للهجرة ، وسألت فقيها او صحابيا: هل بيع وشراء البشر واستعبادهم امر معقول ومناسب؟. سيكون الجواب يومذاك: نعم. لأنه أمر رائج ولم يمنعه الشرع. حسنا.. ماذا لو وجهت نفس السؤال في هذا اليوم لواحد من عامة المسلمين او نخبتهم ، فكيف سيجيبونك؟. هل يخبرونك ان استعباد البشر امر معقول ومناسب؟.

نعلم ان الموضوع لم يتغير ، والاحاديث الحاوية لاحكامه باقية كما هي. الذي تغير هو الاطار التاريخي للسؤال. ولذا بات يشير الى حقيقة غير التي أشار اليها سؤال الامس ، مع ان كليهما صيغ بنفس الالفاظ ووجه الى اشخاص متماثلين في العقيدة.

آمن شحرور ان أسئلة اليوم غير أسئلة الامس ، وكذلك اجوبته. فبحث عن أجوبة القرآن عن أسئلة اليوم ، بعدما غض الطرف عن أجوبة السابقين ، كما غض الطرف عما نقله المعاصرون من أجوبة السابقين. من  هنا جاءت آراؤه وتفسيراته غريبة نوعا ما ، لأنها غير مألوفة بالنسبة لأمثالنا الذين اعتادوا على إسلام الكتب والمدارس. هذا كل ما في الأمر.

الشرق الاوسط الأربعاء - 9 جمادى الأولى 1442 هـ - 23 ديسمبر 2020 مـ رقم العدد [15366]

https://aawsat.com/node/ 2698201/

مقالات ذات صلة

اصلاح المجال الديني

انقاذ النزعة الانسانية في الدين

تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

التدين الجديد

التشريع بين المحلي والكوني

جدالات ما بعد شحرور

سؤال الى البابا

ما الذي يجعل محمد شحرور مختلفا وبغيضا أيضا

ما ينبغي للتيار الديني ان يخشاه

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

المعنوية ، حيث تلتقي جميع الرسالات

المعنى الدنيوي لتجديد الدين

من اللغة الى الرؤية الكونية

من المناكفة الى النهضة

نسبية المعرفة الدينية

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

هكذا تحدث محمد شحرور

 

16/12/2020

في انتظار عيد الميلاد المجيد


الاسبوع الاخير من العام الميلادي هو الاسبوع العالمي للسعادة والسرور. المسيحيون يحتفلون بذكرى ميلاد السيد المسيح ، وغيرهم ‏يحتفل بالعام الجديد.  وبقية الناس يتفرجون على هذا الحراك البهيج ، مسرورين بهذا المهرجان الكوني.‏

أنا واحد من اقلية صغيرة على مستوى  العالم ، اختارت هذه المناسبة على وجه الخصوص ، كي تشغل نفسها بتكرار الجدل القديم الذي عنوانه‏: هل يجوز تهنئة النصارى بيوم الميلاد وسائر الايام التي يتخذونها مناسبات للسعادة العامة؟

اني واثق تماما انكم ستسمعون من يذكركم بهذه المسألة العتيقة في الأسبوع القادم. هذه عادة ابتدعناها ثم استأنسنا بتكرارها في نهاية كل عام. وقد زاد التأكيد عليها خلال نصف ‏القرن الأخير ، حتى بات الواحد منا يظن ان أسلافنا ماكان يشغلهم شيء في مثل هذه الأيام ، سوى التاكيد مجددا على الحدود الفاصلة ‏بينهم وبين جيرانهم المسيحيين.‏

أما الداعي لهذا الحديث ، فهو رغبتي في دعوة القراء الاعزاء للتخلي عن هذه العادة التي رسختها نزاعات السياسة ،  حتى غدت دينا او شبه دين.

والصحيح ان العلاقة بين بني آدم ليست مسألة دينية على الاطلاق. بل هي مسألة اخلاقية بسيطة ، يدرك كل العقلاء موقعها من سلم القيم وحكمها الأخلاقي. كلنا نفهم بالفطرة ان الله خلق البشر كي يتعارفوا ويتعايشوا بالمعروف. وحين يكون جارك مختلفا عنك ، فالاولى ان تداريه وتحسن اليه ، مهما كان دينه او عرقه او لونه. واذا كان عدوا  لك ، فسوف تتباعد عنه كي تتلافى الصدام معه. هكذا يأمر العقل وهكذا يتصرف العقلاء.

ومع وضوح المسالة وكونها من البديهيات ، فليس ثمة حاجة لحكم شرعي. بل لو حكم الشارع فيها على نحو المنع  او الالزام ، لكان تكلفا وقولا زائدا في غير ضرورة. ولو جاء بخلاف حكم العقل ، لانكر العقلاء صدوره عن خالق العباد ، الذي جعل العقل حجة عليهم.

كنت قد أثرت هذه المسألة في وقت سابق ، فسألني قاريء عزيز: اذا كان الامر بهذا الوضوح ، فلم اجتمع الكثير من قومنا عليه؟.

وقد اخبرته يومها ان القائلين بذلك الرأي الغريب أقلية على مستوى العالم. ثم ان التشارك العاطفي جزء من فطرة الله التي فطر الناس عليها. لهذا ترى ان الانسان ينفعل بشكل عفوي ، حين يرى الفرح او الحزن على وجوه الآخرين ، حتى لو لم يعرفهم. بل ان اظهار الشماتة او الفرح في أحزان الآخرين ، ومثله اظهار الحزن في افراحهم ، يعتبره كافة العقلاء علامة للضعة وسوء الخلق ، لأنه نقيض الفطرة والطبيعة الخيرة.

والذي اميل اليه ان ذلك الميل لاستنكار المشاركة في افراح الاخرين واتراحهم ، الدينية منها والدنيوية ، جزء من توجه أوسع محوره الانكفاء على الذات خوف التأثر بالغالب.

زبدة القول ان تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد ، وتهنئة بقية الناس براس السنة الميلادية ، ليست مسألة شرعية ، ولايتعلق بها حكم شرعي ، حتى القول بانها حلال. ولذا فهي ليست مما يطلب فيه رأي الفقيه. ولو سئل وأجاب فجوابه ليس فتوى ، بل حديث في موضوع عام ، لايحتمل الالزام ولا التحريم.

اني أرى في مشاركة الاخرين افراحهم سببا لتعميم السلام والسعادة في الكون. ولذا ادعو كافة القراء الأعزاء لتهنئة معارفهم من غير المسلمين ، في اعيادهم ومناسباتهم ، والتخلي عن تلك العادة التي لايقبلها العقل ولا تنسجم ودواعي الفطرة السليمة.

الشرق الاوسط الأربعاء - 2 جمادى الأولى 1442 هـ - 16 ديسمبر 2020 مـ رقم العدد [15359]

https://aawsat.com/node/2685156

مقالات ذات علاقة

ابعد من تماثيل بوذا

ان تكون مساويا لغير: معنى التسامح

بل التقارب قائم ومتواصل بين السنة والشيعة

تجريم الكراهية

التسامح وفتح المجال العام كعلاج للتطرف

التعايش أو التقارب.. طريق واحد

تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

ثقافة الكراهية

 حقوق الانسان في المدرسة

سؤال التسامح الساذ: معنى التسامح

فرصة لتطبيق ما ندعو اليه

فلان المتشدد

في التسامح الحر والتسامح المشروط

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

في بغض الكافر

كن طائفيا او كن ما شئت .. لكن لا تضحي بوطنك

وجهات "الخطر" وقهر العامة

 

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...