13/01/2004

الاصلاح من فوق والاصلاح من تحت



؛؛ اذا عجزنا عن الاصلاح السياسي الشامل ، فاننا نستطيع البدء بتقنين اغراضه الاساسية مثل اقرار المساواة في شكل قانوني ومؤسسي ؛؛

يمكن البدء بالاصلاح السياسي من تحت كما يمكن ان يبدأ من فوق . سوف تجد بين منظري التنمية السياسية من يجادل دون البدء في تطوير المؤسسات الاجتماعية والادارية باعتبارها اداة النمو وتجد اخرين يشترطون البدء باصلاح القانون الذي يمثل مرجعا لعمل هذه المؤسسات قبل كل شيء . ولعل جانبا من الجدل حول الاصلاح في بلدنا يعبر عن اختلاف في انتخاب اي من المسارين. لكن في كل الاحوال ، فان العزم على الاصلاح ينبغي ان يترجم في اجراءات عملية.

ثمة اهداف للاصلاح المنشود لا يختلف عليها اثنان ، ولناخذ مثلا مفهوم المساواة الذي اقره النظام الاساسي للحكم ويتفق على الدعوة اليه جميع دعاة الاصلاح والمسؤولين الرسميين في الوقت نفسه. من الناحية النظرية المجردة ، فان المساواة بين الناس هي قيمة ثابتة ومركزية في الشريعة الاسلامية ، وهي العنصر الاساس في منظومة حقوق الانسان التي ينادي بها عقلاء العالم . لكن هذا المفهوم النظري لا يمكن ان يحقق غايته الا اذا تحول الى اجراءات قانونية وتنظيم مؤسسي له وجود ملموس وفاعل في الحياة اليومية لعامة الناس.

بين القبول بالفكرة وممارستها ثمة مسافة لا يمكن قطعها الا بمركب ملائم ، وهذا المركب هو منظومة العمل القادرة على التعاطي مع المشكلة التي يعالجها ذلك المفهوم النظري. اهمية هذا المركب تظهر ايضا باستذكار ما اظنه ميلا عاما لدينا الى الاحتماء بالمجردات للهروب من مواجهة الوقائع. اذا اتهمنا احدهم بالتمييز ضد النساء او الاقليات مثلا ، فسوف نسارع الى القول بان الاسلام ساوى بين الناس منذ اربعة عشر قرنا ، وان الاسلام كرم المرأة ..الخ ، ونحسب ان هذا القول يجيب على ذلك النقد فنرتاح . بديهي ان لا علاقة لجوابنا بالنقد من قريب ولا بعيد ، فالناقد لا يتكلم عن الاسلام او تعاليمه ، بل عن ممارساتنا الاجتماعية او السياسية. وهذا يبين ان الايمان بالمفهوم المجرد لا يعالج مشكلة. نحن اذن بحاجة الى منظومات العمل التي تكفل تحويل المفهوم الى ممارسة مادية.    

لا يخلو بلد في العالم كله من بعض اشكال التمييز ، ولهذا فلا ينبغي ان نشعر بالحرج اذا ما تحدثنا عن ظواهر تمييز في بلادنا ، كما ان ظرف الانتقال الى الحداثة الاجتماعية والاقتصادية ، يولد بدوره ظواهر كثيرة للتمييز بين الناس يتخذ صورا شتى بعضها جميل المظهر . وفي مثل هذه الحالة فمن الواجب ان يكون لدينا وسائل لحماية اولئك المتضررين ، وهم في العادة ضعفاء القوم . في المملكة المتحدة مثلا اقامت الحكومة (هيئة المساواة العرقية) وهي هيئة رسمية لكنها تتمتع باستقلال قانوني ، على رأسها شخصية بارزة من الاقليات التي تتعرض للتمييز ، وبين اعضائها هناك من يمثل النساء والسود والاسيويين والمسلمين .  قامت هذه الهيئة باستصدار قوانين تجرم التمييز في الوظائف ، وهي تستقبل الشكاوى من الافراد والجماعات التي تدعي تعرضها للتمييز ، وتسعى لحلها من خلال القضاء والاعلام والمؤسسات السياسية، كما وضعت برنامجا لزيادة حصة الاقليات في جهاز القضاء والشرطة والاعلام والبرلمان والوزارة.
يوضح هذا المثال كيفية تحويل المفاهيم النظرية للاصلاح الى اجراءات عملية ، تساعد صاحب القرار من جهة وتوفرللمواطن الوسيلة التي يحقق من خلالها حاجاته من الجهة الاخرى.

خلال مناقشات جرت في العام المنصرم ، اقترح بعض السادة تشكيل لجنة وطنية من هذا النوع يمكن ان تكون استشارية او توجيهية ، وقال بعضهم ان لجنة حقوق الانسان التي وافق المقام السامي على تشكيلها سوف تقوم بهذا الدور ، لكني اجد المسألة اكبر من لجنة حقوق الانسان المقترحة ، ولعل من المفيد تشكيل هيئة مستقلة. ثمة من ينفي وجود اي نوع من التمييز في بلادنا ، وربما تكون دعواه صحيحة ، وهناك من يشكو من تعرضه للتمييز ولا يمكننا ايضا رد دعواه ، ان هيئة متخصصة ستكون اقدر على تمييز خيط النور. 
بالامكان اذن المبادرة في الاصلاح الهيكلي  حتى تنضج امكانات الاصلاح القانوني ، "الاصلاح من تحت" يوفر نفس الفوائد المبتغاة من "الاصلاح من فوق" . ما نحتاجه في المقام الاول هو النظر في تحويل المفاهيم التي نتفق عليها مجردة الى منظومات عمل يلمسها كل مواطن.

عكاظ 13 يناير 2004

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...